تقدم الوفد الإسلامي بأسيرهم الهرمزان إلى المدينة المنورة ليرى فيه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأيه، وكما ذكرنا أن الوفد كان على رأسه سيدنا أنس بن مالك والمغيرة بن شعبة والأحنف بن قيس رضي الله عنهم، وتوجه الجميع من "تُسْتَر" إلى المدينة، وكانت المسافة كبيرة جدًّا تُقدَّر بألف كيلو متر، وكان الهرمزان تحت حراسة مشددة، فلما اقتربوا من المدينة ألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه، وكان مكلَّلًا بالياقوت، وأساوره وأعقاده الذهبية ومنطقته وسيفه الذهبي، ألبسوه هذا اللباس ليدخل المدينة في هذه الهيئة، فيرى المسلمون هذا العزَّ وهذه العظمة كيف سقطت في أيدي المسلمين؟ وكيف أعز الله المسلمين وأذل هؤلاء بالإسلام؟ فألبسوه لباسه ودخلوا به إلى المدينة، فطلبوا عمر فلم يجدوه في بيته، فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة.

وسيدنا عمر بن الخطاب هو رئيس الدولة التي أسقطت عروش أعظم دولتين في الأرض: الفرس والروم، وما زالت هذه الدولة في بداية نشأتها، فرآهم بعض الصبية وهم يلعبون في طرقات المدينة؛ فقالوا لهم: ما تلددكم؟ تريدون أمير المؤمنين؟ والله إنه لنائم في المسجد. فذهب الوفد إلى المسجد ومعهم الهرمزان، وتجمع الناس في المسجد لما رأوا الهرمزان في هذه الهيئة؛ ليحضروا هذا اللقاء التاريخي بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وبين الهرمزان أحد قواد الفرس، وعندما دخل الوفد المسجد بحثوا عن سيدنا عمر بن الخطاب في المسجد يمينًا ويسارًا فوجدوه متوسدًا بُرْنسًا له كان قد لبسه للوفد، فلما انصرفوا عنه توسّد البرنس ونام، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدِّرَّة في يده معلقة، فكان نائمًا بدون حرّاس أو حجّاب.

لقاء عمر رضي الله عنه مع الهرمزان:

دخل الهرمزان المسجد، وتأهب لمقابلة رئيس الدولة التي أسقطت عروش كسرى وقيصر، والذي أرسل جيوشًا مخرت "فارس" من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، رئيس الدولة التي زلزلت "الروم" و"فارس"، كان منتظرًا لمقابلة رئيس الدولة الذي تطيعه كل هذه الجيوش فتتحرك بكلمة منه في بلاد الروم وفارس، كان منتظرًا لأن يقابل الرجل الذي يضع خططًا وهو في المدينة لا يستطيع أمراء وقادة فارس وضعها وهم في أرض المعركة وفي بلادهم، وكما ذكرنا من قبل أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يضع الخطط من المدينة لتحركات الجيوش داخل مدينة فارس، وكأنه يعيش في أرض فارس وما دخل فارس من قبل، كل ما في الأمر أن فارس كانت توصف له كأنه يراها رأي العين وعلى إثر ذلك يضع الخطة، وتعجز القيادة الفارسية في ذلك الوقت -وهم أهل البلد وأعرف بها من غيرهم- أن يضعوا خطة تجابه الخطة التي وضعها سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة؛ فقد كان متشوقًا لرؤية هذا الرجل ذي العبقرية العظيمة الجبارة وصاحب التفكير العملاق، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا. فوجده في وضع غريب جدًّا، وجده نائمًا في ركن من أركان المسجد، لباسه متواضع، ليس له حرّاس أو حُجَّاب، ومن المؤكد أن تحضر صورة يزدجرد ملك الدولة الفارسية في ذهن الهرمزان، فقد كان الداخل على يزدجرد يقف على مسافة منه، وكان أقرب من يقف مع يزدجر يقف على بعد خمسة أمتار وكانوا كبار الأساورة والأمراء، وعلى بعد عشرة أمتار يقف كبار قواد الجيش والعلماء، ثم على بعد خمسة عشر مترًا يقف المهرجون والمطربون وأصحاب اللهو، وإذا أراد أحد مقابلته فليس له أن يتجاوز هذه المسافة، وكان الداخل على يزدجرد يرتمي على الأرض، ولا يتكلم حتى يأذن له كسرى بالكلام، وإذا تكلم أحد مع يزدجرد لا يذكر اسم يزدجرد أبدًا تعظيمًا لهذا الاسم، وإذا دخل رجل على يزدجرد وضع على فمه غلالة من القماش الأبيض حتى لا تُلوِّثَ أنفاسُه الحضرة الملكية ليزدجرد، ولك أن تنظر إلى العظمة التي كان يعيش فيها كسرى فارس وأمير الأهواز الهرمزان وغيره من أمراء الدولة الفارسية، وكيف يستطيع هذا الرجل المتواضع الذي ينام في ركن من أركان المسجد أن يسقط كل هذه العروش، ويهز هذه الأبنية التي ملأها الكبر والعظمة، فيتعجب الهرمزان متسائلاً عن عمر بن الخطاب، فقالوا: ها هو نائم.

وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه، وجعل الهرمزان يقول: وأين حجّابه؟ أين حَرَسه؟ فقالوا: ليس له حجاب ولا حرس، ولا كاتب ولا ديوان. ينام في المسجد في منتهى الأمن، وقد قال له رسول قيصر: حكمت فعدلت فأمنت، فنمت يا عمر.

فقال الهرمزان: ليس له حاجب ولا حارس! ينبغي أن يكون نبيًّا.

فقالوا: لا، بل يعمل عمل الأنبياء.

فالرسل هم القدوة التي يقتدي بها الخلق، وقد وصل سيدنا عمر بن الخطاب إلى أن يعمل بعمل الأنبياء، وهذه ليست أول مرة تُقال فيها هذه الكلمة في حق سيدنا عمر بن الخطاب، فقد قالها أشرف الخلق محمد؛ ففي مسند الإمام أحمد عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "لَوْ كَانَ مِنْ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ".

وكثيرًا ما نزل القرآن موافقًا لسيدنا عمر بن الخطاب، هذا هو الرجل الذي يخاف منه الشيطان لا لقوة في جسده بل لقوة إيمانه وتقواه.

هذا الرجل العظيم شديد المنعة الذي يهتز كسرى على كرسيه فَرَقًا عند سماع اسمه، والذي تخشاه ملوك الروم يسمع آية من كتاب الله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7]، فيسقط مغشيًّا عليه خوفًا من هذه الآية من خشيته لله عز وجل، ويَعُوده أصحابه في منزله أيامًا.

فتعجب الهرمزان؛ رجل على مثل هذا وليس بنبيٍّ.

وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالسًا (ومن هذه اللحظة يبدأ اللقاء التاريخي المهم في أطهر بقعة من بقاع الأرض في بيت من بيوت الله عز وجل، وفي مسجد الرسول على ما كان عليه من البساطة، فيتم اللقاء في هذا المكان بين سيدنا عمر بن الخطاب أمير الدولة الإسلامية الناشئة التي أسقطت عروش فارس والروم وبين الهرمزان أمير الأهواز وأحد أمراء الدولة الفارسية) نظر عمر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم.

فتأمله وتأمل ما عليه، ثم قال: أعوذ بالله من النار وأستعين بالله.

ثم قال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غدارة.

فقال له الوفد: هذا ملك الأهواز فكَلِّمْهُ.

فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.

ففعلوا ذلك وألبسوه ثوبًا صفيقًا، فقال عمر: يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلَّى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن الله معنا ولا معكم، فلما كان الله معكم غلبتمونا. ولك أن تتأمل في كلام الهرمزان وبُعد نظره، فهو يشعر بل يؤكد أن الله ينصر هذا الجيش.

فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.

ثم قال: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.

قال: لا تخف ذلك.

فاستسقى الهرمزان ماء فأُتي به في قدح غليظ، فقال: لو مِتُّ عطشًا لم أستطع أن أشرب في هذا. فأتي به في قدح آخر يرضاه.

ليس لهذا اللقاء أهمية عسكرية كبيرة، بل تُظهِر هذه المقابلة بوضوح أخلاق المسلمين في هذا اللقاء، فنحن نرى سيدنا عمر بن الخطاب يصبر على الهرمزان ويأمر له بالماء، وكان بإمكان سيدنا عمر بن الخطاب قتله أو الغدر به، ولكن في مثل هذه المواقف تظهر الرحمة التي تربى عليها المسلمون حتى مع من غدر بهم وقتل منهم، ويظهر ذلك جليًّا في تعامل سيدنا عمر بن الخطاب مع الهرمزان.

فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال: إني أخاف أن أُقْتَلَ وأنا أشرب.

فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه فَأَكفأه.

فقال عمر: أعيدوه عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.

فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به.

فقال له عمر: إني قاتلك. فقال: إنك أمَّنتني.

قال: كذبت. فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين. فقال عمر: وَيْحَكَ يا أنس! أنا أُؤَمِّنُ من قتل مجزأة والبراء؟! والله لتأتينَّ بمخرج أو لأعاقبنك. قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني.

وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه. وقال له من حوله مثل ذلك.

فأقبل على الهرمزان فقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم.

فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة.

ولا أحد يعلم إن كان إسلام الهرمزان تقية وخوفًا من القتل (وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب مقولة تذكرها بعض الروايات، يقول سيدنا عمر: إن للمخدوع في الحرب حُكمَه؛ ولهذا يقول النبي: "الْحَرْبُ خُدْعَةٌ"، فيعرض سيدنا عمر بسلاح لم يستغله وبفتوى، وكما نعلم فإن سيدنا عمر بن الخطاب من كبار علماء المسلمين، فبعد مقالة سيدنا عمر أيقن أنه إما الإسلام أو القتل فأسلم الهرمزان)، أم أن إسلامه عن قناعة فهو لم يرتد بعد إسلامه، ولكن كثيرًا من الروايات تشكك في إسلام الهرمزان، ووصل بعض من يشككون في إسلام الهرمزان إلى أنه هو الذي أعان أبا لؤلؤة المجوسي على قتل سيدنا عمر بن الخطاب بعد ذلك، وكانوا يقولون: كان سيدنا عمر بن الخطاب يستشير الهرمزان ولا يأخذ بمشورته. المهم أسلم الهرمزان وأعتق نفسه من القتل، وأحضر له المسلمون لباسًا يرضاه، وعلَّموه الإسلام واغتسل، وأصبح مسلمًا بعد هذا اللقاء التاريخي.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135].

إن الناظر في اللقاء الكائن بين أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه والهرمزان أمير الأهواز ليلمس معاني كبيرة تُسَطَّر بأحرفٍ من نور للمسلمين، ولا بد أن نخرج من هذا اللقاء بفائدة عملية نتعلم منها، وتكون منهجًا في تعاملاتنا، وأهم ما يجب تعلمه من هذا اللقاء: العدل في الحكم وإن كان المحكوم عليه عدوك، فلم يكن أحد يبغض الهرمزان قبل إسلامه أكثر من سيدنا أنس بن مالك؛ فهو قاتل أخيه البراء بن مالك الذي لم يجف دمه بعدُ، ولكنه يعطيه الأمان عدلاً، ولا بُدَّ أن يُوَفَّى له بهذا العهد.

كانت هذه هي صورة الإسلام في ذلك الوقت.


فتح السوس:

بعد إسلام الهرمزان، أرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى أبي سَبْرَة بن أبي رُهْم أن يعيد أبا موسى الأشعري إلى البصرة مرة أخرى، ويؤمِّر على الجيش المقترب بن ربيعة، فيُؤمّر المقترب على جيش البصرة، ويظل النعمان كما هو على جيش تُسْتَر، وعلى الجيشين سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم، ويتوجه هذا الجيش العظيم من تُسْتَر إلى مدينة السُّوس، ومن تُسْتَر -أيضًا- يتجه جيش على رأسه ذرّ بن كليب إلى جُنْدَيْسابُور في شمال تُسْتَر.

ويتوجه الجيشان إلى مدينة السُّوس، وكما ذكرنا من قبل أن السوس عاصمة الأهواز، ولكنها لم تكن على نفس درجة حصانة تُسْتَر، وكان على رأس مدينة السوس شهريار أخو الهرمزان.

وتتفاعل في نفس شهريار عدة عوامل تزيده ضراوة في حربه ضد المسلمين:

أولها: أوامر يزدجرد للقادة الفرس بمحاربة المسلمين.

ثانيها: ملكه هو فهو أمير السوس وهي عاصمة الأهواز، فلو هزم لضاع ملكه وضاعت إمرته.

ثالثها: العامل الانتقامي؛ فهو يريد أن ينتقم لأخيه من المسلمين بسبب أسرهم لأخيه، ومن المؤكد عنده قتل الهرمزان.

