بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال الله تعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ ﴾.
قال رسول الله‘: (كتب على يمين العرش بلون أخضر الحسين مصباح هدى وسفينة النجاة). صدق الله العلي العظيم وصدق رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين الشاكرين والحمد لله رب العالمين.
أما بعد: فإنّ من أهم الأعمال الصالحة، وأفضل القربات الخالصة، ذات المقام العظيم والثواب الجسيم، جنات الفردوس والنعيم، والنجاة من العذاب والجحيم، هو إقامة العزاء والبكاء على مصائب سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين سبط الرسول وريحانة البتول، شبل المرتضى وشقيق المجتبى وخامس أصحاب الكساء عليهم الآف التحية والثناء والصلاة والسّلام. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وليعمل العاملون، فإنّه لا يُلقّاها إلّا ذو حظٍ عظيم.
إنّ الله سبحانه وتعالى قد خصّ الإمام الحسين× جوهرة الكون الفريدة، آية المعبود الكبرى، وسرّ الوجود الأعظم بخصائص وميزات إنفرد بها دون جميع الخلائق، وسواء على الصعيد التكويني، أو الصعيد التشريعي.
ومن الأول: قد جعل الله الشفاء في تربته المباركة، كما جعله في ماء زمزم.
ومن الثاني: يحرم أكل الطين مطلقاً إلّا طين تربة الإمام الحسين× للإستشفاء، ويكره لبس السواد والجزع، إلّا على مصائب سيد الشهداء في محرم وصفر، وعلى هذين الصعدين من الشواهد والنماذج الكثير الكثير.
أو تدري أنّ الجنّة خلقها الله من نور الإمام الحسين× فكان العلّة الوجودية لها في عالم الإمكان وإذا كان في الجنة ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!! فما بالك بالعلّة الوجودية للجنة، فهل يمكن للبشر أن يقف على حقيقة الإمام الحسين×بل ما عنده الی یومنا هذا انما هو معشار عشر،اي واحد بالمأة ویبقی تسعة وتسعون فیظهر عند ظهور صاحب الزمان وفي یوم القیامة ،فما عندنا فهو غرفات بمقدار أكفّنا من بحار فضائله ومناقبه، بل ما عندنا في الواقع إنّما هو منهم وإليهم، ولولاهم لما عرفناهم.
لو قرءنا تراجم علمائنا الأعلام وفقهائنا العظام من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، وفتشنا عن أحوالهم لنكشف أسباب توفيقهم وبلوغهم وشهرتهم كالشيخ الطوسي والشيخ المفيد والسيدين الأخوين المرتضى علم الهدى والشريف الرّضي، والسيد مهدي بحر العلوم والشيخ عبد الكريم الحائري والعلامة المجلسي وسيدنا الأستاذ النجفي المرعشي() وغيرهم من الأعاظم فإنّ من أبرز أسباب توفيقهم هو تفاعلهم الخالص والمخلص مع قضية سيد الشهداء الإمام الحسين× وتنافسهم في إقامة المآتم والعزاء بكل أشكاله وألوانه إنطلاقاً من تعظيم شعائر الله سبحانه.
عن الإمام الرضا× في حديث مفصّل: (إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا...) () وعن مولانا صاحب العصر والزمان الحجة بن الحسن العسكري عجل الله فرجه الشريف: ( يا جدّاه لاندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً).
إنّ الإمام الحسين نور الله ومصباحه في عالم الوجود، إنّه الإنسان الكامل الذي تجلّى فيه إسم ربّه الأعظم، وحقيقة جدّه الأكرم، وقد برز في سيرته الذاتية ثورته الإصلاحية الخالدة بخلود الزمن.
