هاجس البعث: الموت والقيامة، في الحضارات الإنسانية بقلم / احلام رحال
-------------
لفت نظري منذ زمن تميز حضور هاجس البعث في ثقافات مختلفة منعكسا في تفاصيل الديانات الإنسانية، طقوسها، معتقداتها وأيامها المقدسة. وعليه، ارتأيت ان أكتب مقالا يسلط الضوء على أبرز تجليات هذه الفكرة في بعض الحضارات والديانات المختلفة، الشرقية منها بشكل خاص. فيما يلي صور لتجسيد فكرة البعث في بعض الديانات الشرقية
آمن المصريون في حضارتهم القديمة بفكرة البعث، ففي معتقداتهم لا تنتهي الحياة عند الموت، بل توجد حياة ما بعد الموت، وهي ممكنة إذا حافظ الإنسان على كينونته. ونقصد بهذا، أن كيان الإنسان عند المصريين يتركب من 4 أجزاء: الإسم (رين)، الروح (با)، الظل (شيوت) والنفس (كا). جميع هذه الأجزاء تولد مع الإنسان، فالإسم والروح والظل والنفس ترافقه مدى الحياة وما بعد الحياة كجزء من كيانه. عند الموت تبقى هذه المركبات ملازمة للميت، وتبقى الـ “با”، أي الروح، حية حتى بعد موت الجسد. وقد صورها المصريون في رسوماتهم على هيئة جسد طائر برأس بشري. وهي تطير منتقلة ما بين العالم المادي والعالم الأخروي، تتماهى مع حركة الشمس، تحلق في بزوغها ثم تعود إلى القبر والعالم السفلي عند الغروب. وقد آمن المصريون بأن الـ “با” لا يمكنها العودة إلى القبر ما لم تتعرف على جسد الميت. ومن ثم لا يمكن للمرء أن يعود إلى الحياة إذا فنى جسد الميت ولم تتعرف الروح إليه. ولهذا حرص المصريون على المحافظة على الجسد، فمارسوا مهمة التحنيط التي تخدم المرء في عودة روحه إلى جسده بعد الموت. فبدون جسد لا يوجد إسم ولا ظل ولا نفس، وهي أمور يحتاجها الميت للمثول أمام محكمة الآلهة للمحاسبة على أفعاله، ومن ثم يُبعث من جديد في الحياة الأخرى
في الحضارة السومرية، تقول الأسطورة إن الإله الراعي دوموزي (تموز في الصيغة البابلية) كان قد تجنب الوقوع في شباك الآلهة عشتار، فسلمته عقابا له لناظر العالم السفلي. وبعد حين شعرت عشتار بالندم على فعلتها، فقررت إنقاذه من الموت. عقدت عشتار صفقة مع آلهة العالم السفلي لإعادة دوموزي، على أن يحل أحد مكانه لبضعة أشهر يعود فيها إلى الحياة ثم بعد فترة ينزل للعالم السفلي من جديد. تطوعت كوشتينانا (أخت دوموزي) لفدائه، بحيث تحل محله في العالم السفلي لستة أشهر من كل عام ويتمتع هو بحريته في هذه المدة على سطح الأرض. ويتم ذلك عن طريق طائر الفينيق أو العنقاء، كرمز لعودته للحياة
إعتنق السومريون والكنعانيون هذه الفكرة، وأصبح طائر النار المسمى بطائر الفينيق رمزا للبعث والعودة للحياة. وبعد هذا أصبح الكنعانيون يحتفلون كل عام في بداية الربيع بعيد عودة دوموزي (تموز) للحياة، بحيث تتزامن عودته مع مواعيد الزراعة عندهم، فأصبح عيد عودته رمزا لانبعاث الزرع وعودة العشب الأخضر إلى الحياة من بعد الموت، رمزا للخصوبة والتناسل والتجدد، واستعملوا البيض كرمز لقيامة تمّوز، بحيث يخرج الصوص من البيضة، بمثل ما يخرج الزرع من الأرض وتخرج الحياة من القبر
ويُقال إن بعض الديانات السماوية تعلمت هذه الطقوس وتناقلتها فيما بينها.