وفي هذا الوقت جمع شهريار قواته وعسكر في السُّوس، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى المسلمين يقول فيها: "إنما أنتم كلاب، وإنما أنتم كذا وكذا". وكانت هذه محاولات لإهانة المسلمين حتى يشعرهم أنه غير مهتم بالقوات الإسلامية، وكأنه يريد محاربة المسلمين حربًا نفسيَّة، لكن المسلمون لم يشتغلوا بمثل هذه الأمور؛ فقد توجّهت الجيوش الإسلامية من تُسْتَر مباشرة إلى السُّوس لفتحها، وكان حصار مدينة السوس أقل من حصار مدينة تُسْتَر، وبدأ المسلمون بقذف حصون السوس بالمقلاع (والمقلاع آلة كالمنجنيق)، ورمي السهام داخل الحصون، وكان أهل الحصن يخرجون لمحاربة المسلمين المرة بعد المرة، ولم يحصدوا إلا الهزيمة في كل مرة كعادة الفرس، وتقهقروا مرة أخرى إلى الوراء داخل حصنهم خوفًا من فتك المسلمين بهم..

ودام الحصار شهرًا أو يزيد لم يستسلم فيه الفرس، ولم يتهاون المسلمون في حصارهم، وعلى المسلمين -كما ذكرنا- سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم، وأثناء محاصرة المسلمين للسوس أشرف عليهم الرهبان، فقالوا: يا معشر العرب، إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم معهم الدجال. حاول النصارى الموجودون في السوس إرهاب المسلمين نفسيًّا، فالدجال -كما نعلم- شخصٌ منكر وبغيض، ولن يرضى المسلمون أن يكون بينهم الدجال، وقد حذرهم النبي منه، ولم يؤثر مثل هذا الكلام في المسلمين، فلديهم مرجع لا يختلف عليه اثنان: القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة، فإذا وجد تعارض بين هؤلاء القوم وبين ما جاء في القرآن فهو هباء منثور، فقد رأى النبي سيدنا عمر بن الخطاب مرةً يقرأ في صحيفة من التوراة، ولم يكن يمنعه هذا عن قراءة القرآن، فيغضب غضبًا شديدًا قائلاً له: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي". ولم يشغل بال المسلمين مثل هذه التهديدات، فأصروا على الحرب وشددوا في حصارهم وقذفهم للسوس، وكسر المسلمون الأبواب ودخلوا مدينة السوس عنوة واستسلم كل أهلها، وكان فتحها يسيرًا على المسلمين بخلاف مدينة تُسْتَر.


فتح مدينة جنديسابور:

بعد خروج الجيوش الإسلامية من تُسْتَر، وفي الوقت الذي توجه فيه أبو سبرة بن أبي رهم من مدينة تُسْتَر إلى مدينة السوس كان ذرّ بن كليب متوجهًا على رأس جيش إلى مدينة جُنْدَيْسابُور، وبمجرد وصوله إلى جُنْدَيْسابُور ضرب عليها حصارًا شديدًا وخرج إليه أهلها لمحاربة المسلمين، وفي كل خروج يهزمون ويتقهقرون حتى يلجئوا إلى الحصن، ولم يستطع سيدنا ذرّ بن كليب تحقيق النصر الكامل على جيش جُنْدَيْسابُور، فأرسل إليه سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم من السوس سيدنا المقترب بن ربيعة على جيش البصرة مددًا له، فيذهب المقترب ويحاصرها معه، واشتد الحصار على هذه المدينة من الجيشين، ولم يتمكنا من تحقيق النصر على أهلها، فخرج إليهم سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم بعد أن ترك حامية من جيش المسلمين في مدينة السوس، وحاصر المدينة حصارًا شديدًا، واشتد في ضربهم حتى خارت المدينة وأوشكت على الانهيار، وشعر المسلمون بالنصر، وقد عرض عليهم المسلمون من قبل الإسلام أو الجزية أو القتال، ورفضوا الإسلام والجزية وأبوا إلا القتال، ولو انتصر المسلمون في هذه المعركة ودخلوا البلد عَنْوَةً كان حكم أهلها كحكم المأسور في الحرب وليس كحكم الذمي المعاهد على جزية، وبعد أن لاحت في السماء تباشير النصر وقبل وقوع النصر بلحظات وفتح الأبواب لم ينتبه المسلمون إلا وقد فتحت أبواب المدينة، وأخرجوا أسواقهم وخرج أهلها رافعين الرايات البيضاء، وقالوا: قبلنا أمانكم. فسألهم المسلمون: وما أماننا؟ فقالوا: رميتم بالأمان فقبلناه، وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا. فقالوا: ما فعلنا! فقالوا: ما كذبنا. فقرأ المسلمون الأمان، فإذا فيه: هذا أمن من مكنف بن عبد الله إلى أهل جُنْدَيْسابُور، أن افتحوا الأبواب وأنتم آمنون على دمائكم ونسائكم وأموالكم وذراريكم. ولم يعرف أحد من قادة الجيش الإسلامي مصدر هذه الورقة، فقالوا: ما ألقينا هذا الأمان، إنما فعل هذا مكنف بن عبد الله، وهو عبد من عبيد المسلمين، قد أُسِرَ وأسلمَ وكان مع الجيش في هذه الموقعة، وألقى هذه الورقة بداخل المدينة؛ فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية وما بدلنا، فإن شئتم فاغدروا. فكتبوا إلى عمر فأجاز أمانهم، فأمّنوهم وانصرفوا عنهم.

