( أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكنني أهوى النبي العربي، وأكبر اسمه، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله، أنا شرقي ولي فخر بذلك، ومهما أقصتني الأيام، عن بلادي أظل شرقي الأخلاق سوري الأميال، لبناني العواطف. يبقى الشرق موطناً لأحلامي ومسرحاً لأمانيّ وآمالي ) نبدأ بهذه الكلمات الساحرة التي نطق بها الشاعر والرسام والفنان الكبير جبران خليل جبران , فمع هذا العبقري ستجد الحكمة بمفهومها الفلسفي و الانساني الضارب في التاريخ و الممتد للحاضر والمستقبللنبدأ معاً رحلتنا راهب الحب جبران خليل جبران :
ولد في 6 يناير 1883 ببلدة بشري في شمال لبنان حين كانت تابعة للدولة العثمانية. وقد ولد جبران لعائلة مارونية. وكانت أسرته فقيرة بسبب كسل والده وانصرافه إلى السكر والقمار ، لذلك لم يستطع الذهاب للمدرسة، وبدلاً من ذلك كان كاهن القرية، يأتي لمنزل جبران ويعلمه الإنجيل والعربية والسريانية. وتعلم مبادئ القراءة والكتابة من الطبيب الشاعر سليم الضاهر مما فتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب .
وهو في عمر 8 سنوات سجن والده بتهمة اختلاس وصودرت أملاكة , حيث كان يعمل في جباية الضرائب ، وأطلق سراحه بعد 4 سنوات ، قررت والدته الهجرة مع أخيها إلى أمريكا وتحديداً نيويورك مصطحبة معها جبران واخواته، ماريانا وسلطانة، وبطرس .
سكنت عائلة جبران في بوسطن. وبالخطأ تم تسجيل اسمه في المدرسة خليل جبران. وهناك، بدأت أمه العمل كخياطة متجولة، كما فتح أخوه بطرس متجراً صغيراً، أما جبران فبدأ بالذهاب للمدرسة , وضعه مسؤولو المدرسة في فصل خاص للمهاجرين لتعلم الإنجليزية ، وكان جبران من الطُلاب المُتميّزين في المدرسة، فعُرِفَ بأنّه ذكي وصاحب شخصيّة قوية
التحق جبران أيضاً بمدرسة فنون قريبة من منزلهم. ونمت مواهبه الفنية ، وتعرف على المثقف فريد هولاند داي، وهو الذي شجع جبران ودعمه لما رأى محاولاته الإبداعية، و كان يعيره الكتب التي أثرت في توجيهه الفكري والروحي والفني وقد استخدم فريد بعض رسومات جبران لأغلفة الكتب , وقد حظى جبران بالشهرة في أوساط بوسطن الأدبية والفنية , ولكن العائلة قررت ان الشهرة المبكرة ستعود عليه بالضرر، وانه لا بد ان يعود إلى لبنان لمتابعة دراسته من أجل إتقان اللغة العربية .
في عمر الخامسة عشر، عاد جبران مع عائلته إلى بيروت ودرس في مدرسة إعدادية مارونية ومعهد تعليم عال يدعى الحكمة. بدأ مجلة أدبية طلابية مع زميل دراسة، ثم انتخب شاعر الكلية، كان يقضي العطلة الصيفية في بلدته بشرّي ولكنه نفر من والده الذي تجاهل مواهبه، فأقام مع ابن عمه نقولا , وجد جبران عزاءه في الطبيعة، وصداقة أستاذ طفولته سليم الضاهر. وعلاقة الحب بينه وبين سلمى كرامة التي استوحى منها قصته (الأجنحة المتكسرة) التي نشرها بعد عشر سنوات
أنهى جبران دروسه بتفوق في العربية والفرنسية والشعر , وبقي في بيروت سنوات عدة قبل أن يعود إلى بوسطن في 1902. وقبل عودته بأسبوعين توفيت أخته سلطانة بالسل. وبعد سنة توفي بطرس بنفس المرض وتوفيت أمه بسبب السرطان. أما ماريانا، أخت جبران، فهي الوحيدة التي بقيت معه، واضطرت للعمل في محل خياطة. ممّا أدى إلى تأثّره وحزنه بشكلٍ كبير .
وفي خضم هذه المعاناة ظهرت موهبة جديدة عند جبران وهي الاهتمام بالتصوير، فاستطاع أن يُقيمَ أول معرض صور ناجح له عام 1904 , وخلال هذه المرحلة تعرف على صاحبة إحدى المدارس التي شجعته على التطور في المسارين الفنيّ والأدبيّ، وهى السيدة ماري إليزابيث هاسكيل Mary Elizabeth Haskell ، كانت ماري هاسكل امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبر جبران بعشر سنوات، وكانت معجبة بجبران إعجابا , وقد ساندت جبران بأموالها كثيراً حتى أعتقد الكثيرون أنه احد اثرياء الشرق .
بدأ جبران يكتب لأحد الصحف العربية تسمى صحيفة المهاجر , حيث كان يحصل على دولارين مقابل كل مقالة، وحملت أولى مقالاته عنوان “رؤيا” , ونشر عام 1905 أول أعماله “نفثة في فن الموسيقا” ، وعام 1906 نشر عمله الثاني “عرائس المروج”، ونشر كتابه الثالث “الأرواح المتمردة” بعدها بعامين والذى تناول فيه مواضيع شائكة اثارت الجدل مثل تحرر المرأة , كما إنتقدته الحكومة ورجال الدين وتم تهديده بطرده من الكنيسة.
