معالم المتدبرين
التسميات: في رحاب كتاب الله


حث الله -سبحانه وتعالى- على تدبر مواعظ القرآن، وبين أنه لا عذر في ترك التدبر كما قاله القرطبي بدلالة قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). [ص، 29] لكنَّه بيَّن أيضاً أن هذا التدبر له شروط ومعالم ينبغي للمتدبر أن يحققها؛ ليحصل بها أثر التدبر وثمرته، ومن خلال التأمل في كتاب الله نجد أن آية سورة (ق) وهي قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ ق: 37 ] قد أشارت إلى هذه ذلك إجمالاً، وعلى ذلك سيتمحور الحديث عن هذه الشروط في ضوء هذه الآية الكريمة، ويمكن أن نجعل هذه الشروط تحت هذه المعالم الرئيسة:

أولاً: أن يكون المتدبر حي القلب.
ثانياً: أن يفعل المتدبر الأسباب المعينة على التدبر.
ثالثاً: أن يجتنب المتدبر الأمور التي تصرف عن التدبر.

وهذه الشروط تندرج تحتها أسباب ولوازم كثيرة، وهي شروط نسبية تتفاوت من شخص إلى آخر تزيد وتنقص؛ بسبب تفاوت العقول والأفهام، وفعل الأسباب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا مع أن الناس متباينون في نفس أن يعقلوا الأشياء من بين كامل وناقص, وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير وجليل ودقيق وغير ذلك...). [الفتاوى الكبرى، 9/309] فبحسب تحقيق هذه الشروط وأسبابها، تكون نتيجة التدبر من زيادة أو نقصان، وتفصيل ذلك في مايلي:

فكون المتدبر حي القلب: فهذا ظاهر من الآية، وقد نصَّ غير واحد من المفسرين كقتادة، ومقاتل بن سليمان، وغيرهما، على أن المراد بالقلب هنا: القلب الحي؛ فالرجل الحيُّ القلب مستعد, فإذا تليت عليه الآيات, أصغى بسمعه, وألقى السمع وأحضر قلبه, ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه, فهو شاهد القلب, ملقي السمع, فهذا هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة، فإن كان القلب غائباً أو مسافراً في الأماني والشهوات والخيالات؛ فإنه لا يحصل به الانتفاع، ولذلك نجد أن القرآن الكريم أشار إلى أن هذه الأمور تعد من أقفال القلوب المانعة من التدبر، فقال موبخاً المنافقين: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)؟! [محمد، 24]

قال ابن القيم في الفوائد: (قوله: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) أي حي القلب).

ومن لوازم هذا الشرط المهم - حياة القلب وشهوده - أعمال القلب الأخرى: كالإيمان بالله، وإخلاص القصد، واليقين، والإنابة إلى الله، واستشعار عظمة القرآن.. وبالمقابل أيضاً يلزم من ذلك تطهيره من أقفال التدبر: من الشواغل، ومن الغل والحسد والرياء والنفاق..إلخ.

فإذا حقق المتدبر هذا الشرط وما يلزم منه من اللوازم، بحيث يصبح قلبه حياً شاهداً طاهراً؛ فإنه - بإذن الله - سينتفع بآيات الله المتلوة والمشهودة. وحينها لن يشبع القلب من كلام الله كما أشارت إليه القولة العثمانية الرائعة التي نقلها الإمام أحمد في الزهد عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: (لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله عزوجل).

أمَّا كون المتدبر يفعل المتدبر الأسباب المعينة على التدبر فدلالته أخذت من قوله تعالى: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) فإلقاء السمع من أهم الشروط؛ ولا يتم التدبر إلا به، كما أن إلقاء السمع ثمرته العمل بما سمعه المرء، وإلا فما فائدة السمع إذن؟!

وقد أمرنا القرآن بالإستماع إلى آياته والإنصات لها بقوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف، 204] أي: أصغوا له سمعكم لتتفهموا آياته، وتعتبروا بمواعظه، وأنصتوا إليه لتعقلوه وتتدبروه، ولا تلغوا فيه فلا تعقلوه كما قاله شيخ المفسرين الإمام الطبري.
قال الإمام وهب بن منبه - رحمه الله -: (من أدب الاستماع: سكون الجوارح, وغض البصر, والإصغاء بالسمع, وحضور العقل, والعزم على العمل).
علَّق على ذلك القرطبي في تفسيره بقوله: (وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى, وهو أن يكف العبد جوارحه, ولا يشغلها فيشتغل قلبه عما يسمع, ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى, ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه, ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم).
فإلقاء السمع إذن يستوجب العمل، ولكن هذا السمع لن يكون مؤثراً؛ حتى يعقل المتدبر ما يسمع، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (فالذي يَسمَعُ ما جاءت به الرسل سَمعًا يَعقلُ به ما قَالُوهُ يَنجُو. وَإلا فالسَّمعُ بلا عَقلٍ لا يَنفعُهُ.. وكذلك العقلُ بلا سَمعٍ لِمَا جَاءَت به الرسل لا ينفع). وقال تلميذه ابن القيم في الصواعق المرسلة: (فجمع سبحانه بين السمع والعقل, وأقام بهما حجته على عباده, فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلاً, فالكتاب المنزل والعقل المُدْرِك حجة الله على خلقه).
قال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: (أول العلم الاستماع, ثم الفهم, ثم الحفظ, ثم العمل, ثم النشر؛ فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب, وجعل له في قلبه نورًا). [أحكام القرآن، القرطبي 11/176]