فكتب إليهم عمر بن الخطاب رسالة قصيرة يقول لهم فيها: إن الله عظم الوفاء، فإن كنتم في شك فأمِّنوهم، وأوفوا لهم عهدهم، وإنما ذلك العبد من المسلمين. فأعطى المسلمون الأمان لهذه المدينة بكاملها بأمان عبد من عبيد المسلمين، ويكتشف المسلمون بعد ذلك أن أصل هذا العبد كان من مدينة جُنْدَيْسابُور، وألقى إليهم هذا الأمان الذي وافق عليه عمر، وأعطى قائد الجيش الأمان للمدينة على أمان عبد من عبيد المسلمين، ووفَّى لهم وأعطوا الجزية. وبفتح جُنْدَيْسابُور أتم الله النعمة على المسلمين بفتح الأهواز.

وفي ذلك الوقت كان يزدجرد قد هرب إلى "مَرْو" في أقصى الدولة الفارسية، وبعد أن وصلت إليه أنباء الهزيمة وسقوط منطقة الأهواز بدأ يجرِّئ الجيوش الفارسية مرة ثانية على قتال المسلمين، وكان سيدنا عمر بن الخطاب قد أمر المسلمين بعدم الانسياح في بلاد فارس، والوقوف على حدود آخر مدينة فتحوها، وقال: "وددت لو أن بيني وبين فارس جبلاً من نار، لا أغزوهم ولا يغزونني". فقد كان رضي الله عنه يخشى أن تفتح الدنيا على المسلمين، ولا يريد أن يلتقي بالفرس إلا بعد أن يتأكد من وضع المسلمين.

فعلم قباذ بن عبد الله (وهو فارسي وكان على رأس حلوان) أن الفرس جمعوا مائة وخمسين ألفًا في نهاوند (وتقع نهاوند في شمال جُنْدَيْسابُور في وسط بلاد فارس)، وتصل الأخبار إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة بأن يزدجرد يجهز الجيوش في نهاوند لقتال المسلمين، وفي الوقت نفسه يقدم وفد من الكوفة إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاكيًا أمير منطقة فارس سيدنا سعد بن أبي وقاص، وقال الوفد لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن سعدًا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. يتهمون سيدنا سعد بن أبي وقاص سادس من أسلم، وخال الرسول ، والوحيد الذي قال له النبي: "يَا سَعْدُ ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"، والذي دعا له النبي بأن تُستجاب دعوتُه وتُسدد رميتُه، يتهمون هذا الرجل بأنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. وما إن سمع سيدنا عمر بن الخطاب هذه الكلمات حتى قرر التحقيق في أمر هذه القضية، ولم يشغله أن سعدًا من السابقين الأولين في الإسلام، أو خال النبي، وأرسل من المدينة من يحقق في أمر سيدنا سعد بن أبي وقاص، أرسل الرجل الذي كان يبعثه النبي في مهامه الصعبة.

أما عن نتيجة التحقيق التي بسببها عزل سيدنا سعد بن أبي وقاص، وسبب عزله، ومَن هذا الجليل الذي حقّق في الأمر، ومَن كان قائد الجيوش في معركة نهاوند، هذا القائد الذي قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "والله لأُوَلِّيَنَّ هذا الأمر رجلاً أسبق من الأسِنَّة".

د. راغب السرجاني