شرح دعاء اليوم الرابع عشرمن ايام شهر رمضان المبارك
( اَللّـهُمَّ !.. لا تُؤاخِذْني فيهِ بِالْعَثَراتِ ، وَأَقِلْني فيهِ مِنَ الْخَطايا وَالْهَفَواتِ ، وَلا تَجْعَلْني فيهِ غَرَضاً لِلْبَلايا وَالآْفاتِ ، بِعِزَّتِكَ يا عِزَّ الْمُسْلِمينَ ! )
- ( اَللّـهُمَّ !.. لا تُؤاخِذْني فيهِ بِالْعَثَراتِ...) :
لا شك أن كل معصية من المعاصي -صغيرة كانت أو كبيرة- لها آثارها في عوالم ثلاث :
في عالم الدنيا ، وفي عالم البرزخ ، وفي عالم القيامة..
فمن آثارها في عالم الدنيا : أن يبتلى الإنسان بالضنك وضيق الصدر ، وحرماناً في الرزق ، وقساوة في القلب ، وسقماً في البدن... إلخ من الآثار.
وفي عالم البرزخ - كما قال تعالى : {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} - ، هناك حالة الضيق.. ومن المعلوم أن الإنسان في عالم البرزخ يعيش مع عمله.. وإن كان في البرزخ الإنسان لا يحاسب ولا يعاقب ؛ لأن ذلك من مختصات القيامة.. وأيضاً هو لا يعمل ولا يعوِّض ؛ لأن هذا من مختصات الدنيا.. ولكن كم هي حالة موحشة أن يعيش الإنسان مئات إن لم يكن آلاف السنين مع ذاته ومع عمله ؟!.. ولهذا عندما أئمتنا (ص) يدعوننا إلى أن نعمل ما يريحنا في البرزخ ، لأن كل هذه الأمور القشرية الهامشية : الروابط الاجتماعية ، والأسرية ، والوجاهة ، والمال... ، كل ذلك يتلاشى ، يتلاشى ، إلى أن يعيش الإنسان مع ذاته ومع ربه.. فإن الإنسان في عالم البرزخ لا يعيش إلا مع الذات ، وإلا مع الرب.. فإذا كانت ذاته ذات غير مهذبة ، وعلاقته بالله عزوجل غير وطيدة ؛ فبم يؤمل أن يمضي أيام البرزخ بطولها وتفاصيلها ؟!..
إذن، ينبغي للإنسان المؤمن أن يعلم ، أن كل هفوة في هذه الدنيا لها حسابها : في الآخرة ، وفي البرزخ ، وفي القيامة.. ومن هنا فإن عليه أن يعيش عملية الاستغفار المستمر ، لئلا يبتلى بتبعات ذلك.. وقد ذكرنا بالأمس عظمة نبي الله يوسف (ع) ، وموقفه في السجن ، وموقفه من امرأة العزيز ، وتحمله للسجن ، وقوله أن السجن أحب إليه من الكون مع النساء.. ومع ذلك، روي أنه عندما جاء يعقوب (ع) بعد أن أصبح يوسف (ع) على خزائن الأرض ، أن يوسف (ع) قصر شيئاً قليلاً في احترام أبيه.. هو لم يرتكب حراماً ولا معصية ، وإنما قصر شيئاً قليلاً في احترام أبيه -ذلك الاحترام الذي لم يكن مخالفاً لعصمته- ، ولكن لننظر ماذا حدث ؟!.. جاء جبرائيل وفتح يوسف (ع) يده ، وإذا بنور قد خرج من يده ، فسأل يوسف (ع) ما هذا النور الذي سُلب ، فإذا بالجواب بأن هذا نور النبوة خرج من عقب يوسف !..
قال الصادق (ع) : إنّ يوسف (ع) لما قدم عليه الشيخ يعقوب (ع) ، دخله عزّ المُلك فلم ينزل إليه ، فهبط عليه جبرائيل فقال : يا يوسف !.. ابسط راحتك ، فخرج منها نور ساطع فصار في جو السماء ، فقال يوسف (ع) : ما هذا النور الذي خرج من راحتي ؟.. فقال : نُزعت النبوة عن عقبك ، عقوبةً لما لم تنزل إلى الشيخ يعقوب ، فلا يكون من عقبك نبيٌّ.
