كثيرا مانتأثر بااقرب الناس الينا الا وهم الاب والام ومن منا لم يلاحظ خوفهم في جانب ما او رفضهم الشديد الذي نراه احيانا غير مبرر
وهو ربما ببساطة انعكاس لتجربة سابقة..
هذا مايتناوله المقال التالي بقلم المبدعة احلام الرحال ...
تذكرت الجملة التالية: “إغفر لوالديك وحسّن حياتك” (وهي عنوان لكتاب في التربية وعلم النفس) لدى سماعي للقصة التالية
لم أكن أنظر إلى علاقتي بوالدتي على أنها علاقة حميمية تجمع بين الإبنة وأمها بالشكل المثالي، فطفولتي وصباي يذكرانني دائما بقسوتها في معاملتي ومعاملة أخواتي وإخوتي في البيت. كنتُ في الثامنة عشر من عمري حين تقدم شاب لخطبتي. لم أرَ فيه أي عيب إجتماعي أو خُلقي، ولكني رفضتُه لأني ببساطة لم أحببه ولم أنوِ أيضا الزواج في هذه السن إطلاقا، وكنت طالبة جيدة جدا في الثانوية، فأردت أن أبدأ بدراستي الأكاديمية دون أن أرتبط بأحد. كان رفضي صادما لوالدتي بشكل خاص، فقد كانت ترى أن الشاب “لُقطة” ولا تفهم سببا لرفضي له ولم تُقنعها كل إدعاءاتي بأنني أريد أن أدخل الجامعة وألتحق بالتعليم العالي ولا أريد الخطبة أو الزواج الآن. حاولت والدتي كثيرا في البداية أن تقنعني بشتى الطرق التقليدية: نهاية البنت للبيت والزواج، الدراسة لن تفيدك بشيء، تزوجي الآن وتعلّمي عند زوجك، أنت في أوج جمالك وزهوتك الآن فلا تفوتي الفرصة.. وما إليه من جمل تقليدية لإقناعي، لكنّ شيئا من هذه الكلمات لم يقنعني. ثم حاولت والدتي أن تخضعني بإدخال أبي للصورة لكي أشعر ببعض “الخجل” وأوافق. وحين لم ينفع الأمر، أدخلت إلى الصورة أخوالي وأعمامي لكي يقنعوني بالزواج من هذا الشاب اللقطة.. ولم أقتنع ولم يثنيني رأي بعدم إكمال دراستي. وحين يئست جاءت ذات ليلة لمخاطبتي من جديد فقلت بكل حزم: لا.. لن أتزوجه، أذكر أنها صفعتني على وجهي صفعة قوية أسالت الدم من فمي. ثم قالت: ليس عندنا بنات يقلن لا ويركبن رؤوسهن، نحن أدرى بمصلحتك. ثم قامت وطلبت من والدي أن يرد على أهل الشاب بالإيجاب على طلبهم، ودعوهما لبيتنا لإتمام مراسم الخطوبة. وعليه فقد تمت خطبتي رغما عني تحت صمتي المطبق لئلا أشوه صورة عائلتنا أمام المجتمع. في نهاية المطاف، لم يشأ النصيب أن يجمعنا، فلم يكتمل شهرين حتى فسخنا الخطوبة
لم تُمحَ هذه الذكرى من بالي، ولا غيرها من الذكريات حول معاملة والدتي القاسية لي ولأخواتي. ولكني اليوم حين أنظر إلى هذه القصة وغيرها من الذكريات الطفولية التي رافقتي في معاملة والدتي لي، لا أنظر إليها بعين الغضب بقدر ما أشفق فيها على والدتي وأفهمها وأغفر لها خطاياها في أمومتها لنا.
كانت أمي طفلة معنَّفة نفسيا وجسديا. حين أُجبرت على ترك مدرستها كانت في الثانية عشر من عمرها. أجبرها والدها العنيف والقاسي كونها البنت البكر في العائلة على ترك المدرسة والتفرغ لمساعدة والدتها في الأعمال المنزلية وفي تربية إخوتها العشرة الصغار، إذ لم تشفع لها قدراتها الدراسية العالية ولا رغبتها القوية في الدراسة، ولم تشفع لها طلبات المعلمين من والدها بأن تكمل تعليمها الثانوي على الأقل، فتركت المدرسة وتفرغت للأسرة ولرعاية إخوتها. وكانت كلما أخطأت في مقادير طبخة ما أو في مهمة منزلية أخرى لاقت صفعة قاسية على وجهها أو ركلة في بطنها حتى تصحح خطأها. بعد هذا بأربع سنوات طلبها والدي للزواج وبدون أن تراه أعطى جدي جواب الموافقة لوالدي وكانت والدتي في السادسة عشر من عمرها، فتمت مراسم الزواج خلال أقل من عام
ومنذ ذلك اليوم وهي بالكاد ترى شيئا خارج إطار المنزل والأسرة، وبالكاد تعمل شيئا غير رعاية أولادها وزوجها. وعليه ماذا كنت أتوقع من والدتي التي عاشت طفولة مسلوبة والتي أجبرتها أسرتها على أن تكبر رغما عنها وأن ترعى أخوتها العشرة وأرغمتها على ترك دراستها ومن ثم الزواج من رجل دون أن تراه ودون أن يؤخذ برأيها، ماذا كانت ستقدم هذه المرأة لأبنائها؟
بعد إستماعي إلى هذه القصة، إستطاعت المتحدثة وأنا الإنتباه إلى بعض نقاط التشابه بين تجربتها الذاتية وتجربة والدتها. فالوالدة أيضا كانت طالبة ذكية في المدرسة وأحبت إكمال دراستها ولكن والدها منعها وأنهى دراستها ومن ثم قرر تزويجها دون أخذ رأيها. وفي المقابل مرت الإبنة بتجربة مشابهة ولكنها تمردت على والدتها فرفضت موضوع الزواج وأصرت على إتمام دراستها. ألا يمكن أن يكون هذا التمرد قد ضرب على وتر حسّاس لدى الوالدة؟ ألا يمكن أنه قد ذكرها بعجزها ربما أمام والدها الذي قرر مصيرها بطريقته الخاصة؟
صمتت المتحدثة قليلا ثم قالت: كيف لا أستطيع بعد هذا أن أغفر لها؟
تعقيب
كثيرا ما يرى المفكرون أن ما نحن عليه اليوم جزء منه هو من تأثير والدينا علينا في معاملتهم لنا منذ الصغر، وجزء آخر هو من تجربتنا واختياراتنا الذاتية في الحياة ومن بنية شخصيتنا. ولا يخفى على أحد أن كثيرا من الأهل يخطئون في معاملة أبنائهم ويؤثرون سلبا عليهم وعلى تطورهم المستقبلي. ولكن بدل أن نبقى داخل هذه الدائرة المغلقة وتبقى أصابع الإتهام مثبتة على والدينا في ما أخطأوه في حقنا، لمَ لا نحاول أن نفهمهم قليلا ونفهم دوافعهم في معاملتهم لنا، وأن نغفر لهم ما فعلوه ونستمر في حياتنا؟ أي بدل أن نتقوقع في فكرة تأثير والدينا علينا، فلنحاول أن نتفهمهم قدر الإمكان، ونسامحهم على ما حدث، ثم نخطو خطوة أخرى للأمام ونعمل على تحسين حياتنا، بدل أن نبقى نتحدث على ما فعلوه فينا ونبقى متقوقعين طويلا داخل أنفسنا...
بقلم الرائعة احلام الرحال