إنهم لا يجيدون شيئاً إلا التناحر فيما بينهم، وهم دائماً يُهزمون، فمحظوظ من يحاربهم، لم يقصد قائل هذه الكلمات «العرf» بسخريته هذه، كما قد يخطر على بال البعض بسبب واقعهم الحالي المرير؛ بل كان يشير إلى الألمان عندما كانوا منقسمين إلى 300 دويلة قبل أن يأتي رجل الحديد والنار بسمارك فيجعلهم أمة قوية مهابة وأحيانا مكروهة.
وردت هذه الكلمات على لسان الأمير أندريه، أحد شخصيات رائعة الأديب الروسي ليو تولستوي «الحرب والسلام» والتي تدور أحداثها خلال الحروب النابليونية، ويحسد فيها أندريه نابوليون بونابرت؛ لأنه محظوظ؛ إذ لم يحارب سوى الألمان حتى ذلك الوقت، فمن الذي يهزم الألمان.
من منطقة مفتتة تمثل ساحة نفوذ للقوى الكبرى لأمة موحدة مهابة معجزة قادها بسمارك
ولكن ألمانيا التي كانت أضحوكة الغرب العسكرية والساحة التي كانت تصول وتجول فيها القوى العظمى، لم تعد موجودة إلا في الروايات وكتب التاريخ، فكيف حدث ذلك؟ ومن هو الرجل الذي حوّل هذه الدويلات إلى دولة وإمبراطورية موحدة؟ وماذا كان دافعه؛ مجد شخصي أم وطنية جارفة أم أهداف طبقية وسياسية؟
قبل نحو 150 عاماً، لم تكن هناك دولة تسمى ألمانيا، وكان يوجد محلها أكثر من 30 دولة متناحرة؛ بل إن هذه الدويلات كان عددها 300 دويلة عندما قامت الثورة الفرنسية، ولكن نابليون بونابرت دمج بعضها معاً لكي يسهل له التعامل معها لينخفض عددها بعد جلاء قواته.
ولكن انتصارات نابليون وإهانته الألمان جميعاً، بدأت تخلق لديهم شعوراً بأنهم أمة واحدة كبيرة، ولكن مشكلتها في عدم وحدتها، فبدأ حلم الوحدة يداعب الثوار والليبراليين، ولكن ظل مجرد حلم.
واستمر هذا الحال حتى جاء «أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك» وقرر أن هذه الدويلات يجب أن تتحد، واختار لتحقيق هذا الهدف طريقاً واحداً: «الحديد والدم».
الكاره للوظائف الحكومية الذي أصبح الموظف الأكبر
وُلد أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك، المعروف باسم أوتو فون بسمارك، في مطلع أبريل/نيسان عام 1815، لعائلة أرستقراطية تعيش بقرية شونهاوزن المملوكة لها، والتي تقع حالياً في ولاية ساكسونيا أنهالت الألمانية.
كان كارل فيلهلم فرديناند فون بسمارك، والد أوتو، سليل عائلة نبيلة قديمة من بروسيا وصاحب أراضٍ وعقارات كثيرة، وكان له أخ يكبره بـ5 سنوات يدعى بيرنهارد، وأخت تصغره بـ12 سنة تدعى مالفين.
بتشجيع من والدته، التي كانت ترغب في أن يصبح موظفاً مدنياً كبيراً مثل أخواله، انضم أوتو فون بسمارك إلى جامعة غوتنغن لدراسة القانون والعلوم السياسية، لكنه تركها بعد عام واحد وانضم إلى جامعة برلين.
كان بسمارك يشعر بالملل والسأم الشديد من العمل الحكومي، لكن خضوعاً لرغبة والدته، بدأ العمل كمتدرب قانوني بدائرة حكومية في مدينة آخن عام 1835، وظل يتقلب بين محاولات الانخراط في العمل الحكومي الذي استقال منه مراراً، والخدمة العسكرية ومساعدة والده في رعاية أرضه إلى عام 1844، توفي والده، فتفرغ لإدارة أملاك العائلة.
وقع أوتو في غرام جوانا فون بوتكامر، وهي ابنة عائلة أرستقراطية محافظة، فقرر الزواج بها، وتم له ذلك في يوليو/تموز 1847. عاش الزوجان حياة هانئة للغاية، وأنجبا بنتاً (ماري) وولدين (هربرت وفيلهلم).
