على الرغم من أن الجهل صفة مذمومة لم تُذْكَر في القرآن الكريم غالبًا إلا على سبيل الذم واللوم، بل استعاذ منها موسى عليه السلام كما حكى رب العزة في القرآن في قوله: "قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" [البقرة: 67].
على الرغم من ذم هذه الصفة فإنَّ كلَّ البشر بلا استثناء يتَّصفون بها من وجهٍ من الوجوه؛ فهم يعلمون أشياء ويجهلون أشياءً أخرى، حتى أكثر العلماء علمًا في مجالٍ معيَّنٍ لا بُدَّ أنَّه جاهلٌ في مجالٍ آخر.. وإنَّما يُذَمُّ حقيقةً الجاهل الذي لا يسعى إلى تحصيل العلم، والجاهل الذي يجهل أمرًا مُشتَهرًا جدًّا بين الناس، أو كما يقول الفقهاء: الجاهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة..
وهذا النوع الأخير -وهو الجهل بالأمر المشتهر- هو ما نعنيه في هذا المقال، وإلَّا فكلُّ البشر جاهلون، أو على الأقل كانوا في مرحلةٍ ما من عمرهم جاهلين، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مرحلة العلم..
وبما أنَّ دين الإسلام دينٌ جديدٌ على الجزيرة العربية أيام بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن قدوم الجاهلين بأحكام الإسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا، ومع هذه الكثرة إلا أنَّه لم يفقد هدوءه أو حِلْمَه في يومٍ من الأيام، بل تعامل مع كلِّ هذه المواقف برحمته المعهودة..
مع معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه
يقول مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ؛ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ؛ فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ؛ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ؛ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي؛ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ"[1].
في هذا الموقف نرى بوضوح رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعاوية بن الحكم رضي الله عنه، والذي كان جاهلًا إلى حَدٍّ كبير بتعاليم الصلاة، وهذه الرحمة لفتت نظر معاوية رضي الله عنه حتى إنه ذكرها وعلَّق عليها؛ فقال: "فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ"..
وكأن معاوية كان يتوقع الزجر والتعنيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ثورة المصلِّين حوله ومحاولتهم إسكاته، فقال معاوية في سرور: فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، وكأن هذه كانت أمورًا متوقَّعة.. لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه القول السيئ، ولا يقسو على أحدٍ أبدًا..
مع الصحابة في المسجد
وفي يومٍ آخر رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُغضِبُ عادةً أي إنسان، ومع ذلك فإن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظَلَّت رد فعله، فتعامل بهدوء ورفق لا يشابهه فيه أحد..
يروي ذلك الموقف جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيقول: "أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِنَا هَذَا وَفِي يَدِهِ عُرْجُونُ ابْنِ طَابٍ[2]، فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِالْعُرْجُونِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: فَخَشَعْنَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قَالَ: فَخَشَعْنَا ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يُعْرِضَ اللَّهُ عَنْهُ؟ قُلْنَا: لَا أَيُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قِبَلَ وَجْهِهِ فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ رِجْلِهِ الْيُسْرَى[3] فَإِنْ عَجِلَتْ بِهِ بَادِرَةٌ [4] فَلْيَقُلْ بِثَوْبِهِ هَكَذَا، ثُمَّ طَوَى ثَوْبَهُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ؛ فَقَالَ:
أَرُونِي عَبِيرًا، فَقَامَ فَتًى مِنْ الْحَيِّ يَشْتَدُّ[5] إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِخَلُوقٍ[6] فِي رَاحَتِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِ الْعُرْجُونِ ثُمَّ لَطَخَ بِهِ عَلَى أَثَرِ النُّخَامَةِ؛ فَقَالَ جَابِرٌ: فَمِنْ هُنَاكَ جَعَلْتُمْ الْخَلُوقَ فِي مَسَاجِدِكُمْ"[7].
فمع أن الموقف قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه توقير للمسجد، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحمته لم ينفعل، ولم يسأل عن الفاعل، ولكن علَّمهم بهدوء ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، بل وأزال بنفسه النخامة وطيَّب مكانها...
وأختم هذا المبحث بموقف مشهور، ولكنه آية من آيات رحمته صلى الله عليه وسلم، فلا يقدر على ذلك فعلًا إلا نبي!!
مع الأعرابي
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ[8] فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ[9]. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُزْرِمُوهُ [10] دَعُوهُ، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"، أَو كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ[11] عَلَيْهِ"[12].
ووالله إنَّه لموقفٌ نادرٌ حقًّا!!
إن أَحْلَمَ الناس في هذا الموقف سيكتفي بأن يأمره بأن يقطع بوله، فكفاه ما فعل بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد هَمَّ الصحابة أن يقوموا بذلك فعلًا مع حلمهم المشتهر وأدبهم المعروف.. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بما لم يأتِ به الأولون والآخرون!
لقد تعاظمت رحمته حتى شملت هذا الأعرابي، الذي لم يتخلَّق بعدُ بأخلاق المدينة، بل ظل على جفاء البادية.. أي رحمة هذه التي نتحدث عنها!!
أترانا لو بحثنا عن مثل هذه المواقف في تاريخ الأمم هل سنصل إلى شبيه أو مثيل؟!
إنَّ الإجابة على هذا السؤال توضح الفارق الجليَّ بين أخلاق عامَّة البشر وأخلاق النبوَّة، وصدق الله العظيم إذ يقول: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء: 107].
د. راغب السرجاني
[1] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة (537)، والنسائي (1218)، وأبو داود (930)، وأحمد (23813).
[2] عرجون ابن طاب: العرجون هو العذق من النخل، وقيل: إذا يبس، وابن طاب نوع من تمر المدينة منسوب إلى ابن طاب رجل من أهلها. ابن منظور: لسان العرب1/566، 13/284.
[3] إذا لم يكن هناك بساط أو حصير.
[4] عجلت به بادرة: غلبته نخامة.
[5] يشتد: يسرع.
[6] خلوق: نوع من الطيب أصفر اللون.
[7] مسلم: كتاب الزهد والرقاق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (3008)، وأبو داود (485).
[8] قيل: هو ذو الخويصرة اليماني، أو ذو الخويصرة التميمي، أو الأقرع بن حابس، أو عيينة بن حصن فالله أعلم. انظر: فتح الباري10/439.
[9] مَهْ مَهْ: كلمة للزجر.
[10] لا تُزرِمُوه: لا تقطعوا عليه بوله.
[11] الشنُّ: الصبُّ والسكب.
[12] البخاري: كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (217)، مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطْهُر بالماء من غير حاجة إلى حفرها (285)، الترمذي (147)، النسائي (56)، ابن ماجة (528)، أحمد (13007).