تحرّك موكب سبايا أهل البيت(عليهم السلام) من كربلاء المقدّسة نحو مدينة الكوفة في ۱۱ محرّم ۶۱ﻫ..

قال محمد بن أبي طالب رحمه الله تعالى : ثم إن عمر بن سعد سرَّح رأس الحسين(عليه السلام) يوم عاشورا مع خولي بن يزيد الأصبحي ، وحميد بن مسلم إلى ابن زياد ، ثمَّ أمر برؤوس الباقين من أهل بيته وأصحابه فقُطعت ، وسرَّح بها مع شمر بن ذي الجوشن إلى الكوفة ، وأقام ابن سعد يومه ذلك وغده إلى الزوال ، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم ، وترك الحسين(عليه السلام) وأصحابه منبوذين بالعراء ، فلمَّا ارتحلوا إلى الكوفة عمد أهل الغاضرية من بني أسد فصلّوا عليهم ودفنوهم ، وقال ابن شهر آشوب : وكان يجدون لأكثرهم قبوراً ويرون طيوراً بيضاً.(1)
و قيل كانت رؤوس أهل بيت الحسين(عليه السلام) وأصحابه ثمّانية وسبعين رأساً، فاقتسمتها القبائل، للتقرّب بذلك إلى عبيد الله بن زياد وإلى يزيد بن معاوية (لعنهما الله).
وقال أبو مخنف في مقتله: "فجاءت كندة إلى ابن زياد بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً، وجاءت بنو أسد بستة رؤوس، وجاءت مذحج بسبعة رؤوس، وجاء سائر الجيش بسبعة رؤوس، فلذلك سبعون رأساً".
قال السيد محسن الأمين عليه الرحمة في لواعج الأشجان : ثم نادى (أي ابن سعد) في الناس بالرحيل ، وتوجَّه إلى الكوفة ، وحمل معه نساء الحسين(عليه السلام) وبناته وأخواته ومن كان معه من الصبيان ، وفيهم علي بن الحسين(عليهما السلام) قد نهكته العلة ، والحسن بن الحسن المثنى . . . وتدلّ بعض الروايات على وجود الباقر(عليه السلام) معهم ، وساقوهم كما يساق سبي الترك والروم ، فقال النسوة : بحق الله إلاّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين(عليه السلام) ، فمرّوا بهم على الحسين(عليه السلام) وأصحابه وهم صرعى ، فلمَّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن ، قال الراوي : فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندبُ الحسين(عليه السلام) ، وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب : يا محمداه ، صلّى عليك مليكُ السماء ، هذا حسينك مرمَّل بالدماء ، مقطَّع الأعضاء ، وبناتك سبايا ، إلى الله المشتكى ، وإلى محمّد المصطفى ، وإلى علي المرتضى ، وإلى فاطمة الزهراء ، وإلى حمزة سيِّد الشهداء ، يا محمَّداه ، هذا حسين بالعرى ، تسفي عليه ريح الصَّبا ، قتيل أولاد البغايا ، واحزناه ، واكرباه عليك يا أبا عبدالله ، اليوم مات جدّي رسول الله ، يا أصحاب محمد! هؤلاء ذرّيّة المصطفى يساقون سوق السبايا .
وفي بعض الروايات أنها(عليها السلام) قالت : وامحمّداه ، بناتك سبايا وذرّيّتك مقتَّلة ، تسفي عليهم ريح الصَّبا ، وهذا حسين محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء ، بأبي من أضحى عسكره في يوم الإثنين نهباً ، بأبي من فسطاطه مقطَّع العُرى ، بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدى ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء ، بأبي من جدّه رسول إله السماء ، بأبي من هو سبط نبيِّ الهدى ، بأبي محمد المصطفى ، بأبي خديجة الكبرى ، بأبي علي المرتضى ، بأبي فاطمة الزهراء ، بأبي من ردَّت له الشمس حتى صلَّى ، قال : فأبكت والله كل عدوّ وصديق .