الولاء المطلق للملك.. وسيلة بسمارك إلى السلطة
في منتصف القرن الـ19، لم يكن الألمان موحدين في دولة قومية، كما هو الحال اليوم. كانت ألمانيا تتكون من 30 دولة مستقلة في إطار الاتحاد الألماني، وكانت تتنافس على قيادتها كل من بروسيا والنمسا القويتين، وفي خضم هذا الوضع ظهر السياسي بسمارك.
بالتوازي مع الهروب المتكرر من الوظيفة الحكومية المملة، كان بسمارك يبدي اهتماماً متزايداً بالسياسة، وبعد عام من استقالته من وظيفته (1845)، أصبح عضواً في برلمان بوميرانيا، وكانت مقاطعة بروسية في ذلك الحين (تقع حالياً ببولندا). وفي عام 1847، أصبح بسمارك نائباً لبرلماني مريض في برلمان بروسيا المتحدة.
اكتسب بسمارك سريعاً سمعته كبرجوازي محافظ مؤيد للنظام الملكي ومناهض لليبرالية، بدا ذلك واضحاً بعد رفضه القاطع لثورة مارس/آذار (1848-1849) التي سعت من خلالها القوى الليبرالية إلى تقليص سلطة الملك فريدريش فيلهلم الرابع، وتطوير الاتحاد الألماني إلى دولة قائمة على دستور يضعه البرلمان، ولكن المفارقة أن ملك بروسيا رفض العرش الذي عرضه عليه الثوار؛ لأنه جاء من الشعب وليس الحكام.
والغريب أنه كان رافضاً فكرة الوحدة الألمانية !
انتُخب أوتو فون بسمارك عام 1849 عضواً في البرلمان البروسي. وفي مطلع العام التالي (1850)، انتُخب ممثلاً لبروسيا في برلمان إرفورت، الذي كان منوطاً به مناقشة مشروع توحيد الدويلات الألمانية. وهي المحاولة التي فشلت بسبب الصراع الدائر بين كل من الإمبراطورية النمساوية ومملكة بروسيا حول تقاسم النفوذ في وسط أوروبا.
كان أوتو، خلال هذه المرحلة، غير مؤمن بالدولة القومية الألمانية؛ خوفاً من أن تفقد بروسيا ريادتها وتتحول إلى تابع للنمسا، لكن آراءه تغيرت كثيراً بعدما عيّنه فريدرش فيلهلم الرابع، عام 1851، مبعوثاً إلى مجلس الاتحاد الألماني في فرانكفورت، حيث ابتعد عن دوائر المحافظين التي كان جزءاً منها، وأصبح أكثر اعتدالاً سياسياً ومؤيداً لفكرة الأمة الألمانية الموحدة.
ظل بسمارك في فرانكفورت 8 سنوات، ثم عُيّن عام 1859 سفيراً لبلادهل لدى روسيا. واستطاع خلال الفترة التي قضاها في سان بطرسبرغ، أن يوثق اتصالاته مع القيادات الروسية المؤثرة، واكتساب خبرة واسعة عن التيارات السياسية والاجتماعية في روسيا، وهو ما أفاده كثيراً بعد ذلك.
ترك أوتو، سان بطرسبرغ في مارس/آذار 1862، وذهب إلى فرنسا سفيراً باسم فيلهلم الأول، الذي تولى المُلك بعد وفاة أخيه فريدرش الرابع عام 1861. لم يبق بسمارك في باريس سوى 6 أشهر فقط، ثم عاد إلى بروسيا، حيث كانت مهمة أخرى في انتظاره.
بسمارك مؤسس ألمانيا.. بـــ « الحديد والدم »
أصدر الملك فيلهلم الأول، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1862، قراراً بتعيين أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك رئيساً لوزراء بروسيا ووزيراً لخارجيتها. كانت مهمة بسمارك الأولى حل الأزمة المشتعلة منذ عامين، بين البرلمان من جهة والملك وقيادات الجيش من جهة أخرى؛ بسبب رفض البرلمان الموافقة على زيادة ميزانية الجيش من أجل الإنفاق على الإصلاح العسكري الذي كان فيلهلم الأول يرغب في تحقيقه.
حاول بسمارك جاهداً إقناع لجنة الموازنة في مجلس النواب البروسي بالتعاون من أجل صالح السياسة الخارجية للمملكة. ولما يئس منهم ألقى خطبة أصبحت تعتبر دستوره الخاص :
«يجب على بروسيا التركيز والحفاظ على قوتها في اللحظات المناسبة التي تراجعت بالفعل عدة مرات. حدود بروسيا وفقاً لمعاهدات فيينا ليست مواتية لحياة دولة صحية. لن يتم حل الأسئلة العظيمة في ذلك الوقت عن طريق الخطابات وقرارات الأغلبية -التي كانت الخطأ الكبير في 1848 و 1849- بل بالحديد والدم».
