لم أعرف في حياتي عيداً مر على المسلمين وليس لهم فيه مأساة في شرق الأرض أو في غربها لذلك لن أُرَدِّدَ كما فعل آخرون قول المتنبي (عيد بأية حال عدت ياعيد) فنحن أمة اعتادت إعطاء العيد حقه حتى وهي في قلب المأساة فكيف بها إذا كانت المأساة على مشارفها أو أطرافها , كل المسلمين حتى الذين في درعا وحماة وحمص ودير الزور وريف دمشق والذين بأرض الروهنج في ميانمار وأثيوبيا سيعطون العيد حقه ويفرحون به وبعضهم ينفض الغبار عن ثياب بعض من آثار دفن شهدائهم , وربما يتوجهون من مصلى العيد لدفن جثثٍ أخرى أو نقل جرحى آخرين أو رفع أنقاض أسقطها للتو طيارون لا يعرفون لمسلم حرمة فمن باب أولى ألا يعرفوا حرمة لشهر أو عيد.
سوف تتوجه الثكلاوات إلى مصلى العيد وعلى آثارهن اليتامى , وسوف يذهبُ إليه الجرحى والمعاقون , لن يتخلف أحدٌ عن مشهد يوم العيد , وسوف تسمعهم يرددون لبعضهم رغم كل تلك الجراحات والآلام : عيدكم مبارك , عيدكم مبارك , عيدكم مبارك.
الأعجب من ذلك أنك ستشاهد من الثكلاوات من سهرت ليلها تصنع حلوى العيد بما بقي عندها من دقيق وما بقي عند جاراتها من حليب وسُكَّر, وستقابل في المصلى من أطفالهن اليتامى من يحمل صحن الحلوى يطوف بها بين المصلين وهو يردد أمامهم : عيد مبارك , ويردون عليه العبارة ذاتها عيد مبارك.
سيذهب الجميع لصلاة العيد تاركين بيوتهم والعاجزين من أهلهم وكلٌ منهم غير آمنٍ أن يكون هذا يومه الأخير على وجه الأرض , فقد تعلوهم الطائرات في المصلى أو يقصفهم الشبيحة في الطريق إليه , ومع ذلك قال كلٌ منهم لصاحبه : عيد مبارك عيد مبارك. ليست هذه الصورة خيالاً أو أمانيَّ حالمة , بل قد شهدنا أمثالها في سوريا نفسها , وفي فلسطين وليبيا وغربي الصين وأفغانستان والبوسنة والهرسك والشيشان والصومال وأثيوبيا وأوغادين .
كأني بفرحة العيد في قلب المسلم لها زاويتها الخاصة حيث لا تُفسدها الأحزان والألام , بل تعمل هي على تجديد عطاء القلوب وتُشِعُ فيها قوة الصبر وتُشِيعُ فيها ضياء الأمل .
وكأني بها زاويةٌ في القلب لديها قُدرة من عطاء الله سبحانه على تحويل فرحة العيد إلى مصل يعمل على تسكين الألم وبعث الأمل وقتل اليأس وإحياء الرجاء.
تأمَّلَ كثيرون في أسرار حُلُول أعياد الإسلام في أعقاب عبادَتَي الصوم والحج , وعن سر افتتاح يومي العيد بعبادتي الصلاة و الخطبة, ولم أجد من يكشِف هذه الأسرار مثل واقع المسلمين حين يستشعرون هذا المعنى وهم في أحلك الأوقات وأصعب الأزمات , فيكون عيدهم صلة بينهم وبين خالقهم الذي ( يُدَبِّرُ الأمر مِن السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعرُجُ إليه في يوم كان مِقدارُه ألف سنة مما تعدون) السجدة 5 فيوقنون أن تدبيرهم إنما هو من تدبيره عز وجل , فلا ملك إلا لمن آتاه الله الملك , ولا عز إلا لمن أعزه الله ولا ذُل إلا لمن أذله الله ( قل اللهم مالك الملك تُؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتُذِل من تشاء بيدك الخير إنك على كلِّ شئٍ قدير)آل عمران 26 . إن حياة العيد في أجواء من العبادة يُعيد النفس إلى تأمل سنن الله في الكون , فيوقن المُسلم أن للمصائب أسباباً من عند نفسه (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى 30 ومن سُنن الله في كونه أن مصائب المؤمنين قرابينهم للآخرة (أحسب الناسُ أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) العنكبوت 2-3 , فهي ابتلاء لما في القلوب وتمحيص لها ( وليبتليَ الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور)آل عمران .
ثم يعلمون أن الإيمان والتقوى هما ما ينبغي أن يقابلون به الابتلاء والتمحيص لتكون العاقبة تمكيناً واستخلافا وأمنا ( وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمَكِّنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ولَيُبَدِّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يُشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) النور 55 .
كل تلك القناعات الإيمانية يعتلج بها قلب المسلم وهو يُمضي العيد في خضم الابتلاءات فلا يملك إلا أن يفرح بعيده ويقول صادقا من قلبه : عيد مبارك