طوبى لك يا عابس ولأصحابك البررة إذْ فزت مرّتين، مرّة أنّك نلت الشهادة بين يدي إمام زمانك، وأخرى أنّه خُطَّ اسمك بأثمن من الذهب...
الشيخ تامر محمد حمزة
العاشقون كُثر، ولكنّ المخلصين في عشقهم قليل. ومَن بلغ في عشقه المنى وتذوّق بحبّه المبدأ حتى فنيَ، فهم أندر من الكبريت الأحمر، أولئك بماء الدهر عُجنوا ومن عين الحياة شربوا، شغَلهم المبدأ عن أنفسهم فبه افتُتِنوا، وحينما أقاموا في ظلّ وجوده، في ظلّه استتروا، وسبَّحوا في نور مصباحه، فبوهجه احترقوا، ولمّا بلغ السير والجهد فيهم محلّ المحو والفناء، بدأت حكاية الولادة وملحمة البقاء. وأيقونة هؤلاء... ذاك الذي أجنَّه حبّ الحسين عليه السلام.. عابس الشاكريّ.

* من خواصّ الأمير عليه السلام
هو عابس بن أبي شبيب شاكر بن مالك بن صعب(1). قبيلته بنو شاكر، هي بطن من همدان. وقد عُرفوا بأنّهم من شجعان العرب وحماتهم، وكانوا يُلقّبون بفتيان الصباح(2). كانت هذه القبيلة من القبائل المعروفة بولائها لأمير المؤمنين عليه السلام وفيهم قال: "يوم صفّين لو تَمَّتْ عِدَّتُهم ألفاً؛ لعُبِد الله حقّ عبادته"(3).
وكان عابس، من رجال الشيعة، رئيساً شجاعاً خطيباً ناسكاً متهجّداً(4). وقد عدَّه الشيخ الطوسي قدس سره من خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام(5)، وقيل إنّه قد جُرح في معركة صفّين وبقي أثر الجرح في جبينه حتّى آخر حياته، ويؤيّد ذلك وصف الطبريّ لعابس في كربلاء، فقال: "وبه ضربةٌ على جبينه"(6).
مع الأسف، لا توجد عندنا نصوص تكشف لنا عن تاريخه قبل واقعة كربلاء، غير النصّ المذكور أعلاه.
* عابس أول المُجيبين
بعد وصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة ونزوله في دار المختار الثقفي حيث اجتمع حوله الناس، قرأ عليهم كتاب الإمام الحسين عليه السلام ما جعلهم يبكون، وكان أوّل المتكلّمين والمعلّقين على رسالة الإمام الحسين عليه السلام عابس بن أبي شبيب، الذي قال: "أمّا بعد، فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم وما أعرفك منهم، ولكن -والله- أخبرك بما أنا موطِّن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم، إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم، حتّى ألقى الله، لا أريد بذلك إلّا ما عند الله"(7).
ثمّ قام حبيب بن مظاهر وتكلّم وأعلن عن استعداده لنصرة الإمام، وكان لكلامهما الدور الرئيس في مبايعة الناس مسلم بن عقيل، حيث بايعه آنذاك أكثر من ثمانية عشر الفاً(8).
* وضوح المسار والمصير
يُستفاد من كلمته المختصرة، التي حدَّد فيها مساره ومصيره النقاط التالية:
- الأولى: لم يتكلّم باسم أحد، حتّى عشيرته، فهل هذا يكشف عن معرفته الحقيقية بمواقف أهل الكوفة المذبذبة، أم أنّ الحدث يحتاج إلى وضوح في الموقف حيث لا لبس فيه؟
- الثانية: حدَّد موقفه من القضيّة حتّى لو كانت تتطلّب منه بذل الغالي والنفيس.
- الثالثة: البصيرة التي يتحلّى بها.
- الرابعة: إخلاصه وتفانيه، مريداً بذلك وجه الله تعالى. بعد ذلك هو لم يتردّد أو يتكاسل، بل استمرّ في إقدامه إلى حين الاستشهاد في ساحة كربلاء.
* عابس رسول مسلم إلى الحسين عليه السلام
لقد فاز عابس بأن يكون الرسول المؤتَمَن إلى الإمام الحسين عليه السلام عندما كان في مكّة. فبعد أنْ بايع أهل الكوفة مسلم بن عقيل كتب إلى الإمام الحسين عليه السلام كتاباً يقول فيه: "فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجِّل بالقدوم حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولا هوى". ثمّ اختار لحمل الرسالة عابس الشاكريّ(9) وقيس بن مسهّر الصيداوي. ثمّ توجه عابس ومعه مولاه شوذب نحو مكة ووفى بأداء الأمانة إلى أهلها حينما دفع الكتاب إلى الإمام الحسين عليه السلام.
أقول: المصادر التاريخيّة المتخصّصة لم تجمع على أنّ عابساً هو رسول مسلم إلى الإمام الحسين عليه السلام، وإنّما قد ذكرت مجموعة من أسماء الرسل. وليس من البعيد أن يكون مسلم قد اعتمد خطّة أمنيّة باعتماده عدداً من الرسل يحمل كلّ واحد منهم بعضاً من رسائل أهل الكوفة، إذ ليس من السداد أن يقع الاختيار على رسول واحد يجمع رسائل أهل الكوفة؛ لما تنطوي عليه من مخاطر عظيمة فيما لو كانت بيد رسول واحد احترازاً من وقوعها في أيدي الأمويّين؛ فيكون سبباً لمعرفة الأسماء والوجوه والأشخاص التي بايعت، ومن الضروريّ أن يتمّ اختيار مجموعة من الرسل لنقلها بصورة متفرّقة إلى الإمام الحسين عليه السلام ومن بينهم عابس الشاكريّ. وهكذا يمكن الجمع بين مَن ذُكرت أسماؤهم في كتب التاريخ.
