أوزبكستان جوهرة آسيا الوسطى.. وموئل حضارات ملأت الدنيا

أينما اتجهت في هذه البلاد تصافحك شواهد التاريخ العريق، وروائح معتقة لخانات وأسواق كانت موئل تجار قوافل طريق الحرير الشهير، من هنا مرت جيوش وقوافل وأمم وأعراق شتى وهنا شيدت حضارات ملأت الدنيا وشغلت الناس من ذلك التمازج المتناغم بين الثقافات، ولعل تاريخ هذه البلاد يدحض ببساطة رجل الشارع العادي فكرة «صدام الحضارات» وصاحبها هنتنجتون ليستبدلها بتصالح وتلاقح الحضارات وتمازجها الثري، وشواهد هذا الالتقاء على قيم الخير والمحبة والإبداع كثيرة ومؤثرة ومبهرة تتوزع على مساحة هذه البلاد المترامية الأطراف.
تقع جمهورية أوزبكستان في قلب آسيا الوسطى.. وهي بكل المقاييس أهم دولة في منظومة الجمهوريات التي استقلت حديثاً عن الاتحاد السوفييتي. تبلغ مساحتها 478 ألف كم2. تحدها شمالاً كازاخستان وبحر آرال وجنوباً طاجيكستان وأفغانستان وتركمانستان وشرقاً قرقيزيا وطاجيكستان وغرباً تركمانستان وكازاخستان. تتألف أوزبكستان من مرتفعات جبلية في الجزء الجنوب الشرقي تهبط تدريجياً كلما اتجهنا نحو الشمال الغربي حتى تصل إلى صحراء كزل كوم وسهل طوران الذي تتقاسمه مع كازاخستان. وتمتد أوزبكستان شرقاً بلسان أرضي طوله (500) ميل وعرضه (20) ميلاً داخل طاجكستان وقرقيزيا. ويجمع الخبراء على أن سهول أوزبكستان من أغنى وأخصب السهول في العالم.
تحتل أوزبكستان موقعاً استراتيجياً هو الأول من نوعه في المنطقة، إذ تلتف حولها كل دول آسيا الوسطى: تركمانستان وطاجكستان وقرقيزيا وكازاخستان، ويمر فيها نهرا سيحون وجيحون، وتتحكم ببحر آرال مع كازاخستان، وبهذا المعنى فهي تملك موقعاً استراتيجياً في هذه المنطقة. أما السكان: فيصل عددهم إلى اثنين وعشرين مليون نسمة. تتميز اوزبكستان بتنوع عرقي وثقافي مدهش اثرى حضاراتها العريقة التي سادت لقرون فوق أراضيها وعرقيا يمثل الأوزبك 57% من السكان، والروس والأكران 10% وبقية الأقليات خاصة الكازاخ والقرقيز والتتار يشكلون حوالي 15%، وهناك أقلية عربية في مدينة (عربخانة) عددها حوالي 50 ألف نسمة.
انخفض عدد السكان في الماضي بتأثير المذابح الجماعية التي قام بها الروس ضد الأوزبك فوصل عدهم عام 1926م إلى 9 ,3 ملايين فقط. وقد فرّ كثير منهم إلى تركستان وأفغانستان وبقية المناطق المجاورة. ولكن نسبة زيادة السكان التي تبلغ سنوياً 3 ,2% أعاد للمنطقة طابعها الإسلامي من الناحية العددية. الأوزبك شعب مشهور بتدينه ومحافظته ودماثة خلقه وكرمه وترحيبه بالغريب منذ القدم، وله تاريخ مجيد مرصع بالماثر العظيمة التي قام بها علماؤه ومفكروه. لا يقتصر وجود الأوزبك على أوزبكستان وحدها وإنما يمتد إلى الدول المحيطة بها من أفغانستان إلى حدود الصين، ويصل عددهم إلى حوالي نصف عدد شعوب المنطقة مجتمعة. وهكذا تحتل أوزبكستان الموقع الديموغرافي الإثني الأول في آسيا الوسطى.
ومن أهم مدن اوزبكستان طشقند: وهي العاصمة منذ العام 1930م، يسكنها (5, 2) مليون نسمة نصفهم من الروس. ترتفع (500) متر عن سطح البحر. تعاني من الزلازل والحركات الأرضية بين الفينة والأخرى. تقع على أحد روافد نهر سيحون، فيها الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى برئاسة المفتي. وتعتبر طشقند وسمرقند وبخارى من أقدم مدن المنطقة، وهي تعطي التاريخ الإسلامي معناه الأبرز، هنا ازدهر الإسلام ومن هنا توسع وانتشر.
وتعتبر سمرقند: هي العاصمة التاريخية لأوزبكستان حتى العام 1930م، عندما نقلها الروس إلى طشقند وذلك لمظهرها الإسلامي الصارخ والضارب في عمق التاريخ. الروس فيها أقلية فهم لا يطيقون السكن فيها. كثيرة المساجد والآثار والبساتين، عمرها (2500) سنة، كانت مركز الصغد وعاصمة تيمورلنك، تقع على نهر سيحون وسط البلاد، شعبها متدين رفض الروسنة، مشهورة بكثرة مزاراتها فهي تضم رفات عدد كبير من الصحابة الذين استشهدوا في تلك الديار مثل (قثم بن العباس بن عبد المطلب) الذي يقال انه استشهد في فتح بخارى.
خيوة: وهي مدينة خوارزم وتقع في أقصى الغرب على الحدود مع تركمانيا، يغلب عليها الطابع الشرقي الإسلامي منذ كانت عاصمة لدولة خوارزم. لم تسقط المدينة في أيدي الروس إلا عام 1924م أي بعد الثورة الشيوعية بسبعة أعوام. وهي مدينة تاريخية اشتهرت عبر التاريخ بعلمائها كالبيروني ومحمد بن موسى الخوارزمي واضع علم الجبر ومبتكر علم اللوغاريتمات والإمام الزمخشري صاحب تفسير الكشاف.
بخارى: مسقط رأس إمام الحديث البخاري رضي الله عنه، هدمها جنكيزخان وأعاد بناءها تيمورلنك ثم حكمها الأوزبك من عائلة (بني منغيت) وهم قوم علم وجاه حتى سقطت في أيدي الروس عام 1921م. تقع في الجنوب الغربي على ضفاف نهر (أفشان) وهي مدينة شرقية إسلامية تُعد واحة كبرى تحيط بها أرض قاحلة. ترمذ: وقد اشتهرت عبر التاريخ الإسلامي بمدارسها ومعاهدها، وأشهر من نبغ فيها الأمام الترمذي.
