بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ العارف المؤمن لينظر بنور الله سبحانه وتعالى، وقد جعل الله له نوراً يمشي به، ويسعى بين يديه وعن أيمانه، وفي رحلته إلى ربّه وفي سيره وسلوكه لابدّ له من زاد وراحلةٍ، وبأقدام ثابتة، ووسيلة تنقله في منازل السّائرين عبر المقامات الملكوتية، والحالات الشهوديّة، في طيّه مراحل ومراتب ودرجات السير والسلوك ليصل إلى الكمال المُودع في فطرته الموحّدة والعاشقة للكمال المطلق وجمال الله وجلاله، وذلك بقدم المعرفة الحقيقية إلى حريم غيب الغيوب الذي ظهر نوره في وادي الطفوف في يوم عاشوراء يوم الحتوف، حيث تجلّى الحبّ الإلهي المتجلّي في عوالم المُلك والملكوت في قوسي النّزول والصعود، وقد إختلفت آراء وأقوال العارفين والواصلين في الوسيلة والزاد والراحلة التي يطوي بها جميع منازل أهل المعرفة والسير والسّلوك، فمنهم من قال بالحكمة، ومنهم من قال بالعبادة كالصلاة والصوم، وقيل: بالأذكار والتقوى وآخرون بالتفكر بعظمة الخالق والخلق، والسير من الخلق إلى الحقّ بالحقّ، ومن الحقّ غلى الخلق بالحق، وقيل وقيل، وتاهت العقول في الدّهشة والتحيّر، وإنصدعت القلوب التي في الصدور في الوقوف والوقوع على المنهج القويم والصراط المستقيم والسبيل الحقيقي الموصول إلى حقيقة الحقائق وغيب الغيوب.
ولكنّ نور قلب المؤمن الذي هو من نور الله المنبسط فيه يرشده إلى أنّ جميع الطرق غلى الله سبحانه وسير منازل السائرين والسالكين إلى الله عزوجل وكلّ ما يذكر من الزّاد والرّاحلة مما يوصل العبد المحبّ للقاء مولاه وحبيبه فهومن الطرق إلى الله وأنها بعدد أنفاس الخلائق إلّا أنّ أقرب الطرق إلى الله وخير الزاد والوسيلة، والفضل الأول والأخير، والنّور الأتم والنهج الأقوم لطي الراحل والمنازل ، إنّما يتمثل في الحبّ الحسيني لسيد الشهداء الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، فإنّ حبّه وعشقه وموّدته إنما هو عصارة وزبدة حبّ الله وحبّ رسوله (حسين منّي وأنا من الحسين) فهوأفضل عبادة، وافضل وردٍ وذكر وعمل لأجل للوصول لوجود المقتضي ورفع الموانع والحجب المانع من الوصول إلى الله سبحانه وتعالى.
فهو لمن سلك طريق الحق والحقيقة في الشريعة والطريقة عون إلهي، وبرهان عقلي، ونور قلبي، فإنّه بحبّ الحسين تمتدّ اليد الغيبية الإلهية والمدد الرّباني بعنايات فائقة، وألطافٍ خفية وجليّة، تنير السبيل والمسلك إلى رب العالمين.
فمن أراد خير الدنيا والآخرة، وسعادة الدين والدنيا، والسير والسلوك والوصول إلى الله سبحانه قاب قوسين أو أدنى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فليستنير بمصباح الهدى الحسين، ويركب السفينة الحسينيّة، فإنّه كُتب على عرش الله بلون أخضر، وهو لون المعرفة (الحسين مصباح هدىً وسفينة النجاة)، فليتعلق روحاً وجسداً بربّان السفينة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، ومن أراد أن يكون حُرّاً وسعيداً وناجياً في الدنيا والآخرة، فليتمسك بأبي الأحرار وقدوة الأبرار، وسيد الأخيار عليه السلام.
ولابدّ له أوّلاً وقبل كل شيء أن يتذّوق العشق الحسيني، فإنّ العشق هو الافراط الممدوح في الحب وشدته الذي هو ميل القلب الشديد نحو اللّذيذ والملذ، وايّ لذيذ ألّذ من الحقيقة الحسينية المتجليّة في يوم عاشوراء وفي زيارة عاشوراء، وكلما كان المُلذ أقوى واتم في اللّذاذة، كان الميل والحب أعظم وأكبر حتى يصل إلى حدّ الإفراط، فيسمى بالعشق الحقيقي إذا كان متعلقه هو الله جلّ جلاله، وما كان عليه إسم الله (اللّهم ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ كل عمل يوصلني إلى قربك)([1]).
ومنمثل سيد الشهداء في حبّ الله، أليس القائل في ما نُسب إليه في يوم عاشوراء:
تركتُ الخلق طرّاً في هواكا
وأيتمتُ العيال لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبّ إرباً
لما مَال الفؤاد إلى سواكا
فالعشق والحب المفرط إذا كان متعلقه غير الله كان مذموماً ، كما قال الإمام الصادق عليه السلام في العشق المجازي (قلوب خَلَت عن حبّ الله فأذاقها الله حبّ غيره) وأمّا في العشق الحقيقي وتعلّق القلب بالله، فلا معنى للإفراط فيه، لإنّ متعلق الحبّ هو الوجود المطلق في ذاته وصفاته وافعاله، فهو الكمال والجمال المطلق، فلا نهاية لحبّه حتى يصدق فيه عنوان الإفراط.