ثم إن سكينة بنت الحسين(عليه السلام) اعتنقت جسد أبيها ، فاجتمع عدَّة من الأعراب حتى جرّوها عنه(2) .
و رحم الله السيد رضا الهندي إذ يقول :
همَّت لِتَقْضِيَ من تَوْدِيعِهِ وَطَراً وقد أبى سَوْطُ شِمْر أَنْ تُوَدِّعَهُ
فَفَارَقَتْهُ ولكنْ رَأْسُهُ مَعَهَا وَغَابَ عَنْها ولكنْ قَلْبُهَا مَعَهُ(2)
ثم إنها(عليها السلام) سافرت هذا السفر المحزن وهي حزينة القلب ، كسيرة الخاطر باكية العين ، ناحلة الجسم ، مرتعدة الأعضاء ، قد فارقت أعزَّ الناس عليها وأحبَّهم إليها ، تحفّ بها النساء الأرامل والأيامى الثواكل ، وأطفال يستغيثون من الجوع والعطش ، ويحيط بها القوم اللئام من قتلة أهل بيتها ، وظالمي أهلها وناهبي رحلها ، كشمر بن ذي الجوشن ، وزجر بن قيس ، وسنان بن أنس وخولي بن يزيد الأصبحي ، وحرملة بن كاهل ، وحجار بن أبجر ، وأمثالهم ـ لعنهم الله ـ ممن لم يخلق الله في قلوبهم الرحمة فإذا دمعت عيناها أهوت عليها السياط ، وإن بكت أخاها لطمتها الأيدي القاسية ، وهكذا كان سفرها هذا(3).
ولله درّ من قال من الشعراء في وداعها للحسين(عليه السلام) ومسيرها من كربلاء :
أَحِجَابَ صَوْني في أَمَانِ اللهِ عَزَّ عليَّ مَسْرَانا وَجِسْمُكَ مُوْدَعُ
وَدَّعْتُكَ الكافي وَقَدْ سُدَّتْ عليَّ مَذَاهِبُ الآراءِ مَا بِكَ أَصْنَعُ
وَسَرَوا بِهَا والعينُ تَرْعَاهُ وَإِنْ حُجِبَتْ أَقَامَ فُؤَادُها يَتَطَلَّعُ
وقال آخر عليه الرحمة :
لَمْ أَنْسَ لا واللهِ زينبَ إِذْ مَشَتْ وهي الوَقُورُ إليه مَشْيَ المُسْرِعِ
تدعوه والأحزانُ مِلْؤُ فُؤَادِها والطَّرْفُ يَسْفَحُ بالدموعِ الهُمَّعِ
أَأُخَيُّ مَالَكَ عن بَنَاتِكَ مُعْرِضاً والكلُّ منك بِمَنْظَر وَبِمَسْمَعِ
أَأُخَيُّ مَاعَوَّدتني مِنْكَ الجَفَا فَعَلاَمَ تجفوني وتَجْفُو مَنْ مَعِي
أَنْعِمْ جواباً يا حسينُ أَمَا ترى شَمِرَ الخَنَا بالسَّوْطِ كَسَّرَ أَضْلُعي
فَأَجَابَها من فَوْقَ شَاهِقَةِ القَنَا قُضِيَ الْقَضَاءُ بما جرى فاسترجعي
وتكفَّلي حَالَ اليَتَامى وانْظُري ما كنتُ أَصْنَعُ في حِمَاهُمْ فَاصْنَعي
الهوامش:
1-بحار الأنوار ، المجلسي : 45/62 .
2-لواعج الأشجان ، السيد محسن الأمين : 197 ـ 198 .
3-مثير الأحزان ، الجواهري : 137 .
4-وفيات الأئمة (عليهم السلام) ، مجموعة من علماء البحرين والقطيف : 452 .
المصدر:كتاب"المجالس العاشورية في المآتم الحسينية"