* عابس عاشق الحسين عليه السلام
لمّا اشتد القتال في يوم عاشوراء، وقُتل من قُتل من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام جاء عابس الشاكريّ ومعه شوْذب(10) فقال لشوْذب: "ما في نفسك أن تصنع؟ فقال شوذب: ما أصنع؟ أقاتل معك دون ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أُقتَل. فقال عابس: ذلك الظنّ بك. أمّا الآن فتقدَّم بين يدَي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتّى أحتسبك أنا، فإنّه لو كان معي الساعة أحد، أنا أولى به منّي بك، لسرَّني أن يتقدّم بين يدي حتى أحتسبه، فإنّ هذا يومٌ ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه، بكلّ ما نقدر عليه فإنّه لا عمل بعد اليوم وإنّما هو الحساب.
وبعد أن قُتل شوذب تقدّم عابس إلى الحسين عليه السلام وقال: يا أبا عبد الله -أما والله- ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك، ولو قُدِّر عليّ أن أدفع عنك الضيم والقتل بأعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلته. السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّي على هداك وهدى أبيك. ثمَّ مشى بالسيف مصلّتاً نحو القوم وبه ضربة على جبينه، فطلب المبارزة"(11).
* مبارزته واستشهاده
يقول الربيع بن تميم الهمدانيّ، وكان في معسكر عمر بن سعد: "لمّا رأيت عابساً عرفته وكنت قد شاهدته في المغازي والحروب وكان أشجع الناس، فصحت: أيّها الناس هذا أسد الأسود هذا ابن أبي شبيب، لا يخرجنّ إليه أحد منكم، فأخذ عابس ينادي: ألا رجل ألا رجل؟ (وهو يطلب مبارزاً لنفسه) فلم يتقدَّم إليه أحد. فنادى عمر بن سعد: ويْلَكم! ارضخوه بالحجارة. فرُميَ بالحجارة من كلّ جانب. فلمّا رأى ذلك ألقى درعه، ثمّ شدَّ على الناس فوالله لرأيته يطارد أكثر من مئتين من الناس، ثم إنّهم تعطّفوا عليه من حواليه فقتلوه، واحتزّوا رأسه، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدّة، هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته، فأتوا عمر بن سعد، فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله إنسان واحد كلكم قتله، ففرّقهم بهذا القول"(12).
* شوذب مولى عابس
هو شوذب بن عبد الله الهمدانيّ الشاكريّ، وكان من رجال الشيعة ووجوهها، ومن الفرسان المعدودين، وكان حافظاً للحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام حاملاً له(13). وانتهى المطاف به شهيداً بين يدي الإمام الحسين عليه السلام.
* عابس على لسان صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
طوبى لك يا عابس ولأصحابك البررة إذْ فزت مرّتين، مرّة أنّك نلت الشهادة بين يدي إمام زمانك، وأخرى أنّه خُطَّ اسمك بأثمن من الذهب، حيث جرى اسمك على لسان صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، إذ سلَّم عليك في الزيارتين المأثورتين "الناحية المقدّسة" و"الرجبيّة"(14).
فقد ذُكر عابس في زيارتي الإمام الحسين (ع) الرجبية والناحية المقدسه بهذا القول: "السلام على عابس بن شبيب الشاكري".
وقد أورد الشيخ عباس القمي في كتابه نفس المهموم: "السلام عليك يا عابس بن أبي شبيب الشاكري أشهد أنك مضيت على ما مضى عليه البدريون والمجاهدون في سبيل الله".
وفي الختام، من الغرابة بمكان أن يكون رجل له هذه الشأنيّة من الرئاسة والشجاعة والتكلّم والعبادة وحضوره معركة صفّين، ثمّ لا يُسلّط الضوء على سيرته ومسيرته. ولا ندري هل كانت له سيرة كما لغيره ثمّ لم تصلنا وضاعت كما ضاع الكثير، أم هي حكمة إلهيّة بالغة شاء الله أن يدّخر أمرها لتظهر يوم كربلاء فقط؟!.
الهوامش:
1-بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص73.
2-مقتل الحسين عليه السلام، أبو مخنف الأزدي، هامش ص 154.
3-إبصار العين في أنصار الحسين، الشيخ محمد السماوي، ص126.
4- تاريخ الطبري، ج3، ص 279.
5-رجال الطوسي، ص78.
6-تاريخ الطبري، ج3، ص329.
7-الطبري، ج5، ص355.
8- (م.ن).
9-الطبري، ص 375، وسيلة الدارين في أنصار الحسين، ص158.
10-إبصار العين في أنصار الحسين، (م.س)، ص127.
11-تاريخ الطبري، ص444.
12-(م.ن)
13-إبصار الحسين، (م.س)، ص129.
14-بحار الأنوار، (م.س)، ج45، ص70.
المصدر:مجلة بقية الله