ومن الأقاليم المشهورة إقليم صوغنيان وهو أول ما يصادفنا من بلاد ما وراء جيحون في جنوب أوزبكستان. عاصمة الإقليم مدينة صوغنيان فتحها قتيبة بن مسلم الباهلي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. أنغرن ولينسيك: مدن صناعية حديثة ذات طابع غربي يكثر فيها الروس. ومن المدن الحديثة أيضاً: بيكاباد وشيرشك ونافوس.
أهلا بكم في بخارى
احتلت بخارى مكانة جغرافية جديرة بالاهتمام في نظر العرب المسلمين الفاتحين، وذلك لقربها من خراسان، فكانت لها مكانة فريدة تبوأتها بين سائر مدن وأقاليم آسيا الوسطى بصورة خاصة، وأقاليم الشرق بصورة عامة، فمنها كانت تمتد الطرق جهة الشرق حيث سائر بلاد الترك، ومن خلالها نفذ التجار منذ القدم، ولما نجح المسلمون الأوائل في فتح بخارى انطلقت عقيدة الوحدانية في ظل المكانة التي تبوأتها هذه المدينة تشق طريقها إلى ان بلغت آفاق الشرق بعد فترة من الوقت مضت على ذلك الفتح المبارك.
وقد أسهم عاملي العقيدة الإسلامية والجغرافيا في الدور التاريخي المهم الذي لعبته بخارى في نشر الإسلام والحضارة الإسلامية على مدى فترة زمنية طويلة الأجل الأمر الذي يعكس مدى اهتمام الحكام المسلمين بهذا الإقليم، ورغبة الكثير منهم في جعل هذه المدينة عاصمة لدولته. اما عن سبب تسميتها فيذكر الجويني انه كان يوجد ببخارى معابد للبوذية، وأورد ما يفيد ان بخارى مشتقة من (بخار) وهي بلغة (المعان) رجال الدين الزرادشت تعني (مجمع العلوم)، رواية أخرى تقول ان الاسم مأخوذ من أصل سنسكريتي من كلمة (فيهار) وتعني الصومعة أو الدير.
وهذه المدينة أنجبت الإمام البخاري إمام المحدثين وصاحب الجامع الصحيح للحديث النبوي الشريف الذي يعتبر اصح كتاب بعد القرآن الكريم، ولو لم تنجب أحدا غيره لكفاها ذلك فخرا، كما أنجبت الإمام بهاء الدين النقشبندي الذي يعتبر قطب الطريقة الصوفية النقشبندية التي انتشرت في العالم الإسلامي، وكانت في القرن العاشر والحادي عشر عاصمة لدولة السامانيين، وفي القرن السادس عشر أصبحت عاصمة لدولة الخاناتت. وقد نفت القوات الروسية الغازية آخر أمير لبخارى من الخانات عند دخولها المدينة عام 1920 م، وأعلنت حينها بخارى جمهورية مستقلة.
في عام 1925 م أعيدت بخارى إلى الوطن الام جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفييتية. وأعلنت منظمة اليونسكو ان مركز المدينة يعتبر من المواقع المعمارية التي تحظى بحمايتها. يوجد في بخارى أقدم الآثار الإنسانية التي تعود إلى 2500 سنة، ولعل من أبرزها وأقدمها آثار قلعة اراك.
قلعة اراك
هذا هو حصن بخارى المسمى حصن (اراك) أو السفينة، وهو مسكن حكامها من الخانات، وحسب آخر الحفريات الأثرية فان القلعة قد شيدت في هذا المكان في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد بنيت فوق تلة صناعية ترتفع 20 متراً عن مستوى سطح الأرض. وقد تعرضت الاراك على مدى تاريخها لفترات من البناء والتخريب ثم الترميم والإضافة، بنيت أجزاؤها العليا في عهود آخر أمرائها من الخانات. الجزء الخشبي من السفينة أو القلعة دمره حريق نشب فيها عام 1920م.
يذكر النرشخي في كتابه تاريخ بخارى انه وطبقا لإحدى الاساطير التي تتحدث عن تاريخ بنائها تشير إلى انها تهدمت بعد ان بناها (بيدون بخار خداه) فأعيد بنائها فانهدمت وهكذا مرارا حتى استجمع الحكماء أمرهم وصار الاتفاق على ان تبنى الاراك على سبعة عمد حجرية على شكل بنات نعش التي في السماء، استقامت بعدها هذه القلعة، ولم يهاجمها ملك من بعد إقامة هذه الأساطين الحجرية السبعة الا وهلك عند أسوارها، فلم تهدم على تلك الصورة بل لم ينهزم فيها ملك، ولم يمت فيها احد أيضاً من الملوك.
وكان أول من بناها في بخارى سياوش بن كيكاوس، وفضلا عن أهميتها الدينية، فقد كان في داخلها إلى جانب القصر الملكي الدواوين المالية وبيت الحريم والسجن والخزانة. كما يوجد بداخلها شوارع وزعت عليها المنازل الخلفية، وساحة المحاكم ودواوين الدولة الرسمية، ثم سكن الأقرباء والمسؤولون من الوزراء والقواد وكبار رجال الدولة. كما يوجد فيها إدارة الشرطة وقاعة السجن وكانت تستخدم لاحتجاز المذنبين، وغرف للإدارة واسطبلات الأمراء ومخازن الملابس والسجاد ومستودع الأواني والكنوز، وورش الجواهرجية ومساجد وأضرحة وغرف أخرى كانت تستخدم لشتى الاستعمالات.
منارة كاليان
تقع منارة كاليان، وكاليان تعني القاعدة العظيمة حيث كانت تستعمل ليس لرفع الآذان للصلوات الخمس فقط، بل كانت تعبر عن قوة وعظمة السلطة الروحية التي امتازت بها مدينة بخارى في ذلك الوقت، وتقع المئذنة على طريق الأسواق الأربعة في قلب بخارى القديمة، وهي عبارة عن برج اسطواني الشكل بارتفاع 45 متراً ترتفع قاعدته 9 أمتار ويرتفع برجه الأعلى 6 أمتار عند القمة، يمكن الصعود إلى السطح عن طريق سلم مكون من 104 درجات يقود إلى الأعلى من ممر يوجد في المسجد المجاور.