هو لم يرتكب حراماً ، والله تعالى لم يعمل خلاف العدل.. أن يجعل الله عزوجل في ذرية يوسف (ع) ، من الأنبياء والمرسلين ، فهذا تفضل إلهي.. وهذا التفضل رُفع وسُلب ؛ لأنه قصر في شيء من ذلك ، كما قلنا بما لا يخل بعصمته..
إذن، الهفوات قد لا تستلزم عقوبة صارمة معجلة ، ولكن تسلب شيئاً من التوفيق.. ولهذا فإن المؤمن حذر وجل ، ينظر إلى سلوكه اليومي بعين التفحص ، وبعين الدقة ، لا فقط لكي لا يبتلي بالعقوبة ، بل لكي لا يبتلى بالحرمان من التوفيق ، وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) : (إنّ الرجل يذنب الذنب فيُحرم صلاة الليل ، وإنّ العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكّين في اللّحم).. وعنه أيضاً (ع) : (إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة اللّيل ، فإذا حُرم بها صلاة اللّيل حُرم الرزق).. فالقيام في جوف الليل توفيق ، ولكن الإنسان يذنب الذنب في النهار ، فيحرم صلاة الليل ، وتبعاً لذلك ، يحرم الرزق الذي كان قد قدر له.
(وَأَقِلْني فيهِ مِنَ الْخَطايا وَالْهَفَواتِ ، وَلا تَجْعَلْني فيهِ غَرَضاً لِلْبَلايا وَالآْفاتِ ) :
إنا علينا أن نستوعب هذه الحقيقة جيداً :
إن البلايا التي هي من القضاء والقدر المحض ، فإن الإنسان يؤجر عليها.. مثل : إنسان يهدم عليه داره ، أو يغرق في البحر ، أو إنسان يموت موتاً فجائياً ، أو يبتلى بمرض من غير احتساب... ، فإن هذا بلاء إلهي محض ، والإنسان يؤجر على هذا البلاء بما لا يتصور ، كما في قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}..
ولكن البلاء الذي ينتج من فعل العبد نفسه ، أو بسبب تقصير منه ؛ ويكون هو السبب في ذلك البلاء.. مثل : إنسان سيء الخلق ، فزوجته تتبرم منه ، والمشاكل العائلية تؤدي إلى انفصال زوجته ؛ فيعيش عيشة النكد ، ويبتلى بالحرام ، ويرتكب الفواحش.. فهنا البلاء النفسي ، وهذا الضيق ، وهذا التبرم ، الذي قد يؤدي إلى فقدان الحياة في بعض الحالات ، لأنه هو السبب في ذلك ، ولهذا لا يؤجر عليه ، إنما هو وزر من دون تعويض.. ويا له من خسارة عظمى !.. إنسان يتحمل الكثير في حياته ، من دون أن يعوض شيئاً !..
وأخيراً : يحسن التأمل في هذه النقطة :
إن بعض البلاء كماء السد.. ومن المعلوم أن ماء السد ماء مختزن ، ولكن في يوم من الأيام يرتفع منسوب المياه من وراء السد ، فإذا به يحطم السد ، ويأتي السيل.. هناك بعض البلاءات المقدرة لبني آدم ، كالماء وراء السد.. مثل : إنسان كتب له هذا البلاء وأوقف ، وكتب له هذا البلاء وأوقف.. مجموعة من البلاءات الكثيرة التي يستحقها الإنسان ، ولكن الله عزوجل أوقفها ؛ لحسن فعل ، أو لحسن سريرة ، أو لعمل ما من أعمال العبد.. وإذا به عمل عملاً ، هتك الستر بينه وبين ربه ، وإذا بهذا السد ينهار ، فتأتيه البلايا متتابعة !.. فترى الإنسان في عشية وضحاها ينقلب ، وتنقلب أموره عاليها سافلها !.. فيبتلى بسقم في البدن ، وأذى في النفس ، وذل بين الناس ، وحرمان في الرزق ، ويفقد أمنه واستقراره... بمثابة السد الذي تحطم.. فلنحذر جميعاً هذا الستر الذي جعله الله عزوجل بيننا وبينه !.. فإذا زال هذا الستر ، جاء سيل البلايا والهموم ، لتهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين ، كما يقول القرآن الكريم : {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
نعوذ بالله عزوجل من سوء العاقبة !.
منقول للفائدة