إنَّه المجاهد الكبير نور الدين محمود، الذي تولَّى إمارة حلب بعد وفاة والده المجاهد -أيضًا- (عماد الدين زنكي)؛ فوضع نصب عينيه السير على منهاج أبيه في جهاد الصليبيين، الذين كانوا قد بدأوا في احتلال إمارات الشام، وتمكَّن من التغلُّب عليهم، في بعض المناطق، وتمكن من فرض سيطرته على عددٍ من قلاع الشام، كما استطاع – كذلك - أن يضم إنطاكية لإمارته، ثم دمشق بعد ذلك، ثم استطاع أن يضم إليه مصر، ودخلت تحت سيطرته.

لقد كان ذلك المجاهد قريبًا من العلم قربه من الجهاد؛ فيذكر ابن عساكر في حديثه عن نور الدين محمود أنه: "كان حريصًا على تحصيل الكتب الصحاح والسنن، كثير المطالعة للفقه والحديث"[1].


جهود نور الدين محمود في نشر العلم

إنَّ من مآثر نور الدين محمود أن حياة الجهاد العظيمة التي عاشها لم تشغله عن الاهتمام بالعلم سواء بتعلمه أو الاهتمام بنشره؛ فقد أُثِرَ عن نور الدين محمود اهتمامُه الشديد بالعلم، والمبالغة في العطاء عليه، رغبةً منه في إعادة بناء دولته (الزنكية) بناءً قويًّا على أساسٍ من العلم؛ من هنا حرص على نشر العلم والتعليم بين الناس، فأمر بإنشاء عدد من مدارس الفقه في شتى مذاهبه، لتكون قبلةً لطلاب العلم، فأمر بإنشاء (المدرسة العادلية) في المذهب الشافعي، والمدرسة (البدرية) لـ المذهب الحنفي، وكان أول مَنْ بنى مدرسةً للحديث هو نور الدين محمود [2]، فقد كان يؤمن أنه لا يمكن أن تقيم راية الجهاد إلا إذا أعددت الشعب بالتعليم؛ لذا كان يُعِدُّ الناس للجهاد بنفخ روح الإيمان في نفوسهم من ناحية، وبنشر العلم والثقافة من ناحية أخرى.

ولم يكن اهتمامه: منصبًّا على علوم الدين فحسب، بل كان يقدر لعلوم الحياة قدرها؛ فقد كان شديد الاهتمام بالابتكار في سائر المجالات كالفلك وعلم النجوم، وكان يحثُّ العلماءَ على الابتكار؛ من ذلك ما فعله مع رضوان بن رستم الساعاتي، الذي صنع الساعاتِ التي عند باب الجامع الأموي بدمشق، حيث كان يخصُّه بالكثير من المال والعطايا، حتى يتقدم في صناعته ويتقنها [3].

كذلك اهتمَّ نور الدين محمود بإنشاء المستشفيات (البيمارستانات)، وجعلها تقدم الخدمة الطبية المجانية للشعب، وقد انتشرت في أغلب مدن الدولة الزنكية، وتُعتَبَر البيمارستانات من مفاخر الحضارة الإسلامية التي سبقت غيرها من الحضارات.

وكان الملك العادل نور الدين محمود وخلفاؤه من البيت الأيوبي هم أول من استكثر منها من الملوك والسلاطين، كما اهتموا بدراسة الطب وممارسته اهتمامًا بالغًا وقايةً لبلادهم من الأوبئة والأمراض، وكانت حلب في عهد الملك نور الدين محمود إحدى مراكز تدريس الطب في بلاد الشام، وكان ميدان ذلك البيمارستان النوري الذي كان يؤدي رسالة علمية لها أهميتها في تدريس الطب إضافة إلى قيامه بوظيفته الأساسية علاج المرضى ومتابعتهم[4].


أهم المؤسسات العلمية التي أنشأها:

البيمارستانات:

أ- البيمارستان النوري: قال ابن الشحنة: إن الملك نور الدين محمود هو الذي بنى هذا البيمارستان داخل باب أنطاكية بالقرب من سُوق الهواء[5].