والمئذنة جزء من مجمع مبان هي عبارة عن مسجد كاليان نفسه الذي تعد هذه المئذنة احد أهم معالمه، ومدرسة مير عرب (أو الأمير العربي) وقد وقد شيدت هذه المئذنة عام 1127 م من قبل المعماري باكو. اما مسجد كاليان فقد شيد في القرن السادس عشر الميلادي في بدايات حكم الشيبانيين، ومنذ ذلك الحين والى العهد السوفييتي اعتبر مسجد كاليان هو المسجد الجامع الذي كانت تقام فيه صلاة الجمعة في بخارى.
وقد حل محل المسجد الجامع القديم الذي شيده القرخانات في القرن الثاني عشر، وقد عاصر العمل في هذا المسجد الذي شيده الشيبانيون مسجدي الجمعة اللذين شيدهما الأمير تيمور في سمرقند وهراة. ويحوي مسجد كاليان اربع (ايوانات) الايوان الرئيس يطل على ساحة (بوي ـ كاليان) بمدخل مقوس ترتفع فوق بناء المسجد 288 قبة صغيرة والمسجد مزين بالموزاييك الملون وبالنقوش والآيات القرآنية التي كتبت بالخط العربي.
يقابل مسجد كاليان مبنى مدرسة مير عرب، وتعد من أهم الجامعات التي أثرت الحضارة العربية الإسلامية بما قدمته من إسهامات أساتذتها ومفكريها العلمية وقد شيدت في عصر الشيبانيين أيضاً في القرن السادس عشر أنشاها شيبان خان تخليدا لذكرى ابن أخيه عبيد الله خان الذي توفي سنة 1539 م.وقد سماها على اسم أستاذه وكبير علماء بخارى المسلمين العربي الشيخ عبد الله اليماني الذي قدم من اليمن واستقر في بخارى.
استمر الاوزبك الذين دخلوا الإسلام في مطلع القرن الرابع عشر، في بناء المساجد والمدارس في سمرقند وبخارى، وأصبحت بخارى محجا يأتيها الحجاج من الهند وكشمير والأندلس وبلاد الشام وفارس واليمن وتركستان وذلك لشهرة مدارسها العلمية التي كانت تعتبر جامعات ذلك الزمان الأكثر شهرة. وحتى نهاية القرن الثامن عشر كان في مدارس بخارى ثلاثون ألف تلميذ، مما جعلها المدينة الجامعية الأولى في عالم ذلك القرن.
في مطلع القرن التاسع عشر، كانت روسيا القيصرية قد بدأت تزحف نحو آسيا الوسطى، حتى عام 1868م حين ضمتها إلى امبراطوريتها وعزلتها عن العالم الإسلامي، حتى جاء العام 1920م حيث نجح البلاشفة الشيوعيون في إسقاط حكامها الخانات وأغلقوا جميع مدارسها ماعدا واحدة فقط، ومنعوا الصلاة في مساجدها ماعدا ثلاثة فقط. ولازالت بخارى إلى اليوم تزخر بالدرر المعمارية من مختلف العصور. ولعل المساجد والمدارس المبلطة بالقيشاني والفسيفساء الزرقاء والمحيطة ببرج كاليان تعد من أجمل ما في بخارى من تحف معمارية من تلك العصور الغابرة.
أما مسجد سوق العطارين المسمى ب (ماجوكي ـ اتوري) فيعد من أقدم المساجد في بخارى ويقع في وسط السوق الرئيسي للمدينة إلى الغرب من ساحة بركة (ليابي حاووظ)، في العصور الأولى كان هذا المكان يشغله معبد الشمس وهو معبد مجوسي، حيث كانت تقام أيام الربيع احتفالات عيد النوروز، وعند دخول الفاتحين العرب المسلمين الأوائل اتخذوا في الموقع أول مسجد يشيد مكان ذلك المعبد في مدينة بخارى.
أما تاريخ بناء مسجد ماجوكي ـ اتوري فوفق كتابة مدونة تقول انه شيد في القرن العاشر الميلادي.وماجوكي تعني تحت الأرض واتوري تعني الباعة أو العطارين، وفي حقبة من الزمن ارتفع سطح الأرض في المنطقة التي تحيط بالمكان مما أدى إلى انخفاض المسجد أكثر، وقد تعرض المسجد للتدمير عام 937م وتم إعادة تشييده في القرن الثاني عشر.
تشور مينور (مسجد المآذن الأربع)
في الجزء الشرقي من مدينة بخارى إلى الشمال من بركة لياب حاووظ يقع مبنى مدرسة (تشور مينور) التي تعني المآذن الأربع، والمسجد هو جزء من مدرسة دينية كبيرة شيدت عام 1807م بمبادرة من الثري التركماني كليف نيازكول، تقليديا تحوي المدرسة باحة داخلية واسعة محاطة بطابق من الغرف المخصصة للطلاب من الجانبين. ان المبنى المميز لمدرسة ومسجد المآذن الأربعة حيث يقود المدخل المقوس إلى أربع قباب مستديرة داخلية ترتكز عند زواياها الأربع المآذن الأربع شامخة زينت من الأعلى بالقيشاني الأزرق الأخاذ بينما تقود سلالم داخلية إلى الطابق الثاني من مبنى المدرسة حيث تقع قاعة المكتبة.
الضريح الساماني
كانت أيام بخارى العظيمة في العصر الساماني، والسامانيون أسرة قدمت من بلاد فارس، وكانت أول أسرة مسلمة لأول دولة إسلامية في آسيا الوسطى. وجعل السامانيون من بخارى المدينة ـ القدوة في كل آسيا الوسطى. وبحكم موقعها الاستراتيجي على طريق الحرير، أصبحت في عهدهم اهم مركز تجاري وثقافي في العالم الإسلامي. وامتدت امبراطورية السامانيين من هراة في الشرق إلى أصفهان في الغرب، وشملت منطقة هي باتساع اوزبكستان وطاجكستان اليوم، إلى جانب جزء كبير من افغانستان وإيران.
وكانت لغات البلاط فيها العربية والفارسية والتركية. ولعل غياب الآثار السامانية الكثيرة يرجع إلى ضعف عمليات التنقيب وإهمال الحكم السوفييتي لهذه المناطق،وسياسة طمس العلاقة العربية ـ الإسلامية والتي كانت احد أسس السياسة السوفييتية في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى. ولعل الأثر الوحيد البارز تقريبا للتأثيرين المعماري والهندسي العربيين هو هذه المقبرة التي تعود إلى القرن العاشر والتي تقع في وادي زرفشان في بخارى والتي تعود للأسرة السامانية.