آمنت الديانات السماوية: اليهودية، المسيحية والإسلامية بفكرة البعث والحياة بعد الموت. على سبيل المثال، ورد في الإنجيل: “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه وبه ننال الحياة الأبدية” (يو6: 56). وفي القرآن: “السلام علي يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعت حيا” (سورة مريم،الآية 33)، وفي مكان آخر: “وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور” (سورة الحج، آية 7). وفي الطقوس الدينية يحتفل كلٌ من المسيحيين واليهود في فترة الربيع بعيد الفصح، كل وفق طقوسه الخاصة. يحتفل المسيحيون بقيامة السيد المسيح بعد الموت وعودته للحياة، الأمر الذي يشبه كثيرا عودة الإله دوموزي لدى السومريين، ويحتفل اليهود بعيد الفصح وخروجهم من أرض مصر وتحررهم من العبودية، وهو أيضا بالنسبة لديهم عيد الربيع والزرع الأخضر وتجدد الحياة،
أما الدروز والديانات الهندية ومنها البوذية والهندوسية، فهي تؤمن بالتناسخ، أي عودة الروح بعد الموت في خلق جديد. إذ يرى الدروز على سبيل المثال أن روح الإنسان الميت تنتقل بعد وفاته إلى جسد طفل حديث الولادة، وتستمر بالتناسخ من خَلق لآخر حتى تحين القيامة فتجتمع الأرواح وتصعد للمحاسبة
في خضم هذا الإستعراض، أسأل نفسي: لماذا وُجدت هذه الطقوس والمعتقدات؟ ما السر وراء تداول فكرة البعث في الحضارات المختلفة؟
كمحاولة إجتهادية لتحليل الأمر، أرى أولا أن الديانة عبارة عن مجموعة من القيم الإجتماعية التي تعكس جوهر الحضارة الإنسانية السائدة. وفي الغالب، تمثل هذه القيم إسقاطات لعوالم نفسية وأفكار واعية وغير واعية، على مستوى الأفراد، ثم ما تلبث أن تصبح تراثا جمعيًَا، وعيا ولا وعي جمعي. فكرة البعث في رأيي هي إحدى هذه الإسقاطات. كيف لا؟ والمرء يشغله منذ عصور خوفه من العدم، ويحيره السؤال حول الموت وماذا يحدث بعد الموت، محاولا أن يتحايل عليه بفكرة الخلود. فكثيرا ما نجد صورا للخلود متجسدة في سلوكيات إنسانية تبدو للوهلة الأولى عادية وبسيطة، لكنها تخدم حاجتنا للخلود والبعث من جديد. فمثلا مسألة التناسل والإنجاب هي محاولة للخلود عن طريق بعث جيناتنا من جديد في أبنائنا. وممارسة الفن والكتابة والأدب، هي محاولات لتخليد ذكرانا وأعمالنا أجيالا وأجيالا “هزمتكَ يا موت الفنون جمعيها” (محمود درويش). وهنالك أشخاص آخرون يهتمون بالأمر بشكل آخر فيخلدون أسماءهم في الحروبات، والنقوشات على الأحجار والمعابد، في صك العملة، في تسمية الشوارع والمؤسسات والأبنية على أسمائهم.. هذه كلها برأيي هواجس نفسية تجيب على حاجة المرء للخلود والبعث من جديد بعد فناء جسده
أردتُ من خلال هذه المقاربة، إستعراض فكرة البعث في عدة حضارات إنسانية شرقية، ربما تشترك فيما بينها بهذه الفكرة بسبب الإسقاطات النفسية الجمعية المشتركة بين الناس، أو بسبب تأثر الحضارات والشعوب من بعضها البعض. على أن الأمر لا ينحصر في هذه الفكرة فقط، فإذا أردنا التعمق والتوسع أكثر، سنجد الكثير من الأفكار المتقاربة بين الحضارات، مثلا موضوع الحساب بعد الموت، فكرة المخلص والمسيح المنتظر، ولادة المسيح ومدى تشابهها مع ولادة بوذا وظروف حياته ومماته، وغيرها من معتقدات. قد يطول الحديث هنا، لذا قد تكون لي عودة أخرى حول الأمر في مقال آخر