وأجج هذا العداءَ بين الطرفين وأفرز انعدام ثقة متبادلاً مدة 4 سنوات، حكم خلالها بسمارك بلا موازنة معتمدة من البرلمان.
دخل بسمارك، منذ عام 1864، في 3 حروب من أجل تعزيز سلطة بروسيا وبسط نفوذها على باقي الدويلات الألمانية، وكان هذا خير تطبيق لمقولة «الحديد والدم ».
بسمارك كان يؤمن بأن الحديد والنار وليس الأغلبيات البرلمانية هي التي ستوحد ألمانيا
التحالف مع النمسا عدوة ألمانيا الموحدة
تحالف بسمارك، عام 1864، مع عدوته اللدود الإمبراطورية النمساوية، من أجل محاربة الدنمارك، في حرب خلّدها التاريخ باسم «
حرب شليسفيغ الثانية». اندلعت الحرب في يناير/كانون الثاني من العام المذكور، على خلفية نزاع بين الاتحاد الألماني من جهة، والدنمارك من جهة أخرى، بشأن تبعية دوقيتي شليسفيغ وهولشتاين.
وضعت الحرب أوزارها بعد 8 أشهر، بفوز التحالف البروسي-النمساوي، وضم دوقية هولشتاين إلى النمسا ودوقية شليسفيغ إلى بروسيا.
كانت الحرب مؤشراً على عدم اكتفاء بسمارك بحدود بروسيا الحالية، وأنه سيسعى في المستقبل لتوسيع رقعتها.
ثم هزم فيينا سيدة الألمان قروناً
كان تحالف بروسيا مع النمسا تحالفاً مرحلياً هشاً لهدف محدد، ثم سرعان ما عادت البلديات مرة أخرى للتنافس على فرض سيطرتها على باقي الدويلات الألمانية، وهو تنافس أدى إلى اندلاع الحرب بينهما، وللمفارقة؛ كانت ذريعة الحرب النزاع على إدارة هولشتاين التي تم انتزاعها من الدنمارك.
بدأت «حرب الأسابيع السبعة«، كما سيطلق عليها بعد انتهائها، في يونيو/حزيران عام 1866، بين بروسيا وحلفائها الإيطاليين من جهة، والنمسا وبافاريا وساكسونيا وهانوفر ودويلات ألمانية أصغر من جهة أخرى.
انتهت الحرب رسمياً في 23 أغسطس/آب، بفوز بروسيا وإيطاليا، وتوقيع معاهدة براغ، التي نصت على ضم شليسفيغ وهولشتاين إلى بروسيا، بالإضافة إلى هانوفر وهيسه كاسيل وناساو وفرانكفورت، وتشكيل اتحاد شمال ألمانيا بقيادة بروسيا، وتخلي النمسا عن أي سلطة في جنوب ألمانيا، وكذلك تنازل الإمبراطورية عن فينيسيا لصالح إيطاليا. وهكذا خرجت النمسا من ألمانيا إلى الأبد، وأصبحت كلمة بروسيا هي العليا.
منذ ذلك الحين، أخذت قوة بروسيا تتنامى يوماً بعد يوم، لكن ما كان ينقصها هو توحيد الدويلات الألمانية كافة تحت قيادتها.
بقيت فرنسا بلد نابليون الذي أذلّ الألمان .. إنها الحرب هي التي ستأتي بالجنوبيين طواعية
كانت العقبة التي تقطع الطريق على الطموح البروسي؛ فرنسا، التي كانت تقف حائلاً أمام انضمام الولايات الألمانية الجنوبية إلى اتحاد شمال ألمانيا؛ خوفاً من تحول ألمانيا إلى دولة عظمى.
رأى بسمارك أن الولايات الجنوبية ( التي كانت أغلبها كاثوليكية عكس بروسيا البروتستانتية) لن تنضم إلى اتحاد شمال ألمانيا، إلا إذا دخل الاتحاد في حرب مع فرنسا لتحفيز الشعور القومي الألماني.
فعمد في البداية إلى تحييد القوى الدولية عن الحرب، وعندما ضمن أن روسيا وإيطاليا وبريطانيا خارج المعادلة، بدأ في استفزاز مشاعر الفرنسيين حتى تحققت غايته عام 1870، واندلعت الحرب بسبب الخلاف مع فرنسا على تسمية مرشح للعرش الإسباني.