وقد نجا هذا الأثر الضخم، الذي هو عبارة عن ضريح مبني كله من الطين المشوي ومزدان بالآيات القرآنية والخطوط الهندسية العربية محفورة على جدران عالية وقبة طينية كبيرة، إذ كان مدفونا تحت الأرض وقد عثر عليه صدفة. وأضرحة الأسرة السامانية هذه شيدها مؤسس الدولة إسماعيل الساماني لأبيه نصر بن احمد الساماني، وهي اليوم من أهم معالم بخارى. إذ تقع وسط حديقة كبيرة وجميلة يؤمها الناس باستمرار.
نافورة ساحة البركة
تعد بخارى بكل شوارعها الضيقة وأسواقها وجوامعها، مدينة بقيت تبحث عن الظل والماء، وهذا واضح نظرا لطبيعة مناخها الحار والجاف صيفا، لذلك فان الماء كان يحمل إليها منذ القدم من نهر زرفشان عبر اقنية مفتوحة إلى المدينة متصلة ببحيرات اصطناعية صغيرة تسمى هنا (الحاووظ)، والتي تشكل مركز تجمعات سكنية ومتنفسا للأهالي أيام الصيف، وأكبر هذه البحيرات هي (ليابي حاووظ) والكلمة تعني (البحيرة المقدسة) التي تتوسط مركز المدينة القديمة، والمحاطة بأشجار الجوز الباسقة وهي قديمة قدم المكان حيث تعود إلى مئات السنين كما سمعنا محيطة بهذه البحيرة أو البركة بمعنى أدق.
كما تحيط بها المقاهي التي تسمى هنا (الشاي خانات) والمطاعم التقليدية. وهو من أكثر الأماكن شعبية لدى زوار المدينة من السياح. وهذا المكان عرف منذ العصور الوسطى كمكان محبب لتجمع أهالي بخارى، اما مساحة البركة فهي 5,45 متراً طولاً وبعرض 36 متراً وبعمق خمسة أمتار تحوي ما يقارب أربعة آلاف متر مكعب من الماء يروي البركة (نهر شهرود) أو ما كان يعرف قديما بالنهر الملكي. تحيط بالبركة درجات حجرية حيث كان سقاؤوا بخارى قديما ينزلون هذه الدرجات إلى حافة البركة ليملؤوا للمواطنين ما يحتاجونه من المياه.
حفرت بركة ليابي حاووظ سنة 1620م بامر من نادر ديوان بيغي بجانب مبنى مدرسته والزاوية أو (الخانقاه) وهي عبارة عن دار للاستراحة تحوي العديد من الغرف المجانية المخصصة للاستراحة والنوم للطلاب والمريدين والزوار والتي أمر ببنائها سنة (1622 ـ 1623م) في الجهة الشرقية من ليابي حاووظ ملحقة بمبنى المدرسة. زين مدخل مدرسة نادر ديوان بيغي برسومات غاية في الروعة والحرفية لازالت محافظة على بهائها وهي عبارة عن طائرين كبيرين ملونين يلاحقان غزالا متجهان إلى الأعالي إلى الشمس.
اما تمثال جحا أو كما يسمى هنا الخوجة نصر الدين تلك الشخصية المرحة الحكيمة التي وردت حكاياتها في الموروثات الشعبية العربية منها والاوزبكية فقد أقيم هنا في حديقة المدرسة في القرن العشرين.
مسجد الأعمدة الخشبية الرشيقة
على بعد 3 كيلومترات من مدينة بخارى وفي الطريق إلى سمرقند يقع قصر سيتوراي موهي هوسا، وهو قصر الأمير الصيفي الذي شيد على طراز عمارة أوربا الشرقية، شيده الأمير عالم خان حاكم بخارى. القصر ذو المدخل الفخم المقوس والساحة الواسعة التي تحوي العديد من الكاليريهات، تمتد أمامه بركة مائية تذكر بالقصور التاريخية الخرافية.
يتكون مبنى القصر الذي يمكن لعين الزائر ان ترى مظاهر الترف الواضحة في جنباته من طابقين، مزدان بالشرفات العالية والشبابيك المطلة إطلالة ساحرة على البركة المائية الأمامية، ملحقة به فيلا مخصصة لعائلة الأمير تقع في عمق بستان الفاكهة المحيطة بالقصر. سيطرت فكرة تشييد مبان حديثة في بخارى فكان هذا القصر احد الاثار المعمارية التاريخية التي يمكن ملاحظة نمط عمارتها المغاير للنمط الشرقي الإسلامي الذي كان سائدا في بخارى.
وقد صمم من قبل المعماري مارغوليس. غطي السقف بالقرميد الأحمر الألماني وقد زود القصر بالأفران الألمانية والعديد من المرايا الزجاجية الملونة التي زينت جدران القصر التي جلبت من المصانع الروسية. الأسود المرمرية المتقنة الصنعة التي تزين مدخل القصر صنعها مثالون محترفون كما أبدعوا صنع منافذ المياه المرمرية المأخوذة من البركة الأمامية والتي تصب فيما بعد من فم التنين.
قاعة الاستقبال الفخمة وغرف الأمير توجد في المبنى الرئيسي للقصر، وقد خصصت قاعة الاستقبال في قصر ستوراي موهي هوسا لاستقبال الوفود الرسمية الأجنبية التي كانت تزور أمير بخارى، بينما يستقبل الوزراء ورجال الحكم البخاريين في القصر القديم للأمير. أما ثكنات حرس الأمير عالم خان، ومحطة الوقود وأجنحة كبار الزوار والضباط ذوي الرتب العالية ثم أجنحة الخدم وعمال القصر وموظفيه ومخازن المؤؤنة فكانت كلها ملحقة بالمبنى الرئيسي للقصر.
أفخم قاعات القصر هي القاعة البيضاء وقاعة الاستقبال وقد أعيد ترميم القصر وتأثيثه عام 1912 ـ 1914م وقد شارك في هذا العمل كبار الحرفيين المتخصصين من أبناء بخارى. قاعة الاستقبال الكبرى التي كان يستقبل فيها الأمير كبار ضيوفه طليت جدرانها وزينت بالرسومات والزخارف الملونة البديعة من قبل فريق من الفنانين المعماريين المحترفين يقودهم المعماري الكبير حسن جان.
