في كل التجارب التاريخية ثمة رصيد ثابت للطبيعة الإنسانية في مستوياتها التعبيرية المختلفة...

إن الإنسان -وهو يعيش إنسانيته- ليس نسقًا واحدًا مضطردًا بطريقة آلية؛ بل هو مزيج مركب من العناصر والتناقضات التي تجعله يعيش-إلى حد كبير- قدرا كبيرا من التوتر والصراع داخله بين القوى المختلفة... كما أنه بهذا الكيان المركب - يواجه الحياة الخارجية التي تخضع -هي أيضا- لنمطية متدافعة بين قوى الخير وقوى الشر....

فثمة توتر في داخل الإنسان وثمة تدافع بين الإنسان ونوعية الحضارة التي يبدعها الإنسان....

ومن البدهيات أن هذا التوتر -في الداخل أو مع الخارج- هو نفسه الطريق لإبداع الحضارة.... إذ السكون المطلق هو الطريق الطبيعي للجمود والموت....

وكل ما تصنعه المبادئ الرفيعة في رحلة التاريخ -وعلى رأسها الإسلام- أنها تجعل الإيقاعات المتنافرة متناغمة، وأنها تحول دون أن تقضي الشوائب والسلبيات على نهر الحياة الإنسانية... فيبقى الشر -وبخاصة في مراحل الازدهار- محصورًا في جوانب قليلة، وفي دائرة الشذوذ، بينما يمتد الخير إلى معظم المساحة الإنسانية،. ويمثل -بالتالي- قاعدة الحياة الإنسانية، إن المجتمع الذي لا أخطاء فيه ليس إنسانيًا، ومثل هذا المجتمع لا يوجد -ولا يمكن أن يوجد- في التاريخ البشري والفترة التي وجد فيها الأنبياء- عليهم السلام- ولاسيما في لحظات انتصارهم، وسيطرة مبادئهم هي أعلى المراحل التي يمكن أن تصل إليها البشرية...

إنها المثال الذي تضعه العناية الإلهية في ((نموذج تاريخي)) واقعي لكي تبقي البشرية متفائلة مقاومة للشر، متوترة، ساعية إلى الوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من هذا المثال الحي الواقعي.

وليس في طوق الطبيعة الإنسانية أن يقوى الناس جميعًا -أو أكثرهم- على الوقوف في القمة والتشبث بمواقع البطولة والمثال.

إن سحرة فرعون الذين قالوا عندما تألقت الحقيقة في ضمائرهم ((آمنا برب العالمين)) [الأعراف: 121].

وفاجأوا فرعون بإعلانهم: ((إنا إلى ربنا منقلبون)) [الأعراف: 125]، غير عابثين بتهديده الرهيب: ((فسوف تعلمون* لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين)) [الأعراف: 123-124].

إن هؤلاء السحرة قد ارتفعوا في لحظة من التاريخ إلى أعلى ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تصل إليه، وليس لنا أن نتوقع أن يكون كل الناس مؤهلين لهذا الارتفاع، ولا لهذا القدر من التضحية الرائعة، ومن التفاني في الحق المتألق....

كما أنه ليس مطلوبًا من كل الناس أن يكونوا في مستوى أبي بكر الصديق؛ الذي يتبرع بكل ماله.. إن أبا بكر مجرد (نموذج للمثال)، أما المستوى المتناغم مع الطبيعة البشرية فهو المستوى الذي حدده الرسول -عليه الصلاة والسلام- عندما منع (سعد بن أبي وقاص) من أن يتصدق بكل ماله؛ بل رضي له ما هو أقل من ذلك؛ حتى يذر ورثته أغنياء لا يتكففون الناس، حسبه أن يهب ثلث ماله... بل إن الثلث كثير!!

ونموذج الأنصار الذين منحهم القرآن أرفع درجة في التاريخ -الإيثار بالمال والأرض- وهو أيضا مجرد نموذج للمثال الذي يقدم أروع صورة بشرية أن تقترب منها، وليس شرطًا أن تكون في مستواها، فيصبح كل مسلم قادرًا أن يقول لكل مسلم: انظر أي مالي أطيب فخذه، أو انظر أي زوجتي شئت فأطلقها لتتزوجها...!! إن هذا المستوى ليس هو المستوى العادي للطبيعة البشرية... إنه الومضات الإنسانية؛ التي تمثل أعلى ما يمكن أن يصل إليه البشر... إنه مستوى القمة والمثال...

وليس من الموضوعية؛ أن يحاكم التاريخ البشري بأقوى وأكبر مما تطيقه الطبيعة البشرية... وحتى القوانين الوضعية ترفض هذا المقياس؛ لكن بعضها -مع الأسف- تتدنى فتهبط خضوعًا للضعف البشري إلى مستوى تقنين هذا الضعف، وجعله في نطاق الجائز، بدلا من أن يدعم جانب مقاومته لتصعد به إلى المستوى المنسجم مع الطبيعة البشرية، تلك الطبيعة التي لا يجوز لها أن تستسلم لصور الضعف، وتقبل تحويلها من دائرة الشذوذ إلى دائرة القاعدة، ومن جانب الخطأ إلى جانب الصواب!!

وأحرى بمنهج دراسة التاريخ وتفسيره؛ أن يلتزم هذه العدالة في التقويم، وأن يضع في وعيه التصوير الموضوعي للإنسان كله، بكل قوته وضعفه، وبكل العناصر التي ركب منها.

إن محاولة رفع بعض عصور التاريخ إلى درجة فوق مستوى البشر وطاقة البشر، بهدف التدرج من هذا الارتفاع إلى محاسبتها بميزان غير بشري، ومطالبتها بأن تكون متجردة من كل النوازع البشرية، ومن كل ما يجوز على البشر... إنما هي مؤامرة لتشويه هذه العصور (!!) والعلمانيون يستثمرون هذه المؤامرة!! بهدف مسبق هو تشويه تاريخنا الإسلامي، ورجاله العظماء، ودوله العظيمة.

إننا نوافق بالطبع؛ بل نحن نؤمن، بضرورة أن تكون بعض عصور التاريخ، وأن يكون بعض صناع الحضارات العظمى، بعيدين عن التدني إلى المستوى العادي في الأخطاء، وبأن يكون لهذا المستوى الرفيع تعبيره الخاص عن بشريته بما ينسجم مع القمة التي يمثلها... ونحن نستطيع في ضوء هذا الوعي تحليل بعض التصرفات التي تعزى إلى هؤلاء تحليلا مناسبا لمكانتهم؛ لكن تجريدهم من المستوى البشري -بإيجابياته وسلبياته واجتهاداته العقلية والسلوكية الصحيحة والخطأ أو المعيبة- ووقوعه تحت ضغوط أو ردود أفعال ومؤامرات؛ إنما هو أسلوب غير موضوعي وغير صحيح!!

ولقد سقط كثيرون -سقوطا منهجيًا في الأساس- عندما تعاملوا مع تاريخنا، غير مسلحين بهذه الرؤية التاريخية الإنسانية الموضوعية... وسواء كان الأمر عن حسن نية، أو سوء قصد، فقد انتهى كثير من هؤلاء، نتيجة فساد منهجهم.

د: عبد الحليم عويس