يقال إن الحاضر لا وجود له، بل إن الزمن يكاد ينقسم إلى ماضي ومستقبل دون وجود حاضر، فلا معنى للحظة حاضرة الان، فعندما تقول (الآن) تكون اللحظة قد تم ابتلاعها في الماضي، وحتى لو قلت (الساعة الحالية) فالساعة نفسها التي أنت تعيشها جزء منها يكون في الماضي، وآخر في المستقبل.
ولكن الإدراك (إدراكك لنفسك و الأشياء من حولك) على اي حال يعمل في الحاضر قطعا، و هذا هو الدليل الوحيد على وجود شيء إسمه (الحاضر)، ولكن لأن الحاضر هو نتاج الماضي بكل حوادثه، فإن المستقبل هو نتاج لقراراتك التي يتخذها إدراكك في الحاضر، الماضي دائما ينطوي على حقيقة واحدة محفورة في ذاكرة الزمان والمكان، أما المستقبل فهو مجموعة لا متناهية من الإحتمالات، ولكن أي لحظة مستقبلية معينة، باحتمالات لا متناهية عندما تمر، فتتقلص جميع احتمالاتها (او حقائقها الممكنة) إلى احتمال واحد يصبح هو الحقيقة ويخلد إلى الأبد Collapsing of Possibilities
ماذا يدل هذا ؟ يدل على إن نظام هذه الحياة يجعلك تتحكم بمستقبلك فقط، وليس بماضيك، ومحاولة التحكم هذه هي في حقيقتها ترجيح لإحتمالات معينة دون آخرى، فأنت تعمل ما بوسعك لترجيح الاحتمالات التي تحكم عليها إنها "جيدة" وتحاول تقليل احتمالية وقوع الإحتمالات التي تراها سلبية، عملية الترجيح تسمى باللهجة الدارجة بـ "التخطيط"، ولكنها في حقيقتها ترجيح لانك لا يمكن بأي حال من الاحوال إيجاد خطة لكل احتمال ممكن قادم في لحظة مستقبلية.
في حياتنا دائما نرجح، نعمل على امل ان نرفع عنا حالة الفقر، قد ننجح في هذا أو لا، ولكن بدون العمل على اي حال لن يتم رفع حالة الفقر، و مع العمل يكون ممكنا، وندرس لكي ننجح في الامتحان، ومهما درسنا يبقى هنالك احتمال ان نرسب، انت فقط "ترجح" قدر ما تستطيع ولا تتحكم فعليا، وعلى اي حال، عندما تريد ان تغير من حاضرك، فعليك ان تحاول ولو بالحد الأدنى ان ترجح احداث المستقبل
الإتجاه الحديث في التعلم يرتكز على هذه القواعد، ليبني نظرية مهمة، إن عقل الإنسان يجب استغلاله لتحقيق مستقبل أفضل لأنه لا يمكن بناء ماضي افضل، ينصحك التفكير العلمي ان لا تملأ عقلك بالمعلومات والبيانات، لانك مجرد تصنع "نسخة أخرى" من معلومات موجودة اصلا، عقل الإنسان محدود، وامكانياته الإدراكية التي تشتمل على "الذاكرة الداخلية" و "الإبداع أو التفكر" .. يقول لك الإتجاه الحديث في العلم، إنك عندما تملأ عقلك بمعلومات مسبقة، فإنك لا تدع مجالا للإبداع والعكس صحيح،وإن كان الإبداع يتطلب معلومات او معطيات ابتدائية، فإنك يجب ان تحرص ان تقلل إلى أقل حد ممكن الذاكرة الداخلية لعقلك. لتفسح المجال لخلايا الإبداع ان تعمل.
أما عندما تملأ عقلك بمعلومات عن أحداث وأشياء مسبقة، فأنت لن تخفق فقط في إبداع افكار جديدة، ولكنك ستتحول للعيش في العصر الماضي بجسد حاضر، فكل ما يحدث امامك سيذكرك بالماضي، بدل ان يعطيك افكارا حول المستقبل، نعم ستأكل وتشرب وتمارس حياتك، ولكنك عقلك يعمل في مجال الذاكرة، وليس في التخطيط للمستقبل، لن تستطيع تغيير شيء بالتأكيد لان الحقائق الماضية هي خالدة غير قابلة للتغيير، unchangeable
اليوم كل ما تحتاجه من معلومات عن الماضي موجودة في حواسيب ضخمة وتستطيع طلبها بضغطة زر عند الحاجة إليها. وإن كانت سابقا كلمة "موسوعة" عندما تطلق على شخص تستخدم للمبالغة في مدح مستواه العلمي فهي اليوم تعتبر ذماً بالمقياس العلمي، لان "الموسوعة" هذا سيخفق في إنتاج اي شي جديد ليفيد به نفسه أو غيره ويكون إتجاهه تقليديا ومحددا للغاية، ولن يستطيع ذهنه تقبل تغير الاشياء والقواعد بسهولة، لان المعلومات الاولية بني عليها معلومات اخرى في ذاكرته، واذا انتفت إحدى القواعد التي ترتكز عليها ذاكرته، وقامت الحجة على بطلانها بالدليل، سيتجه إلى حالة الإنكار بدل الإذعان للدليل ومحاولة إعادة ترتيب القواعد لديه، فهو غير مستعد للإطاحة بكل ما بني على تلك القاعدة من معلومات واستنتاجات جمعها طوال حياته، بعضهم يفعل، ولكن الغالب لا .. وهذه القواعد التي قد نسميها "قناعات" في حالة أغلب البشر ممن قضى ردحا من الزمن وهو يمتلك هذه القناعة، فهو غير مستعد بسهولة لتغييرها.
ما أظنه صحيحا إن الإنسان يجب ان يدرب نفسه على مبدأ "المرونة"، وأعني به تقبل امكانية وجود حقائق جديدة او قواعد جديدة، لا مؤكد إلا إنه لا شيء مؤكد، وأقول "يدرب نفسه" لان المرونة من هذا النوع تحتاج إلى تمرين مستمر والحذر من الوقوع في مطب ترسخ القناعات، فلا يوجد راسخ ومطلق سوى الله.