اما القاعة البيضاء التي أخذت اسمها من جدرانها وسقفها المزينان بنقوش وزخارف يغلب عليها اللون الأبيض الثلجي من إبداعات فريق عمل من الفنانين المبدعين بقيادة الفنان المعماري الاوزبيكي المبدع المعروف بـ (اسطة شيرين مرادوف) وقد اشتهر هذا الفنان بإبداعاته المعمارية ومنها مبنى دار الأوبرا والباليه في طشقند العاصمة الذي عنى بتزيين قاعته عام1946م.
مقبرة البكريين (الشيبانيين)
ندخل مجمع مقبرة ومسجد البكريين، المسماة (تشور بكر) أو البكريين الأربعة، وتقع على بعد 8 كيلومترات إلى الغرب من مدينة بخارى في قرية تدعى (سوميتخان)، هذا المجمع الذي يحوي بالإضافة إلى المقبرة مسجدا وزاوية (خانقاه) أو دار الاستراحة والمدرسة يعود إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، أسسه الخواجة إسماعيل شيخ عشيرة (خواجة جويبر) الذين كانوا مكلفين بشؤن بريد بخارى في عصر السامانيين، بني هذا المجمع المعماري حول ضريح أبو بكر سعد مؤسس العائلة البكرية وتشكل الجزء الأقدم من المجمع.
اما الجزء الأساسي من هذا المجمع العمراني فقد شيد في النصف الثاني من القرن السادس عشر، في عهد عبالله خان الثاني الساماني، وهذا الجزء مرتبط بضريح آخر للشيخ خوجا محمد إسلام المتوفي سنة 1563م، والذي دفن إلى جانبه ابنه الخوجا أبو بكر سعد الذي توفي سنة 1589م. لفت عبدالله خان الثاني خان بخارى النظر إلى العناية بهذا الأثر المعماري التاريخي وفاء منه حيث كان هو ووالده اسكندر خان من مريدي الشيخ خوجة محمد إسلام شيخ الطريقة النقشبندية الصوفية في آسيا الوسطى في القرن السادس عشر.
وكان الشيخ محمد إسلام أيضاً هو شيخ الإسلام في عهد الخان عبدالله الثاني خان بخارى وهو لقب ديني يعادل المفتي العام للدولة، وقد تبوا بعده هذه المكانة ابنه الشيخ الخوجة أبو بكر سعد. ونظرا للمكانة الدينية والروحية وللسيرة العطرة لعائلة البكريين فقد وجه عبدالله الثاني خان بخارى بتوجيه كل الرعاية والعناية لهذا المجمع المعماري الذي وكما رأينا لازال يؤدي دوره العلمي والمعرفي اليوم من خلال المدرسة الملحقة به والمسجد، والذي زرناه ورأينا أعمال الترميم تجري على قدم وساق بعد أكثر من سبعة عقود من الإهمال عانتها معظم كنوزنا الأثرية المعمارية الإسلامية في هذه البلاد منذ عهد القياصرة الروس الذين انتهجوا سياسة تستهدف قطع الجذور القومية والتاريخية لأهالي المنطقة والقضاء على تراث الشعب المعنوي والثقافي والتاريخي و(روسنة) البلاد عملا بمقولة احد زعمائها الذي أعلن انه: (للقضاء على قوم أو ملة ليس من الضروري إبادتها بالكامل.
بل يكفي القضاء على حضارتها وفنونها ولغتها فتزول من تلقاء نفسها)، كانت سياسة روسيا القيصرية في عموم تركستان تنبع من هذا المبدأ اللا إنساني، فسلبت تركستان ثرواتها التاريخية والمعنوية والحضارية، وقد اخذت الكثير من تلك التحف الثمينة المصنوعة من الذهب والفضة والنحاس الأصفر والأحمر والعديد من الوثائق التاريخية والمخطوطات في عهد القياصرة الروس واستقرت في متاحف موسكو وسان بترسبرغ وغيرها الكثير من الثروات الحضارية التي لا تقدر بثمن.
ووجهت إلى إهمال هذه الكنوز المعمارية من المساجد الأثرية والمساجد والخانقاوات والأبنية التاريخية الإسلامية. ولم تكن سياسة الروس البلاشفة الشيوعيين اقل بشاعة من سابقيهم حين حكموا هذه البقاع فقد انتهجوا نفس السياسة التي كانت تمارسها روسيا القيصرية في تركستان، فقد تم سحق الكثير من معالم التاريخ والتراث الحضاري أو سحبها إلى روسيا، وخربت المدارس الدينية والمساجد والأضرحة وبدا الشعب الأصلي من أبناء هذه البلاد يفقد هويته القومية نتيجة للتغييرات التي مورست على المناهج التعليمية والتربوية في المدارس والجامعات والمستمدة من فكرة الإلحاد ونبذ الأديان.
ولكن روسيا القيصرية تريد والبلاشفة يريدون والله سبحانه وتعالى يفعل ما يريد، فقد عادت البهجة والرونق اللائق بمثل هذه الكنوز المعرفية التي ارتبطت وعلى مدى تاريخها المشرف بالعلوم والثقافات والدور التنويري الذي لعبته هذه المساجد والمدارس العلمية وإسهامات ابنائها في رفد الحضارات الإنسانية جمعاء بقيم الخير والمحبة والتسامح والعدل لجميع بني البشر..
سمرقند
تقع سمرقند في بلاد ما وراء النهر وتعد من أقدم مدن العالم، وهي اليوم ثاني مدن جمهورية أوزبكستان في الاتحاد السوفيتي سابقا، وقد كانت عاصمة بلاد ما وراء النهر لمدة خمسة قرون منذ عهد السامانيين إلى عهد التيموريين. وقد أطلق عليها الرحالة العرب اسم «ياقوتة الدنيا» الراقدة على ضفاف نهر زرافشان. وهي المنافسة التاريخية لبخارى، وهي العاصمة الرائدة التي أعدها تيمورلنك لتحتل الصدارة في عهده.
ولقد كانت سمرقند وبخارى أهم حاضرتين فيما وراء النهر (الصغد وما وراء النهر) وتقوم سمرقند على الضفة الجنوبية لنهر الصغد (وادي الصغد، زرافشان) في موقع عرف بأنه جنة بحق. وقد تعرضت سمرقند عبر تاريخها لويلات وكوارث عديدة كان أهمها: ـ تدمير الإسكندر لها عام 329 قبل الميلاد، وكانت تعرف وقتذاك باسم «مرقندا». ـ والمرة الثانية التي تعرضت فيها للتدمير كانت في عهد جنكيزخان عام 617هـ / 1220 م.
