يتلقى معظم تلاميذ العراق، وهم يفتتحون العام الدراسي الجديد، تعليماً سيئاً، والسبب انتشار الفساد في المدارس الحكومية التي تضم العدد الأكبر منهم، وهو فساد يتخذ وجوهاً عدة.

"سجّل ابنك في مدرسة خاصة وتخلص من وجع الرأس" تلك هي النصيحة المثلى التي يقدمها عراقيون يدرس أولادهم في المدارس الخاصة، لآخرين يعانون من مشاكل عديدة تواجه أبناءهم في المدارس الحكومية. لكن ما الذي يفعله الفقير غير القادر على تحمل الكلفة الباهظة للمدارس الخاصة؟ الجواب يأتي من ذوي الخبرة، وهو أن يبحث أهل التلميذ عن مصدر دخل آخر، فمستقبل أطفالهم يستحق التعب، وإلاّ فليتقبلوا المعاناة على مدار العام الدراسي، الذي قد ينتهي برسوبه، فضلاً عن إنفاقهم مبالغ قد تصل إلى نصف ما يدفعه آخرون في المدارس الخاصة، تذهب إلى خانة الدروس الخصوصية.

كلّ عام، مع اقتراب العام الدراسي، يخوض أولياء أمور التلاميذ في سجال طويل، لا ينجو منه غير الميسورين، ممن لديهم إمكانيات مادية تسمح لهم بتسجيل أبنائهم في المدارس الخاصة. ويترافق تسجيل الأهل لأبنائهم وبناتهم في مدارس حكومية مع رحلة خوف وقلق من احتمالات الاعتداء أو الخطف أو الابتزاز، بالإضافة إلى ضعف التعليم. مرافقة أولياء الأمور لأبنائهم وبناتهم في ذهابهم إلى المدارس ومجيئهم منها أصبح لافتاً، ولم يكن معروفاً قبل عام 2003. تعلل سندس بدر، المتخصصة في الإرشاد النفسي في إحدى مدارس العاصمة بغداد، أنّ الأحداث التي عاشتها العائلات العراقية تحتم عليهم الخوف على أبنائهم وبناتهم، مشيرة إلى أنّ "عمليات القتل والخطف ما زالت ترعب العائلات حتى مع الاستقرار الأمني الواضح الذي شهده بلدنا". تقول لـ"العربي الجديد": "هذا الخوف سيستمر طويلاً حتى وإن استقرت الأوضاع بشكل تام. عملي يحتم عليّ أن أكون على تماس مع أولياء أمور التلاميذ. هم قلقون جداً، وكثيرون يطلبون منا عدم السماح لأبنائهم وبناتهم بالخروج من المدرسة حتى يحضروا هم بأنفسهم".



تمركز ميليشيات وعصابات منظمة، أغلبها يتكون من مجرمين هربوا من السجون بعد فتحها بالكامل نتيجة الانفلات الأمني الذي عرفته البلاد بعد الغزو، هو ما أدى إلى انتشار الجرائم المختلفة، وما زال يجدد الرعب في نفوس العراقيين، خصوصاً أنّ هذه الفرق المسلحة تعاملت بدموية مع المواطنين في فترة العنف الطائفي التي شهدتها البلاد في الفترة من 2005 إلى 2009. في ذلك الحين، ظهرت عصابات تختص بخطف الأطفال والشباب في مقابل ابتزاز ذويهم لدفع فدية مالية لإطلاق سراحهم، وعصابات منظمة أخرى كانت تعمل على الخطف وسرقة أعضاء من جسم المختطف للمتاجرة بها، فضلاً عن استغلال المختطفين الصغار في عمليات تسول وبيعهم، بالإضافة إلى تهريب مختطفات إلى خارج البلاد لتشغيلهن في الدعارة.

"الأمان مفقود" تقول نداء حامد، التي تتقاسم مع زوجها أعباء إيصال الأطفال إلى مدارسهم وعودتهم منها يومياً، مضيفة لـ"العربي الجديد" أنّ "العام الدراسي فترة قلق مستمرة لي ولزوجي. في الصباح أرافق الأطفال إلى مدارسهم ثم أذهب إلى عملي. ابنتي الكبرى تدرس في الثانوية وابناي في الابتدائية. عند الظهر يقطع زوجي وهو موظف في شركة خاصة، عمله لإرجاع أولادنا إلى البيت ثم يعود إلى عمله، قبل ساعتين من وصولي". تتابع: "ما زالت هناك عمليات خطف وإن تضاءلت، فالحكومة لم تبسط الأمن جيداً بعد، لذلك لا نأمن على أولادنا إن تركناهم يذهبون إلى المدرسة ويعودون منها بمفردهم، ولا نتمكن من دفع أجرة سيارات خاصة تقلهم".

الملازم في شرطة بغداد أحمد الهاشمي، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "العام الدراسي موسم المشاكل عند الشرطة؛ إذ ترد بلاغات يومياً عن شبان يضايقون تلميذات في الشارع، أو مشاجرات بسبب التحرش بعضها يصل إلى حدّ الإصابات الخطيرة، فيما تصل بعض الحالات إلى المحاكم وتؤدي إلى أحكام بالسجن".