وقد عاداه الجهل بكلّ مظاهره، وآثار الأعداء والمغفلين بين حين وحين الفتن والشبهات حول شعائره ونهضته، يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم وإعلامهم وشبهاتهم، ولكن أبى الله إلّا أن يُتمّ نوره الحسيني، حتى ظهور مولانا الإمام المهدي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، ويرجع الإمام الحسين× مع أصحابه الكرام في كرّة ورجعة ثابتة بالعقل والنّقل، حتى صارت من ضروريات الإيمان بمذهب أهل البيت^.
ثم التشكيك بمقامات أهل البيت^ وأقوالهم ليست بجديدة، ولا وليدة عصرنا هذا، بل كان حتى في عصر الأئمة^ بل حتى في عصر النبي الأعظم‘، فكان هناك من يبدي نوعاً من المعارضة ويقف في وجه أقوال الرسول الأكرم‘.
روى عن الإمام الصادق بسند معتبر في كامل الزيارات () قال: (كان الحسين بن علي× ذات يوم في حجر النبي‘ يُلاعبه ويضاحكه، فقالت عائشة: يا رسول الله ما أشدّ إعجابك بهذا الصبي؟
فقال لها: ويلك وكيف لا أحبّه ولا أعجب به، وهو ثمرة فؤادي وقرّة عيني؟ أما أن أُمّتي ستقتله، فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجة من حججي.
قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟!
قال: نعم حجتين من حججي.
قالت: يا رسول الله حجتين من حججك؟!
قال: نعم وأربعة.
قال: نعم لم تزل تزادّه ويزيد، ويضاعف حتى بلغ تسعين حجّة من حجج رسول الله‘ بأعمارها.
ومن أفضل أيام زياراته المباركة زيارته في يوم عاشوراء ومن أفضل الزيارات المأثورة بزيارة عاشوراء وقد ألقينا خلال السنين الماضية في شهر محرم الحرام الأضواء عليها لشرحها وتفسيرها، وبيان بعض النقاط فيها، لتكون إضاءات وإشراقات في حياتنا العلمية والعملية، الفردية والإجتماعيّة.
ولا يخفى إنّ الإشكالات والإعتراضات والشبهات التي تثار حول الشعائر الحسينية والزّيارات والمآتم ومظاهرها ومعالمها ليست بجديدة، ولا تزال هناك من يجّج النّار وينفخ في الغبار، إلّا إنّه قد ثبت بالبيان والعيان أنّه لم تورث أصحابها إلّا الفضيحة والخيبة والحرمان، لأنّ الله عز وجل قد أوعد ووعد، أن لا يزيد معارضي قضية الإمام الحسين× إلّا الخيبة والذّلة، وشعائر الإمام الحسين× إلّا الظهور والعزّة.
وما أروع وأعظم ما أخبرتنا به عمتنا الحوراء زينب الكبرى سلام الله عليها بمستقبل ثورة أخيها الحسين×؟! كامل الزيارات بإسناده عن مولانا وجدّنا الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين÷ قال: لما أصابنا بالطّف ما أصابنا، وقتل أبي × وقُتل من كان معه من ولده وإخوته، وسائر أهله، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة، فجعلتُ أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظُم ذلك في صدري وإشتّد لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي× فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي؟
فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مضّرّجين بدمائهم مرحلّين بالعزاء ومسلوبين لا يكفّنون ولا يوارون ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر.
فقالت: لا يجزعنّك ما ترى، فو الله إنّ ذلك لعهد من رسول الله‘ إلى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السّماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجّة، وينصبون لهذا الطّف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيّام وليتجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً، وأمره إلّا علواً).
وأعلم أنّ عمق فاجعة كربلاء وأسرارها وما ورائها من الحقائق والمعارف الربانية لا يدركها ولا يعلمها حقاً إلّا أهل البيت^، فمثلهم يقول: (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) وأمّا فهمنا لهذه الواقعة الكبرى والمصيبة العظمى، فهو بمقدار غرفة راحة أيدينا من البحار الحسينية المتلاطمة الأمواج، بعيدة المدى والأطراف، عميقة الأغوار والأكناف.