ـ أما التدمير الثالث فكان على أيدي الأوزبك حوالي منتصف القرن التاسع الهجري / القرن الخامس عشر الميلادي. وكانت قبائل الأوزبك حتى هذه الفترة لم تعتنق الإسلام. وقد احتل الإسكندر مدينة سمرقند عدة مرات إبان قتاله مع السبتاميين وسواها بالأرض هذا ما جاء في إحدى الروايات في حين تذكر بعض الروايات أن الإسكندر هو منشئ هذه المدينة. وكانت سمرقند في عهد القواد الذين تنازعوا ملك الإسكندر بعد تقسيم عام 323 قبل الميلاد تابعة لولاية بلخ بصفتها قصبة الصغد، وقد وقعت في أيدي السلوقيين هي وبلخ عندما أعلن ديودوتس استقلاله، وتأسست المملكة الإغريقية البلخية في عهد أنطيوخس الثاني ثيوس، ومن ثم أصبحت معرضة لهجمات برابرة الشمال.
وغدت سمرقند من ذلك الوقت حتى الفتح الإسلامي منفصلة عن إيران من الناحيتين التاريخية والاقتصادية وإن ظل التبادل الثقافي بينها وبين البلاد الغربية متصلا. وكانت فتوحات المسلمين لمناطق وراء نهر جيحون قد بدأت منذ عام 46هـ / 667 م، ولم يبدأ المسلمون توغلهم فيما وراء النهر توغلا منتظما إلا بعد أن عين قتيبة بن مسلم واليا على خراسان حيث وجد طرخون حاكما على مدينة سمرقند.
وفي عام 91هـ / 709 م تصالح طرخون مع قتيبة على أن يؤدي الجزية للمسلمين ويقدم لهم الرهائن غير أن ذلك أغضب رعاياه فخلعوه، وحل محله إخشيذ غورك، واسمه بالصينية أو ـ لي ـ كيا، ولكن قتيبة أجبر إخشيد على التسليم في عام 93هـ / 712 م بعد أن حاصر المدينة وقتا طويلا. وقد سمح له بالبقاء على العرش، ولكن أقيم في المدينة وال مسلم ومعه حامية قوية. وغدت سمرقند هي وبخارى قاعدة للفتوح الإسلامية الأخرى ونشر الإسلام في البلاد، وهو أمر كانت تزعزعه في كثير من الأحيان الفتن التي تثيرها مماحكات الولاة التي أشاعت القلاقل فيما وراء النهر في العقود الأخيرة من عهد الأمويين.
وفي عام 204هـ / 819 م تولى أبناء أسد بن سامان سمرقند بأمر من الخليفة المأمون العباسي، وظلت منذ ذلك الحين دون أن تتأثر بفتن الطاهرية والصفارية في أيدي بيت سامان إلى أن قضى إسماعيل بن أحمد على سلطان الصفارية عام 287هـ / 900 م، وأسس الدولة السامانية فأتاح بذلك لما وراء النهر قرنا من الرخاء والازدهار لم تر له مثيلا إلا بعد ذلك بخمسمئة سنة أيام تيمور وخلفائه المباشرين. وقد ظلت سمرقند محتفظة لنفسها بالمكانة الأولى بصفتها مركز التجارة والثقافة وخاصة في أنظار العالم الإسلامي حتى بعد أن انتقلت القصبة إلى بخارى.
وقد حكم القراخانية سمرقند بعد سقوط الدولة السامانية (الإلكخانية)، ففي عام 495هـ / 1102 م كان أرسلان خان محمد القراخاني صاحب السلطة على سلجوق سنجر وظلت سلالته قابضة على السلطة إلى أن أصبح القرة خطاي أصحاب الكلمة فيما وراء النهر بعد أربعين سنة، عندما انتصر القرة خطاي انتصارا كبيرا على سنجر في قطوان عام 536هـ / 1141 م.
وفي عام 606هـ / 1209 م هزم خوارزمشاه محمد بن تكش الكورخانية وحاصر جنكيزخان خصم خوارزمشاه المخيف، سمرقند بضعة أشهر بعد أن عبر نهر سيحون في طريقه من بخارى التي دمرها تدميرا تاما. ومن حسن حظ هذه المدينة أنها سلمت في ربيع الأول عام 617هـ / مايو 1220م. وسمح لعدد من أهلها بالبقاء فيها تحت حكم وال مغولي وإن كانت قد نهبت وطرد الكثير من سكانها.
وكانت سمرقند في المئة والخمسين سنة التالية صورة باهتة لما كانت عليه من عز ومكانة. وبدأت المدينة تنتعش عندما أصبح تيمور لنك حوالي عام 771هـ / 1369 صاحب الكلمة العليا فيما وراء النهر. واختار سمرقند قصبة لدولته الآخذة في النمو باستمرار، وراح يزينها بكل آيات الروعة والفخامة. وقد جمل أولغ بك حفيد تيمور هذه المدينة بقصره المسمى «جهل ستون» كما شيد بها مرصده المشهور.
وقد استولى تيمور لنك على سمرقند لأول مرة عام 906هـ / 1497. واحتفظ بها بضعة أشهر، وفي عام 909هـ / 1500. استولى عليها منافسه تيمور أوزبك خان شيباني، وبعد وفاة أوزبك تحالف بابر مع إسماعيل شاه الصفوي فأفلح في الظفر مرة أخرى بفتح ما وراء النهر واحتلال سمرقند، ولكنه اضطر في العام التالي إلى الانسحاب انسحابا تاما إلى مملكته الهندية تاركا الميدان للأوزبكيين ولم تكن سمرقند في عهد الأوزبكيين إلا قصبة بالاسم دون الفعل، ذلك أنها قد تخلفت كثيرا عن بخارى.
وقد تقدم الإسلام من هذه البلاد إلى الصين والهند وروسيا ذاتها، حتى إن الأراضي الروسية ظلت خاضعة للسيطرة التترية الإسلامية لمدة ثلاثة قرون، بل كان دوق موسكو يدفع الجزية سنويا لأمير بخارى. ولكن قياصرة روسيا سرعان ما استردوا هذه المناطق الإسلامية وسقط أول حصن إسلامي وهو حصن آق مسجد في بلاد ما وراء النهر بيد الروس عام 1268هـ / 1852 م.
