مخيلة الأمكنة - مدن ونصوصِ
ﺗﺄﻟﻴﻒ خليل النعيمي
ماذا يعني المكان بالنسبة للكائن! سؤال يطرح علينا كثيراً عندما نسافر، ونكاد نكتشف في كل مرة، أننا عاجزون عن الجواب. نكتشف أيضاً، على عكس ما تعلمناه عن "أحادية العواطف" الكاذبة، أننا قادرون على أن نحب أكثر من مكان، في آن واحد! (تماماً، كما نفعل مع الكائنات). من السفر نتعلم أن نرى أبعاد الأمكنة المتعددة والبعد الحقيقي للآخر الذي يسكنها "فالبعد الواحد" لا وجود له، في الحقيقة، إلا في ذهن الكائن الخامل، وهو ما ينشط مخيلتنا التي تكاد أن تغفو في "فضائها المعتاد"! وهذا الفعل المكاني بامتياز سيكون مصدر حبها المتجدد له ومصدر مهماً لإقامة علاقة ودية مع الآخر.ففي السفر يتألق التاريخ الشخصي للكائن، وتتفجر دهشته. الدهشة التي كاد أن يدفنها في ركام مكانه الأليف. فيه يغدو التخلص من براثن "الأمكنة الملتهبة" نوعاً من مقاومة الهلاك النفسي المخيف! ومع ذلك يظل السؤال قائماً: كيف نبدع الأمكنة؟ كيف نغني مخيلتها، ونصونها من الموت؟ سافروا! سافروا تكتشفوا المكان الذي تبحثون عنه ذات يوم، والآخر الذي تجهلوه، فالمكان لن يبدعه، لا لمن "ينام" فيه!تلك هي فلسفة خليل النعيمي التي انبثقت من خضم تجارب رحلاته المتعددة في بلاد الله الواسعة، حيث ألهمته "مخيلة الأمكنة" الإسهام في عمل أدبي، رفيع المستوى، يعد ظاهرة ملفتة في أدب الرحلات المعاصر. سيكتشف القارئ، وبعد قراءته لهذا العمل أكثر من ذلك، أكثر من فلسفة المكان، سيكتشف الظاهرة الشرقية في قراءة الآخر الغربي وتأويله. من خلال رؤية معاصرة. لقد عرف الجميع فيما مضى تلك الظاهرة الغربية في قراءة الآخر الشرقي وتأويله، حيث شكلت تلك الظاهرة ذات يوم دافعاً ومحرضاً بالنسبة إلى الأفراد من النخب العربية المثقفة ممن وجدوا أنفسهم في مواجهة صور غربية لمجتمعاتهم جديدة عليهم، وهو ما استفز فيهم العصب الحضاري، وولد لديهم دوافع وأسباباً لشدّ الرحال نحو الآخر، بحثاً واستكشافاً، ليعودوا ومعهم ما يقولونه في حضارة الآخر الغربي، ونمط عيشه وأوضاعه، ضاربين في ذلك الأمثال للناس، ولينبعث في المجتمعات العربية، وللمرة الأولى، صراع فكري جاد تستقطب فيه القوى الحية في المجتمع بين فريد للغرب موالٍ له ومتحمس لأفكاره وصياغاته، وبين معادٍ لذلك الغرب، رافض له، ومستعد لمقاتلته. وهو ما أثرى المكتبة العربية بعدد من المؤلفات لأحمد فارس الشدياق، محمد عبد الله الصفار، محمد الحجوي أبو جمال الفاسي، فرانسيس المرّاش، سليم بسترس أحمد، زكي باشا، جرجي زيدان، طه حسين، ومحمود تيمور وغيرهم.لكن هذا اللون سرعان ما اختفى في النصف الثاني من القرن العشرين، تاركاً مكانه لأعمال البحث الفكري والكتابات الأيديولوجية في حمأة صراع سياسي واجتماعي عربي محتدم، إضافة إلى ظهور الرواية وانتشارها الواسع في النصف الثاني من القرن نفسه. غفا السندباد واختفى أدب الرحلة، ولم تعد الكتابة في هذا الميدان تشكل ظاهرة أدبية يمكن الإشارة إليها. إلا أنه ومع خليل النعيمي وأمثاله، يعود هذا الأدب إلى التألق من جديد، وبأسلوب معاصر متميز. وتجدر الإشارة إلى أن هذا العمل يأتي في سلسلة "سندباد الجديد" التي تحتفي بأدب الرحلة وتتطلع إلى بعث واحدٍ من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية.الناشر:في السفر يتألق التاريخ الشخصي وتتفجر دهشته والسفر بالنسبة إلى صاحب هذه اليوميات نوع من مقاومة الهلاك النفسي، والسؤال كما يطرحه الكاتب هو كيف نبدع الأمكنة؟ سافروا! سافروا، تكتشفوا المكان الذي تبحثون عنه ذات يوم.