ولن يعقل هذا المتدبر إلا بقيامه بعمل الأسباب المعينة على عقل هذا المسموع الذي هو القرآن، وأسباب ذلك كثيرة، من أهمها: معرفة اللسان العربي حيث ذكر العز بن عبد السلام أن تدبر القرآن وفهم معانيه لا يأتي إلا بمعرفة اللغة، ومنها أيضا: مراعاة الأحوال المناسبة للقراءة والسماع، والبسملة، والاستعاذة من الشيطان، والترتيل؛ لأن ذلك أدعى للعقل والفهم، والترديد للآيات فهو يزيد الفهم لكلام الله،؛ كل على حسب قدرته وتفهمه بشرط العلم الصحيح والفهم الصحيح كما قرَّره العلامة الشنقيطي في أضواء البيان.
فالاستماع السليم هو الذي يورث التلاوة الصحيحة والفهم الصحيح، إذ إن القرآن أخذ بالتلقي؛ وعندئذٍ يشترك اللسان والعقل والقلب, فحظ اللسان: تصحيح الحروف بالترتيل, وحظ العقل: تفسير المعاني, وحظ القلب: الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار؛ فاللسان يرتل, والعقل يترجم, والقلب يتعظ. [ينظر إحياء علوم الدين، الغزَّالي، 1/287]
ومن جميل ما يستشهد به في هذه المسألة ماقاله ابن بطال معلقاً على حديث قراءة ابن مسعود tوقوله r له كما في الصحيحين: (إني أحب أن أسمعه من غيري). قال: (يحتمل أن يكون الرسولr أحب أن يسمعه من غيره، ليكون عرض القرآن سنة يُحتذى بها, كما يحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه).

أمَّا كون المتدبر يجتنب الأمور التي تصرف عن التدبر.
وهو ما يعبر عنه علماء الأصول: بانتفاء الموانع، وهو شرط من الشروط الأصلية، فالأحكام توجد بوجود الشروط، وتنتفي لوجود الموانع.
وآية سورة (ص) وهي قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). [ص، 29] دالة على ذلك لزوماً، فالقلب الحي، والاستماع السليم، والقلب الشاهد؛ لا توجد إلا لمن بتحقق شروط التدبر وانتفاء موانعه، وعلى ذلك: فكل شي لا يتم الانتفاع به إلا بتحقيق شروطه وانتفاء موانعه، ومن ذلك تدبر القرآن. وإلا فكيف يكون القلب حياً، وهو منكب على الشهوات أو الشبهات؟! فالمطلوب إذن من المتدبر أن يبتعد عن الوقوع فيما يصرف التدبر.

والموانع التي يجب على المتدبر اجتنابها صنوف وأضرب، وهي غالباً ما تندرج تحت سببين رئيسين:إما وقوع المرء بالشبهات مثل الجلوس مع أهل البدع، واتباع المتشابه، وقصر الآيات على أحوال خاصة..إلخ. أو وقوع المرء في الشهوات: كالإصرار على المعاصي والذنوب، واستماع الغناء، والانشغال بالدنيا، واتباع الهوى..إلخ.
ومن جوامع ابن القيم ما ذكره في كتابه الفوائد، وهو يتكلم عن هذه الشروط بكلام مختصر مفيد، حيث يقول: (والمقصود أنك متى ما أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألق سمعك, واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه, فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله, قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ ق: 37 ], وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض, ومحل قابل, وشرط لحصول الأثر, وانتفاء المانع الذي يمنع منه, تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد .
فقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى) إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا, وهذا هو المؤثر.
وقوله: (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) فهذا هو المحل القابل, والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله, كما قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) [يس: 69 - 70]. أي: حي القلب.
وقوله: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي: وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له, وهذا شرط التأثر بالكلام. وقوله: (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي: شاهد القلب حاضر غير غائب.
قال ابن قتيبة - رحمه الله -: (استمع كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم, ليس بغافل ولا ساه)، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير, وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له, والنظر فيه وتأمله.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن, والمحل القابل وهو القلب الحي, ووجد الشرط وهو الإصغاء, وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب, وانصرافه عنه إلى شيء آخر, حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر).

وإني موصيك ونفسي أيها القارئ الكريم، خاصة وأنت في شهر القرآن أن تراعي هذه الشروط والمعالم في تعاملك مع كتاب ربك؛ لتظفر بالتدبر الأمثل لكتاب الله عزوجل، فإن من أفضل ما يُفنى به العمر، ويقضى فيه الأجل تدبر كتاب الله، إذ به تكمن الغاية الكبرى من إنزاله.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ). [الزخرف، 44]