عام 1910 غادر جبران إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقى مجدداً بزميله في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب السنتين , وقام برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم. ثم عاد إلى أميركا بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني .
ويقال أنه تقدم بطلب يد ماري إليزابيث هاسكيل، لكنها رفضت طلبه بسبب فارق العمر بينهما، ولكنهما بقيا صديقين طوال حياتهما ، انتقل جبران إلى نيويورك عام 1910 وهناك عرف نوعاً من الاستقرار مكنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية و نشر كتاب ” الاجنحة المتكسرة ” باللغة الإنكليزية، ثم ترجم فورا إلى عدد من اللغات الأجنبية، ويحظى إلى اليوم بشهرة قل نظيرها بين الكتب. وبذلك بدأت تزداد شهرة جبران بشكل كبير ، ليصبح واحداً من أشهر أدباء وشعراء المهجر .
ارتبط جبران بعلاقة حب غريب من نوعه مع الأديبة المصرية “مي زيادة” والتي أرسلت له رسالة معربة عن إعجابها بكتابه ” الأجنحة المتكسرة”. وقد دامت مراسلتهما حتى وفاته رغم انهما لم يلتقيا أبدا. وبقى العاشقان عازبان فلم يتزوج جبران ورفضت زيادة كل عروض الزواج لتلحق وحيدة بجبران الى الدار الأخرة بعد عشر سنوات من وفاته , كان حبه لمى زيادة موضوع جدال دائم بين المفكرين محاولين الإجابة على سؤال : “هل من الممكن أن تنشأ علاقة حب بين طرفين (رجل وامرأة) ولم يلتقيا أبدا طوال حياتهما؟”
كان في كتاباته اتجاهان، أحدهما يأخذ بالقوة ويثور على عقائد الدين، والآخر يتتبع الميول ويحب الاستمتاع بالحياة النقية، ويفصح عن الاتجاهين معًا في قصيدته “المواكب” التي غنتها المطربة اللبنانية فيروز باسم “أعطني الناي وغنّي”. كما غنت له مقاطع كاملة من كتاب “النبي” بالإضافة لقصيدة “الأرض” والتي مطلعها سفينتي بانتظاري، وأخيرا غنت له قصيدة “يا بني أمي” لتبقى المطربة الشهيرة فيروز هي أكثر من تغنى بقصائد جبران .
تفاعل جبران مع قضايا عصره، وكان من أهمها التبعية العربية للدولة العثمانية والتي حاربها في كتبه ورسائله. وبالنظر إلى خلفيته المسيحية، فقد حرص جبران على توضيح موقفه بكونه ليس ضِدًا للإسلام الذي يحترمه ويتمنى عودة مجده، بل هو ضد تسييس الدين سواء الإسلامي أو المسيحي ، استمر حتى عام 1920 جبران بنشر اعماله باللغتين العربية والأنكليزية منها قصيدة المواكب ، والعواصف ، البدائع والطرائف وكتاب النبي الذى أصدره في نفس العام والذى شهد أوج شهرة جبران تلاه “رمل وزبد” ومملكة الخيال وكلمات جبران .
كان جبران ميالاً منذ الطفولة إلى الوحدة والتأمل ، وظل في مراهقته منطوياً على نفسه، بعيداً عن الأقارب والجيران ، وكان سريع البديهة، متواضعاً و طموحاً . وكان واسع الثقافة فقد قرأ لشكسبير وللشعراء الرومنسيين , كما تأثر بالتصوف الشرقي الهندي منه المسيحي و الإسلامي. فآمن بوحدة الوجود والتقمص، وبالحب وسيلة لبلوغ الحقيقة. هذا بالإضافة الى نبوغه في الرسم حيث رسم أكثر من 700 صورة .
توفي جبران خليل جبران في نيويورك في 10 أبريل 1931وهو في الـ 48 من عمره. وكان سبب الوفاة هو تليف الكبد وسل. وكانت أمنية جبران أن يُدفن في لبنان، وقد تحققت له ذلك. دُفن جبران في صومعته القديمة في لبنان، فيما عُرف لاحقًا باسم متحف جبران. وقد أوصى جبران أن تكتب هذه الكلمة على قبره بعد وفاته: ( أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك ) , وعند وفاته كان عنوان صحيفة نيويورك “مات النبي”، حيث أقام سكان المدينة الصلوات ليومين حداداً لوفاته !
ومن أقواله المأثورة :
* أنا لبناني ولي فخر بذلك، ولست بعثماني، ولي فخر بذلك أيضاً.. لي وطن أعتز بمحاسنه، ولي أمة أتباهى بمآتيها، وليس لي دولة أنتمي إليها وأحتمي بها …………..
* ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره، لذلك إذا أردت أن تعرفه فلا تصغ إلى ما يقول بل إلى ما لا يقول …………….
* الحق يحتاج إلى رجلين: رجل ينطق به ورجل يفهمه …………