وكما مرّ فإنّه مثل الإمام الرضا ثامن الحجج× يقول: (إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا) ومثل وليّ الله الأعظم صاحب الأمر عجل الله فرجه يقول: (لأبكيّن عليك بدل الدموع دماً) فماذا جرى في يوم عاشوراء وفي أرض كربلاء حتى تكون مثل هذه اللّوعة والألم والفجعة والمصاب من أئمتنا الطاهرين^؟!
ويفهم من الخبرين الرضوي والمهدوي أنّ أهل البيت^ جفون عيونهم مقرحة دماً دوماً بسبب مصابهم بجدّهم الأطهر سيد الشهداء الحسين× وليس في أيام شهر محرم وصفر وحسب، فإنّ الكلام مطلق وعام من دون قيد وتخصيص، وما ذلك إلّا الحزن العظيم على واقعة كربلاء وما حدث في يوم عاشوراء فقرحت جفونهم لكثرة بكائهم ودیموميّته صباحاً ومساءً على مصاب جدّهم أبي عبد الله الحسين×.
ولنا بهم قدوة صالحة وأُسوة حسنة، فعلينا أن نستحضر دائماً وفي كل زمان ومكان مصائب كربلاء، حتى لو تمكنا أن نقيم المآتم ولو على مستوى الجيران والأصدقاء وأهل المحلّة في كل بيت من بيوت المؤمنين على التناوب وطيلة السنة في كل يوم، صباحاً أو عصراً أو مساءً، فإنّ في ذكر أهل البيت^ ثواب عظيم وبركة للأسرة ولأهل المنزل ومن يحضر المأتم، وفيه تربية الأولاد على حبّ الحسين× وعشقه والفناء في مبادئه ومثله العُليا التي قام من أجلها وضحى بالنفس والنفيس ليكون نبراساً ومصباح هدىً لمن أراد أن يسلك طريق الحرية وتطبيق الإسلام الأصيل، كما إنّه سفينة نجاة لمن ركبها ليصل إلى شاطئ السلام وساحل الإطمئنان بذكر الله سبحانه، والجدير بكل موالٍ أن يزداد معرفة وعلماً في هذا المجال والرّحب الوسيع، ويتطلّع إلى آفاق جديدة يواكب الحداثة والتطور مع الحفاظ على الأصالة والتراث القيّم.
فقضية عاشوراء ومصيبة مولانا سيد الشهداء× أعظم قضية وأفجع مصيبة عرفتها الإنسانية ولهذا كان السّلف الصالح من علمائنا الأعلام والفقهاء العظام والمراجع الكرام يستعدّون لإحياء وتعظيم الشعائر الحسينية من بعد عيد الغدير الأغر، وكانت الشيعة والموالون يرفعون أعلام الحداد والأحزان ويعلّقون السّواد على جدران المساجد والحسينيات والتّكايا والمواكب والهيئات، وتنصب المنابر ويقام مجالس العزاء في كل ربوع الأرض، شاء الله سبحانه أن يبقى أعلام الطف الحسيني شامخة ومرفوعة، وذكر الحسين× خالداً ومخلداً مهما جهد الأعداء في طمس معالمه ومحو ذكره، وإن الله سبحانه ليُجزي ويعذب في الدنيا والآخرة من يعاد به ويعادي شعائره ومآتمه، وكم لنا على ذلك من الشواهد في التاريخ، ولا سيما في عصرنا الحاضر، وإنّ الله ليعجّل في عقوبة أعداء الإمام الحسين× حتى كاد أن يكون ذلك من خصائصه قد تفرّد بها.
