الشعر التعليمي الذي تنتمي إليه المنظومات في مختلف العلوم والفنون" فن دفع إليه رقي الحياة العقلية " العربية منذ القرن الثاني الهجري حيث قام فريق من العلماء والشعراء بنظم العلوم والمعارف والسير والقصص والأخبار بقصد تيسير حفظها وتذليل مباحثها وتقريب معانيها إلى الطلاب والدارسين .
وهذا النوع من النظم لا يعد شعرا بالمعنى الخاص ، ولكنه شعر من حيث الإطلاق ، لأنه يفتقر إلى كثير من العناصر الشعرية التي تقوم على العاطفة والخيال وبُعد التصوير ، وإنما سمي شعرا وسميت بعض تلك المنظومات قصائد " من حيث مشابهتها للقصيدة في تعلق بعضها ببعض وفي كونها من بحر واحد " .
ولم تقتصر تلك المنظومات التعليمية على العلوم الشرعية والعلوم اللغوية التي كانت موضع اهتمام طلاب العلم ، بل اتجه التأليف فيها إلى بعض العلوم والفنون الأخرى . ومن أشهر المنظومات التي بلغت ألف بيت أو ما يقاربه فسميت لذلك ألفية : ألفية ابن سينا في الطب ، وألفيتا ابن معط وابن مالك في النحو ، وألفية العراقي في أصول الحديث ، وألفية محب الدين الحلبي في الفرائض ، وألفية البرماوي في أصول الفقه ، وألفية القباقبي في البلاغة ، كما كان للسيوطي ألفية في النحو والتصريف والخط .
غير أن ألفية ابن مالك في النحو والصرف هي أشهر الألفيات على اختلاف أنواعها وفنونها ، وأصبح الذهن ينصرف إليها إذا ذكر اسم الألفية دون تحديد أو تقييد .
وأصبحت الألفية من المتون التي لا يستغني عنها طالب علم ، فمنذ ظهورها تلقها أهل العلم وطلابه بالقبول ، وكتب الله لها الانتشار ، فسارت بها الركبان إلى مختلف البلدان والأمصار ، وصارت الألفية أشبه بنجوم قطبية ثابتة في أديم السماء ، دار في فلكها العلماء دون كلل أو ملل من مختلف الملل والنحل ، وعلى مر العصور والدهور التي تعاقبت على أمة الإسلام منذ القرن السابع وحتى القرن الهجري الماضي الذي انسلخ منذ ما يقرب من ثلاثة وعشرين عاما.
وغدت ألفية ابن مالك التي تضمنت منهجه في الدرس والتأليف والذي يقوم على أساس المزج بين المذاهب النحوية ، واختيار الراجح منها دون ميل أو انحياز مع جنوح واضح إلى التجديد والاجتهاد غدت مدرسة مستقلة بذاتها رسمت مناهج الدراسة اللغوية في أقاليم كاملة وفق قواعدها وضوابطها ، فالدراسة اللغوية والنحوية في بلد أخرج عددا كبيرا من العلماء كبلاد شنقيط سارت وفق منهج ابن مالك ، حيث جاء في بحث علمي ليحيى بن البراء بعنوان ( ألفية ابن مالك وأثرها في الثقافة الموريتانية ) : " وفي النحو أخذوا بالمنهج البصري على شرعة ابن مالك في كتبه "
والألفية منظومة شعرية من بحر الرجز جمع فيها ابن مالك مقاصد العربية وقواعدها في النحو والصرف ، اختصرها من منظومته ( الكافية الشافية )والتي تقع فيما يقرب من ثلاثة آلاف بيت ، وسماها الخلاصة ، وإنما اشتهرت بالألفية لأنها ألف بيت ولقول صاحبها :
وأستعين الله في ألفية ـــــــــــــــــــــــــ ـــ مقاصد النحو بها مَحْويه
وقد وجد من العلماء من ينقص بعض أبياتها قال الصبان :" نقل شيخنا السيد أن بعضهم أخبر بأنها تنقص عن الألف ستة أبيات ، لكن التحقيق أنها ألف بيت ، حيث نص صاحبها على ذلك " ثم قال :" إن جماعة ممن أثق بهم أخبروني بعد التحري في عدها بأنها ألف ".
ومع أن ألفية ابن مالك سبقت بألفية أخرى في النحو أيضا ، وهي ألفية ابن معط الموسومة بـ ( الدرة الألفية في علم العربية ) إلا أنها لم تنل من الانتشار والقبول ما نالته ألفية ابن مالك ، وقد وازن المقري في نفح الطيب بين الألفيتين ، فقال : "نظمه أجمع و أوعب ، ونظم ابن معط أسلس وأعذب "
ومن الفروق بين الألفيتين غير ما ذكره المقري ، أن ألفية ابن معط مزيج من الرجز والسريع بينما ألفية ابن مالك من بحر واحد وهو كامل الرجز أو مشطوره .
وابن معط يبتعد عن الإيجاز الذي هو من طبيعة المتون ، فنراه يستقصي أكثر المسائل في حين أن ابن مالك يميل إلى الإيجاز والاختصار .
وتختلف الألفيتان في تنظيم الأبواب وتقسيمها ، فابن معط كان يجمع الأبواب المتناسبة في باب واحد ، لذا جاءت ألفيته في واحد وثلاثين بابا ، أما ابن مالك فقد كان أدق من ابن معط في ترتيب الأبواب وتقسيمها وتنظيمها ، فجعل كل باب وحدة مستقلة ، ولذا جاءت ألفيته في ثمانين باباً.
وقد أشار ابن مالك في الخلاصة إلى ألفية ابن معط مقررا تفوق ألفيته عليها ، قال :
وتقتضي رضًى بغير سُخْط ـــــــــــــــــــ فائقة ألفية ابن معطي
لكنه عاد في البيت الذي يليه واعترف له بفضل السبق ، فقال :
وهو بسَبْقٍ حائزٌ تفضيلا ــــــــــــــــ ميتوجبٌ ثنائي الجميلا
والله يقضي بهباتٍ وافره ــــــــــــــــ لي وله في درجات الآخرة
ولقد لقيت ألفية ابن مالك عناية كبيرة من العلماء ، حيث قام كثير منهم بشرحها ونثرها وإعراب أبياتها أو وضع حواش وتعليقات عليها ، ذكر حاجي خليفة في (كشف الظنون) الكثير منها .
وقد سبقت الألفيات بأراجيز ومنظومات لم تبلغ ألف بيت ، وأقدم النظومات النحوية منظومة من بحر الكامل نُسِبت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي ، حيث ذكر خلف الأحمر في كتابه ( مقدمة في النحو ) أن للخليل قصيدة شعرية في النحو ، نقل منها بيتين . وقد صحح بعض الباحثين المعاصرين صحة نسبة هذه المنظومة للخليل بن أحمد بعد أن شكك محقق كتاب خلف الأحمر في نسبتها للخليل .
ومن الأراجيز النحوية أرجوزة ( ملحة الإعراب ) للحريري ، والتي تقع في ( 374) بيتا ، جعلها الراجز في أكثر من ستين بابا ، وله شرح عليها .