وقد ذكر ابن الشحنة أنَّ الملك نور الدين حينما أراد بناء هذه البيمارستان طلب من الأطباء أن يختاروا من حلب أفضل بقعة، صحيحة الهواء صالحة لإقامة البيمارستان بها، وذبحوا خروفًا وقطعّوه أربعة أرباع، وعلّقوها بأرباع المدينة ليلاً، فلمّا أصبحوا وجدوا أحسنها رائحة الرّبع الذي كان في هذا الموقع، فبنوا البيمارستان فيه، وهذه خطة حكيمة في اختيار المكان الصالح لبناء البيمارستان، ومما يذكر أن هذا الأمر شبيه بما فعله الرازي من قبل في بغداد حينما أشرف على بناء المستشفى العضدي[6]، كل ذلك في وقت تنعدم فيه آلات قياس الأبعاد ودرجات الحرارة واختبارات الأجواء.

ويقع هذا البيمارستان حاليًّا في منطقة الجلوم الكبرى في الزقاق المعروف حاليا بزقاق البهراميّة[7]، وقد وجد مكتوبًا عند باب البيمارستان: بسم الله الرحمن الرحيم أمر بعمله المولى الملك العادل المجاهد المرابط الأعز الكامل صلاح الدنيا والدين قِسيم الدولة رضي الخلافة تاج الملوك والسلاطين ناصر الحق بالبراهين محيي العدل في العالمين قامع الملحدين قاتل الكفرة المشركين أبو القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر أمير المؤمنين أدام الله دولته[7]، وكان نور الدين قد أوقف على هذا البيمارستان عددًا كبيرًا من الأوقاف[8]؛ لكي تُدِرَّ قدرًا وفيرًا من المال لتأمين نفقات هذا البيمارستان الكبير، وقد أشار محمد كرد إلى وجود مكتبة متخصصة داخل البيمارستان تشتمل على كثيرٍ من الكتب الطبية التي أوقفها الملك نور الدين محمود على هذا البيمارستان[9]؛ ممّا يؤكِّد أثر هذا البيمارستان في النشاط العلمي في هذا العهد إلى جانب الوظيفة الطبية التي كان يقوم بها.

ب- البيمارستان النوري في دمشق: يُنسَبُ هذا البيمارستان إلى لملك نور الدين محمود زنكي، قال عنه ابن الأثير: وبنى البيمارستانات في البلاد، ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه بدمشق؛ بلغني أنه لم يجعله وقفًا على الفقراء فحسب، بل على كافَّة المسلمين من غني وفقير[10].

وقد اشتهر البيمارستان النوري في دمشق في عهد نور الدين محمود زنكي بتدريس الطب، وقد أشار إلى ذلك ابن أبي أصيبعة وهو يُترجم لشيخه الطبيب أبي المجد بن أبي الحكم المتوفي سنة 570ﻫ/1174م؛ فالبيمارستان كان في ذلك العهد هو المكان الرئيسي لمهنة الطب والصيدلة من حيث التدريس والتطبيق، كما شاركه في ذلك مجالس العلم التي كان يعقدها الموصوفون بصناعة الطب وتدريسه لطلابهم، ولم تُشِر المصادر إلى وجود مدارس مستقلة بتدريس الطب في العهد الزنكي كما هو الشأن في العهد الأيوبي بعد ذلك، عندما أُنشِئت أول مدرسة خاصَّة لتدريس الطب سنة (621ﻫ= 1224م) وهي المدرسة قبلي الجامع الأموي بدمشق[11].


المدارس:

كانت المساجد هي المراكز الأولى للتعليم في الإسلام، إلى جانب كونها محل عبادة المسلمين، ومقر اجتماعاتهم ولكن مع مرور الزمن انتقل التعليم في بعض مظاهره عن المساجد إلى أماكن أخرى عُرِفَت بالمدارس، ولما تولى نور الدين حكم الدولة الزنكية شهدت حركة بناء المدارس انتشارًا واسعًا فقد أخذ في إنشائها، واستدعى لها كبار العلماء من مختلف الأقطار الإسلامية، وبنى لهم العديد من المدارس في شتى أرجاء مملكته، وكان يهدف من ذلك إلى دعم المذهب السني، ومقاومة التشيع في المنطقة،

ومن أهم المدارس التي قام بإنشائها:

المدارس في حلب:

بدأت الحركة العلمية تبرز في حلب في بداية حكم نور الدين محمود لها في عام 541ﻫ والذي ركز نشاطه منُذ استلامه الحكم في تنفيذ سياسته الرامية إلى الوقوف بشدة أمام المذهب الشيعي الذي زاد انتشاره آنذاك في حلب، فحرص على تقويضه وإحلال المذهب السني مكانه، مما تطلب منه القيام بجهود علمية بارزة تجاه ذلك. كان منها تشجيع العلم والعلماء عن طريق إنشاء العديد من المدارس على مختلف المذاهب السنية، وتوجيه التعليم وجهة سنية عن طريق تشجيع تدريس العلوم الشرعية، وقد جلب عددًا من العلماء الأَكْفَاء لتولي المهمة، وبهذه السياسة نجح نور الدين في إنقاذ حلب من تأصُّل الفكر الشيعي بها، وتمكَّن من تحويلها إلى مركز من مراكز السنة بعد أن كانت قاعدة للمذهب الشيعي في المنطقة[12]، وقد أثمرت تلك الجهود في دعم حركة التعليم في حلب حتى أصبحت من المراكز العلمية المشهورة التي جلبت أنظار العلماء من مختلف الأقطار الإسلامية، بل ربما تفوَّقت عليها في بعض المجالات لما تميزت به حلب من موقع متوسط بين تلك المراكز، وإمكانات مادية وبشرية تفوق في بعض الأحيان إمكانات المراكز الأخرى، إضافة إلى استمرار النشاط العلمي بها في فترات لاحقة للحكم الزنكي في نفس القوة التي بدأ بها نظرًا لما لاقته تلك الإمارة من دعم وتشجيع مستمرين طيلة عصر نور الدين، والسلاطين الأيوبيين والمماليك من بعدهم[13].

وكانت أبرز المدارس التي أنشئت في حلب:
المدرسة النورية:


أنشأها الملك العادل نور الدين محمود سنة 544ﻫ (1149م) وكان الشيخ قطب الدين النيسابوري هو أول من وُلي التدريس في هذه المدرسة، وكان قدم إليها من دمشق، ثم ولي تدريسها بعده مجد الدين طاهر بن جهبل المتوفى سنة (597ﻫـ= 1201م)[14].

المدرسة العصرونية:

كان موقع هذه المدرسة في الأصل دارا لأبي الحسن علي بن أبي الثُريّا وزير بني مِرداس أصحاب حلب، ولما جاء نور الدين محمود إلى حلب اشترى هذه الدار وحوّلها مدرسة، وجعل فيها مساكن للمدرسين بها من الفقهاء وذلك سنة 550ﻫ حسب ما جاء في بعض المصادر التاريخية[15]، وبعد أن أتّم نور الدين محمود بناء هذه المدرسة استدعى لها من نواحي سنجار الإمام شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون المتوفي سنة 585ﻫ، وفوّض إليه مهنة التدريس بها والنظر في أوقافها، وهو أولّ من درّس بها فعُرِفَت به، ونسبت إليه[16].

المدرسة الأسدية الجوانية:

تُنسب هذه المدرسة للأمير أسد الدين شيركوه بن شاذى بن مروان المتوفى سنة 564ﻫ/1168م الذي أنشاها بمحلة الرحبة بحلب للمذهب الشافعي[17].

المدرسة الشُعيْبيَّة:

كان موقع هذه المدرسة مسجدًا يقال: إنه أول ما اختطَّه المسلمون عند فتح حلب من المساجد، وعُرِفَ هذا المسجد بأبي الحسن الغضائِرِيّ المتوفَّى سنة 313ﻫ؛ فلمَّا ملك نور الدين محمود حلب، وأنشأ بها المدارس وصل الشيخ شُعيب الأندلسي إلى حلب؛ فصّير له هذا المسجد مدرسة، وجعله مدرسًا بها فعرفت به، ولم يزل الشيخ شعيب مُدرّسًا بها إلى أن توفي بطريق مكة سنة (596ﻫ= 1199م) [18].

د. راغب السرجاني .
[1] ابن عساكر: تاريخ دمشق 57/ 118.
[2] انظر بالتفصيل: عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس 1/149.
[3] عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس 1/433.
[4] إبراهيم المزيني: الحياة العلمية في العهد الزنكي ص 412.
[5] ابن الشحنة: الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب ص230.
[6] قام الرازي -أيضًا- بذبح خروف، وتقطيعه أربعة أرباع، ووضع كل ربع في مكان، ولما أصبح نظر إلى أكثر الأجزاء التي لم تتغير رائحتها، فبنى فيها المستشفى: انظر السباعي: من روائع حضارتنا 101.
[7]خير الدين الأسدي: أخبار حلب وأسواقها ص 167.
[8] كامل الحلبي: نهر الذهب في تاريخ حلب 2/65، 66.
[9]ابن الشحنة: الدرالمنتخب ص 231.
[10] محمد كرد علي: خطط الشام 6/187.
[11] ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل ص 170
[12]ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 1 / 413.
[13] إبراهيم المزيني: الحياة العلمية في العهد الزنكي ص 389.