فمن تمسك بحبل سيد الشهداء عليه السلام في سيره وسلوكه، وتذوق المحبّة والمعرفة أمكتومة ومعانيها ومصاديقها في قلبه ووجوده، وجسّدها في واقعه الخارجي وفي حياته فقد سلك أقرب الطرق، وأفضل الزّاد للوصول إلى الله سبحانه وتعالى.
لأنّ الإمام الحسين في اختياره الشهادة والمصيبة العظمى والفجيعة الكُبرى في يوم عاشوراء وفي أرض كربلاء، إختار الطريق الذي رسمه الله وعيّنه له في صفحة الوجود في عالم الملك والملكوت والغيب والشهود، من خلال حبّه لله والفناء فيه والبقاء به، فهو التام في لمحبة، كما ورد في زيارة الجامعة الكبيرة (والتّاميّن في محبّة اله) إذ أنّ المحبّة من الكلّي المشكّك ذات المراتب الطولية والعرضية.
بما لا يُعدّ ولا يُحصى، في الأولوية والشدة والضّعف والتقدّم والتأخر، إلّا أنّ سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام جسّد المعنى الحقيقي للحبّ الإلهي في واقعة الطف الأليمة في اليوم العاشر من محرم الحرام سنة (61) من الهجرة النبويّة، حيث ظهرت أسرار الحقيقة وحقيقة الحقائق وحقيقة الأسرار في عاشوراء وفي كربلاء...
وهذا من معاني ما ورد في الحديث النبوي الشريف: (إنّ لقتل الحسين في قلوب المؤمنين حرارة لن تُبرد أبداً) وكذلك (إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة) ([2]).
فطوبى لمن كان من عرفني عشقني ومن عشقني عشقته، والعاشق يتوحّد في معشوقه وفي رؤية جماله ببصيرة قلبه، فيرى الحبيب والمعشوق حاضراً عنده في قلبه وسريرته، والقلب أشدّ إدراكاً وبصيرةً من العين والقوى الظاهرية، ومن ثمَّ طافت المعاني التي يدركها القلب كأسرار عاشوراء وتسليط الأضواء على زيارتها بالقلب أعظم من جمال كلّ الصور الظاهرة والمحسوسة، وألذ من كل اللذائذ الغيبية والشهودية، وهذا من المعرفة المكتومة المتمثلة في الحبّ والعشق الحسيني.
فبالعشق الحسيني تصل إلى حبّ الله، وتراه بقلبك بحقائق الإيمان، ويناجيك في سرّك وذات عقلك، وتعلم وتفهم أنّ أجلّ وأعلى اللّذات والمقامات، ونهاية المنازل والسير والسلوك في معرفة الله هو حبّه وحبّ لقائمه والنظر إلى سبحات وجهه الكريم، فمن شاهد جلالته وعظمته وجماله وبهائه في تجلياته في كتابه وفي خلقه، وجلال جبروته وملكوته في القاصدين إليه، والعارفين به، وأدركها في أعماق وجوده وبقلبه وعقله، وشاهدهما بأنوار ضياء بصائر القلب والفطرة، حينئذٍ سيترك اللّذائذ المانعة من الوصول (واستتغفرك من كل لذة ليس فيه إسمك)([3]). ولا يكاد يؤثر على هذه اللّذة النورانية لذائذ أخرى، إلّا إذا حرم منها بالحب الظلمانية أو النورية كالحجاب الأكبر وهو العلم الذي لا يقترن بالعمل، فكان من لمحرومين من لذّة حبّ الله وحبّ من يحبه محمّد وآل محمد عليهم السلام وحبّ سيد الشهداء عليه السلام.
فمحبّة الله هي الغاية القُصوى والنهاية الكُبرى للعارفين والمقربين، والذّروة العليا للسالكين والسائرين غلى الهل سبحانه، وما يذكر من مقامات بعد حبّ الله إنما هو ثمرة من ثمراته كالشوق والأنس، وما يذكر قبله إنّما هو مقدمة من مقدماته كالزّهد والصبر، وبالحب ظهر الوجود وبرز الموجود، وبالحبّ تميّز العابد من المعبود، وإنّه أساس كلّ شيء وأركانه، وحقيقته كما ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه المشهور في قوله: (كنت كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف).
فالقلوب والنفوس بفطرتها السليمة، يتجذّر فيها حبّ الخير والجمال والكمال المطلق، وكل قلب جُبل على حبّ منعمه، وخير ما يوصلنا إلى حبّ الله المنعم هو حبّ الحسين وحبّ الحسين أجنّني... ظاهره الجنون وباطنه العقل المطلق... والحمد لله ربّ العالمين.
-------------------
([1]).مفاتيح الجنان: مناجاة المحبين.
([2]).الخرائج والجرائح: 2: 841 والبحار: 243 و 271 ح39.
([3]).من أدعية مولانا الإمام السجاد عليه السلام.