نابليون الثالث يعلن الحرب .. إنه يعتمد على صيت جيوش عمه
أعلن الإمبراطور الفرنسي، نابليون الثالث، بعد استفزازه من قِبل بسمارك، الحرب على بروسيا في 19 يوليو/تموز 1870. وحقق بقراره ما أراده بسمارك تماماً؛ إذ انضمت الولايات الألمانية الكونفدرالية الجنوبية طواعية إلى الاتحاد الألماني الشمالي بقيادة بروسيا، وأصبحت ألمانيا موحدة للمرة الأولى.
وفي حين كان نابليون الثالث يتطلع إلى أن ينتصر في الحرب ليستعيد شعبيته، وكان يعتمد على صيت الجيوش الفرنسية التي غزت ألمانيا وقطعت أوصالها في عهد نابليون، فإن ما حدث أن الجيوش الألمانية المنظمة والمنضبطة نجحت في هزيمة القوات الفرنسية في كل المعارك الكبرى، وسرعان ما حاصرت نابليون الثالث و83 ألفاً من جنوده في منطقة سيدان، حتى استسلموا بشكل مذلٍّ في 2 سبتمبر/أيلول 1870.
تشكلت حكومة إنقاذ وطني في فرنسا، لكن الاتحاد الألماني كان قد اجتاح البلاد بالفعل ووصل إلى باريس، التي حاصرها حتى استسلمت بشكل رسمي في 28 يناير/كانون الثاني 1971. وهكذا كسبت ألمانيا الوحدة والحرب، وأصبحت قوة عظمى في أوروبا.
وها هو بسمارك يعلن تأسيس الإمبراطورية في قصر فرساي مقر الحكم الفرنسي
لم ينتظر بسمارك حتى استسلام فرنسا بشكل رسمي، وأعلن في 18 يناير/كانون الثاني من عام 1971، من قصر فرساي قرب باريس، تأسيس الرايخ الألماني.
خريطة توضح تطورات الوحدة الألمانية بقيادة بروسيا
وبموجب دستور الدولة الجديدة، أصبح ملك بروسيا، فيلهلم الأول، قيصراً للرايخ الألماني.
أما بسمارك فقد تولى، بعد ذلك بشهرين، منصب مستشار الرايخ الألماني. وهو منصب احتفظ به حتى عام 1890.
ثم أعطى العمال بعض حقوقهم، ولكن هدفه لم يكن اشتراكياً على الإطلاق
حقق المستشار الحديدي العديد من الإنجازات خلال فترة قيادته الرايخ. على سبيل المثال، نجح عام 1873 في تشكيل حلف سياسي ضم ألمانيا وروسيا والنمسا، من أجل تأمين التوازن في أوروبا.
وفي عام 1878، بدأ بسمارك تأسيس دولة الرفاه الألمانية، عبر فرض إشراف إلزامي على المصانع لحماية العمال، وسن قانون التأمين 1883، وقانون التأمين ضد الحوادث 1884، وقانون العجز والشيخوخة 1889.
وكان هدفه نيل تأييد العمال وإبعادهم عن الأفكار الاشتراكية وإثناءهم عن الهجرة إلى أميركا.
وهاهي ألمانيا تدفع ثمنا باهظاً لإبعاده ونبذ إرثه
بسمارك أُجبر على الخروج من السلطة عام 1890، بعد خلاف حاد مع القيصر فيلهلم الثاني؛ بسبب رؤى الأخير الاشتراكية وتدخله في سلطات كانت من اختصاص بسمارك خلال عهد فيلهم الأول.
كان أوتو يأمل أن يتم استدعاؤه مجدداً للخدمة، لكن هذا لم يحدث، فقضى سنواته الأخيرة في انتقاد القيصر والمستشار الذي خلفه، وجمع مذكراته المعنونة بـ»أفكار وذكريات».
توفي بسمارك في 30 يوليو/تموز سنة 1898، عن عمر ناهز الثالثة والثمانين في حي فريدريشسروه بالقرب من هامبورغ، ونُقش على قبره: «الخادم الألماني المخلص للقيصر فيلهلم الأول».
وكان تخلي ألمانيا بعد خروجه من السلطة عن سياسة التحالفات المتعددة، وخاصة جهوده لإقامة علاقات جيدة مع روسيا والابتعاد عن المحاور لتجنب حرب على جبهتين هما روسيا وفرنسا، سبباً في تورط ألمانيا بدخول سباق تسلح وصراع على النفوذ بالمستعمرات مع القوى العظمى الأخرى، الأمر الذي مهد للحرب العالمية الأولى.