وهكذا إقتضت الإرادة والمشيّة الإلهية أن يتعامل مع قضية الإمام الحسين× متميّزاً عن غيره، وأن يذكر جيلاً بعد جيل أكثر من غيره، وإن حاول الأعداء والمنافقون محوه وطمسه وإطفاء نوره، ولكن الله أبى إلّا أن يتم نوره، فإنّه كتب على يمين عرشه (الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة) فالقضية عرشية وسمائيّة تفوق الأرض وما فيها ومن فيها، وإذا كان الإمام الحسين بكل مظاهره قد إستثناه الله جلّ جلاله، فما علينا إلّا أن نتفاعل مع قضيته بالمستوى المطلوب وبإمتياز كما هو الحال عند الشيعة والموالين الكرام، فإنّه يعرف الشيعي الإمامي بإيمانه بالغدير وبعاشوراء، وأنّ هوية التشيع في الأعصار والأمصار تعرف بإحياء يوم الغدير (يوم الولاء) ويوم عاشوراء (يوم البراءة) من الأعداء.
لقد تعمّد الخطّ الأموي ـ منذ اليوم الأول إخفاء نور الإمام الحسين× فلو نظرنا إلى الصحاح الستة لشاهدنا هذا الأمر واضحاً لقلة الأحاديث حول مكانة الإمام والحسين وفضائله، مثلاً في صحيح البخاري لم ينقل عن الإمام الحسين× إلّا رواية واحدة، وفيها ما فيها من الإشكالات كما يعرفها أهل العلم والمعرفة، ولكن رغم ذلك هناك أحاديث في كتب الجمهور تبين عظمة سيد الشهداء× وقضيته وشهادته.
في مسند أحمد بن حنبل (ج1: ص85) ومسند أبي يعلى: (ج1: ص298 ح33 ) و(المعجم الكبير للطبراني (ج3: ص105 ح2811) بإسنادهم عن نجني الحضرمي أنّه سار مع الإمام علي× وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى من أسماء كربلاء ـ وهو منطلق إلى صفيّن نادى: صبراً أبا عبد الله، صبراً() أبا عبد الله.
قلت: ماذا أبا عبد الله؟!
قال: دخلت على النبي‘ ذات يوم وعيناه تفيضان ـ كناية عن كثرة البكاء حتى صار كالفيضان...
قلت: يا نبيّ الله ما لعينك تفيضان؟ أغضبك أحد؟ وهذا من باب سؤال العارف كقوله تعالى (ما تلك بيمينك) قال: بل قام من عندي جبرئيل قبل، فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات، فقال لي: هل لك إلى أن أشمّك من تربته؟
قلت: نعم.
فمدّ يده فقبض من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا.
وهذا الحدث لأمير المؤمنين في طريقه إلى صفين قبل أحداث كربلاء وواقعة الطف بعشرين عاماً، فأقام أبوه العزاء عليه قبل شهادته، كما أقام الأنبياء من آدم إلى الخاتم^ ذلك.
فمن حق كل مسلم ومسلمة، ومن يؤمن برسول الله ويتأسى به أن يقوم بإحياء وتعظيم الشعائر الحسينية، ولا يبالي بالشبهات المثارة، والطعن وإيراد الإشكالات على العزاء الحسيني وعلى المعزّين وروّاد المواكب الحسينية.
ومن الواضح والثوابت كما أنّ الحزن على سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين× والتفاعل مع قضيته، وتعظيم شعائره، بل وكل خدمة في سبيل إقامة مجالس العزاء على مصابه ومصائبه، وأنّ القطرة من الدمعة المسكوبة تطفئ غضب الرّب عز وجل، كذلك العكس بالعكس، فإن الإعتراض على الشعائر الحسينية ومحاربتها والإستهزاء بأصحاب العزاء وتثبيطهم ووضع الموانع في طريقهم الحسيني يترتّب عليه العقاب العظيم، والخزي الجسيم في الدنيا والآخرة، فالحذار الحذار من العذاب والنار، ومن الندم والحسرة في يوم لا ينفع فيه الندم.
فلا تدع الشعائر الحسينية والتي منها زيارة أبي عبد الله× مطلقاً.