ليس الأمان وحده المشكلة التي تواجه العراقيين عند بدء الدراسة، فضعف التعليم واكتظاظ الصفوف بالتلاميذ لهما نصيب من المشاكل. من المستغرب لدى المتابع للشأن العراقي أن يستعين تلاميذ الابتدائية بالدروس الخصوصية وهو ما فتح باباً أمام المعلمين لزيادة مداخيلهم، والسبب ببساطة يعود إلى ضعف جودة التعليم الحكومي. وتنتشر في أحياء المدن بالعراق ملصقات دعائية، مرفقة بأرقام هواتف، تعلن عن معلمين متخصصين في تدريس مواد محددة للصفوف الابتدائية.

من جهتهم، يؤكد عدد من المعلمين ممن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم، أنّهم يقدمون في المدارس حصة كاملة للتلاميذ، ويؤدون واجباتهم، لكنّ هناك من لا يستوعبون الدروس ويكونون في حاجة إلى دروس خصوصية. يؤكد الخبير التربوي، علي الجبوري "الفساد الكبير" في العملية التعليمية في البلاد. يقول إنّ جهات حزبية هي التي تديرها وتتربح من ورائها، والسبب بحسب قوله "المحاصصة الطائفية التي أوقعت العراق في كوارث لم يشهدها في تاريخه".

يقول لـ"العربي الجديد" إنّه من خلال عمله يدرك "مستوى الانحطاط الكبير الذي يشهده التعليم في العراق" محذراً حكومة بلاده من "تدهور أكبر وتفشٍ للتخلف بين صفوف حملة الشهادات في المستقبل إن لم يصلح الوضع". يوضح: "نسبة كبيرة من الجيل الجديد من المعلمين لا يستحق أن يتولى هذه المهنة المهمة، والسبب في هذا هو التراجع الكبير الذي شهده التعليم في العراق، وعدم المحاسبة لمن يقصّر في أداء واجبه. هناك معلمون لا يؤدون واجباتهم بالشكل المطلوب لأجل إجبار التلميذ على أخذ دروس خصوصية... وهذا باب من أبواب الفساد".



تُتهم الحكومة العراقية بوجود فساد كبير في إداراتها أدى إلى عرقلة مشاريع بنى تحتية مختلفة من بينها بناء مدارس جديدة تلبي ارتفاع عدد التلاميذ، المبني على ارتفاع عدد السكان، لا سيما أن أغلب المدارس تشهد دوامين أو ثلاثة دوامات حتى. وهناك مدارس مبنية بالطين في مناطق الأرياف وأطراف المدن. وكان من المقرر أن تبنى مدارس حديثة لتنهي مشكلتي تعدد الدوامات والمدارس الطينية.

وفقاً لما أثير من قبل جهات سياسية حول ملفات الفساد الحكومية التي شملت مشاريع بناء وتأهيل المدارس، فقد أنفق العراق منذ عام 2003 أكثر من 22 مليار دولار أميركي على قطاع التعليم الأساسي، وتُعتبر مشكلة المدارس الطينية من أبرز ملفات الفساد، إذ جرى تخصيص ميزانية لبناء مدارس حديثة وإزالتها، لكن ما زال هناك أكثر من 2000 مدرسة طينية بالعراق. وتواجه وزارة التربية العراقية العديد من ملفات الفساد أهمها "فضيحة المدارس الحديدية" التي استولت من خلالها شركة إيرانية على نحو نصف مليار دولار، من دون أن تنجز أيّاً من تلك المدارس.

من جهته، يقول غيث النصراوي إنّه يقضي وقتاً طويلاً في اليوم لمتابعة واجبات أولاده المدرسية، لكنّه يضطر إلى الاستعانة بمعلمة "خصوصية" في بعض الدروس. النصراوي أب لتلميذين في الثانوية، وثلاث تلميذات في الابتدائية، يقول إنّ ما يهمه أكثر هو أن تنال بناته الثلاث تعليماً جيداً لأنهن في مرحلة دراسية أولى ويتوجب أن يدرسن على يد معلمة متخصصة، أما الولدان فهو يتكفل بتدريسهما في المنزل. يضيف لـ"العربي الجديد": "التعليم في المدارس الحكومية ضعيف جداً، فضلاً عن اكتظاظ الصفوف، فهناك خمسون تلميذة في صف واحد، هذا الأمر يجعل القدرة على الاستيعاب في الابتدائية صعبة للغاية".




كل هذه المشاكل لا تواجه العائلات الثرية هي التي يحظى أبناؤها بتعليم في المدارس الخاصة، التي يطلق عليها العراقيون المدارس الأهلية. في هذه المدارس لن يشقى أولياء أمور التلاميذ عادة، كونهم يدفعون المبلغ الذي تفرضه هذه المدارس فيحظى التلاميذ بنظام تعليمي حديث، وصفوف نظامية غير مكتظة، ودرجة عالية من الأمان، ونقل من البيت إلى المدرسة وبالعكس. جمال الوندي، الموظف في وزارة الصحة، لا يسعفه راتبه لإدخال ابنه إلى مدرسة خاصة، لكنّه قرر أن يبذل كلّ ما في وسعه لإدخاله، بعدما أمضى ابنه السنة الابتدائية الأولى في مدرسة حكومية. يقول لـ"العربي الجديد": "نقلته بعدما اكتشفت أنّه تعليم غير مجدٍ في المدارس الحكومية". فكيف يتدبر الرسوم؟ يقول: "بتّ أعمل في تحضير النراجيل في مقهى، حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، فأعود بعدها لأنام خمس ساعات ثم أنهض إلى وظيفتي. أبذل جهداً كبيراً يومياً، وكلّ ذلك في سبيل تلقي ابني تعليماً جيداً".