وفي منتصف القرن السادس عشر وبينما كانت الدولة العثمانية تهدد وسط أوروبا وتزحف إلى إفريقيا وآسيا، كانت روسيا القيصرية تهاجم المناطق الإسلامية حتى سقطت قازان في منطقة الفولغا، وبعدها دولة خانات ستراخان ثم مملكة سيبير المسلمة في سيبيريا، ثم اتجهت الجيوش الروسية إلى الجنوب من تركستان في القرن التاسع عشر. وتساقطت الخانات فيما وراء النهر الواحدة تلو الأخرى، حتى زحف ثمانية آلاف من جيوش الروس نحو سمرقند وعبروا نهر زارافشان في 13 مايو عام 1868م / 1285 هـ وسيطروا عليها في اليوم التالي، ودخل القائد كاوفمان العاصمة التيمورية القديمة، وكانت في ذلك الوقت في أيدي مظفر الدين أمير بخارى.
وحين قام النظام الشيوعي عام 1342هـ / 1923 م في روسيا صارت سمرقند ضمن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق حتى انهياره عام 1412هـ / 1991 م فصارت إحدى مدن جمهورية أوزبكستان المستقلة.
من معالم مدينة سمرقند
أولا ـ الأسوار: كان يحيط بمدينة سمرقند سور عظيم يفتح منه أربعة أبواب رئيسية: ـ باب الصين: وهو في شرق المدينة، وقد أقيم تخليدا لذكر الصلات القديمة مع الصين الناجمة من تجارة الحرير. ـ باب بخارى: وهو في شمال المدينة، وقد وجدت كتابة بالعربية اليمينية الحميرية عند باب بخارى هذا نصها: «بين المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ وبين بغداد وبين افريقية ألف فرسخ، وبين سجستان وبين البحر مئتا فرسخ، ومن سمرقند إلى زامين سبعة عشر فرسخا».
ـ باب النوبهار:ويقع في جهة الغرب ويشير هذا الاسم إلى معبد قد يكون بوذيا. ـ الباب الكبير أو باب كش: ويقع في الناحية الجنوبية ويرتبط باسم بلدة كش موطن تيمور الأصلي.
ثانيا ـ المساجد:
من أهم معالم سمرقند الأثرية التي تشهد على تاريخ المسلمين في سمرقند المساجد الكثيرة التي حول بعضها إلى متحف لتاريخ الفن والحضارة في أوزبكستان ومن هذه المساجد: ـ المسجد الجامع: الذي شيد في أواخر القرن الرابع عشر في شرق ميدان ريكستان، ويطلق عليه اسم مسجد بي بي خانم زوجة تيمورلنك الكبرى. ويذكر بأن تيمورلنك هو الذي وضع أسس المسجد في أعقاب حملته الناجحة على الهند. وفي الجانبين الشمالي والجنوبي من المسجد يقوم مسجدان صغيران لكل منهما قبة تواجه الأخرى.
ولقد اقترن بناء المساجد في سمرقند بالأضرحة فهي تمثل سمة مميزة للمدينة، إلا أن أبرز ما فيها هو الناحية الجمالية التي تتمثل في القباب المزخرفة وهي نموذج فريد من الفن الإسلامي المشرقي.
ثالثا ـ منشآت شاه زنده: وهي تتضمن الكثير من المؤسسات والآثار الإسلامية منها:
1 ـ ضريح قثم بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قيل إنه استشهد في فتح سمرقند عام 57 هجرية. وأقيم له ضريح على غاية من الروعة والجمال، غير أن تاريخ البناء الموجود حاليا يعود لعام 753 هجرية، وهو قد يكون تاريخ تجديد الضريح، ويضم الضريح ثلاث قاعات ومسجداً وغرفة للعبادة والاعتكاف.
ولقد تحول شاه زنده بعد ذلك إلى مجموعة من الأضرحة والمنشآت الدينية. وكان ذلك كفيلا بأن يوفر للأضرحة المقامة حول ضريح قثم وللمساجد أسبابا عديدة للعناية بها والإنفاق الكثير عليها، جعلت منها قطعا فنية رائعة، واجتمعت لأجلها قدرات أمهر الفنانين والبنائين في عهد تيمورلنك وبعده، حتى أصبحت مجموعة «شاه زنده» من أهم مواقع التراث المعماري الفريدة في آسيا.
2 ـ ومن المنشآت المميزة في منطقة « شاه زنده » مجموعة كاملة من المباني أنشئت بأمر من الأميرة « ترمان آقا » زوجة تيمورلنك، وتضم مسجدا (خانقاه) وضريح «ترمان آقا» الذي لا يقل روعة وجمالا عن أي ضريح آخر في « شاه زنده » بل ويزيد عليها جميعا ببوابة مكسوة بالفسيفساء ليس كمثلها بوابة أخرى. كما تضم هذه المجموعة حجرة متوسطة للخدمة.
رابعا ـ الأضرحة:
ـ ضريح الإمام البخاري الواقع في ضاحية سمرقند عند مشارف قرية باي أريق حيث دفن هناك بعد وفاته في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي عن اثنين وستين سنة، وذلك بعد هجرته من بخارى، ودفن إلى جواره عدد من علماء بخارى، وقد أقيم بالقرب من ضريحه قبل سنوات قليلة مسجد حديث في أواخر السبعينات من هذا القرن.
ـ قبر تيمورلنك، حيث يتميز بقبته الباهرة التي تعلو الضريح. وهي قبة فيروزية مضلعة ومكسوة بكم هائل من زخارف الفسيفساء. ويسمى هذا الضريح باسم كور أمير أو مدفن خلفاء الأمير تيمور. وكور أمير يطلق أيضاً على مجموعة من المباني المرتبطة باسم حفيد تيمور المعروف باسم محمد سلطان وتضم هذه المجموعة مدرسة خانقاه، والضريح الملحق بالمسجد، ومباني عديدة تطل على مئذنة من كل ركن فيها. كما يتميز البناء بوجود حجر المرمر الرمادي السداسي الشكل وهو حجر العرش الذي لا يزال يطلق عليه الاسم التقليدي له «كوك طاش».
ـ ضريح « طوغلوتكين » إحدى الأميرات المغوليات. وإلى جواره ضريح آخر عرف باسم « أمير زاده ». وبجانبه مصلى صغير اسمه «زيارة خانه» غطيت جدرانه بنقوش كثيفة تلمع رغم الظلام النسبي الذي يسود المكان. وهناك ضريح مهم بمثابة تحفة معمارية وفنية هو ضريح الأميرة شيوين بيكه آقا شقيقة تيمورلنك. كما يوجد ضريح آخر لشقيقة أخرى لتيمورلنك هي الأميرة تركان آقا.
ـ توجد أيضاً مجموعة من الأضرحة تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي عندما اختار تيمورلنك سمرقند عاصمة له.
خامسا ـ الأسواق:
اشتهرت سمرقند عبر التاريخ بالعديد من المنتجات الوطنية مثل المنسوجات والسجاد، إلا أن أشهر ما عرفت به سمرقند هو «الورق السمرقندي» وقد نقلت سر صناعته عن الصين. ولهذا الورق شهرة خاصة تميزت بها سمرقند عبر التاريخ. ولقد بدأت هذه الشهرة عندما قام أهل إقليم بخارى بثورة في عهد أبي مسلم الخراساني فبعث بحملة قوامها عشرة آلاف رجل بقيادة زياد بن صالح حيث قضى على الثورة في مدينة بخارى واستمر في زحفه إلى أن أخضع أيضاً ثورة سمرقند التي كان الصينيون يساندون الثوار فيها ضد العرب المسلمين .
وقد وقع الكثير من الصينيين في الأسر وخيروا بين الرق أي العبودية وبين الحرية إذا علموا المسلمين حرفة فآثروا العتق وعلموا المسلمين من بين ما علموهم صناعة الورق ومع مضي الزمان تقدمت هذه الصناعة باستخدام الكتان والقطن في صناعة الورق الأبيض الناعم الجميل الذي وجد سوقا رائجة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وبخاصة في عاصمة الدولة العباسية بغداد فالورق صفحة من صفحات الفخر للإسلام والمسلمين فالورق كان معروفا في جنوب شرق آسيا إلا أن العالم لم يعرفه سوى بعد أن تعلمه المسلمون وانتقل من بلادهم إلى العالم كله.
وقد أنشئ أول مصنع للورق في بغداد حاضرة الخلافة العباسية بعد نصف قرن من إقامة مصانع الورق في سمرقند. وقد ازدهرت هذه الصناعة في سمرقند أيما ازدهار ثم بدأ الصراع بين الورق المصري الذي كان يطلق عليه القراطيس أو القباطية وبين ورق سمرقند الذي كان يطلق عليه الكاغد أو الرقوق الرومية. ولكن الكاغد السمرقندي تفوق على كل هذه الأنواع ولاقى رواجا عظيما حتى عطلت قراطيس مصر والجلود التي كان الأوائل يكتبون عليها.
المكانة العلمية:
تميزت سمرقند على مر العصور بالعديد من المدارس التي تدل على مدى اهتمام أهلها بالعلم كما تدلنا على الحالة العلمية التي كانت عليها هذه المدينة.
المدارس: من أهم مدارس سمرقند التاريخية في قلب ميدان ريكستان ثلاث مدارس هي:
ـ مدرسة أولغ بك: ذات واجهة مهيبة وعالية، وتنتصب حول بوابتها مئذنتان عاليتان، وتظهر قبة في ركن جانبي، والكل حافل بالنقوش البديعة. وكانت المدرسة تضم (50) غرفة للدراسة والإعاشة ويدرس بها حوالي مئة طالب ثم ازداد العدد إلى أكثر من ذلك وكان المبنى يشتمل على طابقين وأربع قباب عالية فوق قاعات الدراسة الركنية (درس خانه). وكان أولغ بك قد تولى بنفسه التدريس في هذه المدرسة.
ـ مدرسة شيرا دار: كانت في الأساس زاوية للصوفيين ومسجدا لهم ثم أقام حاكم سمرقند في المكان ذاته هذه المدرسة العظيمة الموجهة لمدرسة أولغ بك. ولكن الناظر إلى واجهتها لا يظنها مدرسة نظرا للفخامة والعظمة والروعة المعمارية التي تتميز بها لا سيما بابها وقببها والمنارتان اللتان انتصبتا بشموخ على مداخلها.
ـ مدرسة طلا كاري يعود تاريخها إلى عام 1056هـ / 1646م. وهي المدرسة الذهبية الفخمة التي تمثل المضلع الثالث في ميدان ريكستان، ويلاصقها المسجد. وهي تتميز بفن معماري جذاب وبثروة في الألوان والزخارف.
وقد توقفت هذه المدارس الدينية والعلمية عن رسالتها الإسلامية بعد أن تحولت منذ عام 1336هـ / 1918م إلى مبان أثرية سياحية وذلك بعد الاجتياح الروسي الشيوعي والذي كان يريد أن يمحو كل ما هو ذو صلة بالدين محاولة منه في سلخ أهل هذه البلاد عن هويتهم الإسلامية.
العلماء: ينتسب إلى سمرقند جماعة من أهل العلم نذكر منهم:
ـ الفقيه أبو منصور الماتريدي: وهو نسبة إلى حي ما تريد أو ما تريب أحد أحياء سمرقند وكان له أثر حاسم في تطور الفقه السني بالمشرق.
ـ الفقيه محمد بن عدي بن الفضل أبو صالح السمرقندي، نزيل مصر سمع بدمشق أبا الحسن الميداني، وجماعة غيره، وروى عنه أبو الربيع سليمان بن داوود ابن أبي حفص الجبلي، وجماعة غيره.
ـ الفقيه أحمد بن عمر أبو بكر السمرقندي، سكن بدمشق وقرأ القرآن وأقرأه، وكان يكتب المصاحف من حفظه.
ومن أعلام سمرقند:
ـ صاحب التفسير المعروف بتفسير العياشي، وهو محمد بن مسعود السمرقندي، وكان من المحدثين والأطباء والنجوميين، ومن أعلامها أيضاً علاء الدين السمرقندي. ومنهم نجيب الدين السمرقندي، وكان طبيبا معاصرا لفخر الدين الرازي، وقتل بهراة لما دخلها التتار. ومنهم شمس الدين السمرقندي العالم والمنطقي والفلكي والأديب.
ـ ومن علمائها المتأخرين أبو القاسم الليثي السمرقندي. وكذلك الفلكي المشهور قاضي زاده الرومي أستاذ أولغ بك الذي كان أحد أبرز الفلكيين في العالم خلال العصور الوسطى