ما الذي يقدمه لنا الدين، ويعجز العلم عن تقديمه؟
يمر الدين، كفكرة فلسفية، في العالم كله، بوقت صعب. فقد كثيرون احترامهم له في الحياة العصرية، ولم يَعد يقتصر الأمر فقط على الملحدين والمثقفين، بل انتشر بين عامة الشعب، أيضًا. تشير الإحصائيات إلى أنه من المرجح أن يكون الجيل الجديد القادم الأقل تدينًا في الذاكرة الحديثة.
هناك أسباب وجيهة تدعم هذا الاستياء العام: كاستمرار كشف اعتداءات الكهنة ورجال الدين، والحملات الجهادية ضد «الكفار»، والعداء المسيحي تجاه التنوع والثقافة العلمانية. دفعت هذه المشكلات كثيرين إلى الإيمان برأي عالم الأحياء التطوري «إي. أو. ويلسون»، وهو أنه «من أجل التقدم البشري، أفضل ما يمكننا فعله، هو أن نقلص، إلى حد الإلغاء، العقائد الدينية».
في هذا المقال الذي نشرته جريدة «The New York Times»، يناقش «ستيفن آسما»، أستاذ الفلسفة، لماذا يعاني الدين والروحانيات من وقت صعب هذه الأيام؟
لكن على الرغم من الزاوية التقليدية في التعامل مع المسألة، يجادل ستيفن بأننا ربما ما زلنا بحاجة إلى تمثيلات أوسع للدين في الفضاء العام.
حادثة صعبة
غير عقلانية الدين لا تجعله غير مقبول، أو أقل قيمة، أو جديرًا بالازدراء. وإنما غير العقلانية تلك قد تكون مصدر قوته.
في يومٍ، وبعد إلقاء الكاتب محاضرة أمام مجموعة من الطلبة الجامعيين حول تفكك مبدأ التوحيد، اقترب منه طالب خجول. وأخبره، بتوتر مستمر، قصة مُفجعة.
قبل خمس سنوات، هوجم أخو الطالب بشراسة، وتعرَّض لطعنات وحشية ومات على إثرها، ولم يُقبض على المعتدي حتى الآن. وحطَّم هذا الحادث الطالب وأخته وأمه. عانت أمه من انهيار عصبي لفترة، وكادت تُلحَق بمصحة نفسية، غير أنها تحسنت بسبب إيمانها بأنها ستلتقى بطفلها الفقيد مرة أخرى، وسيُلم شملهما معًا في الحياة الآخرة، واثقةً بأنه سيكون بصحة جيدة وجسد من دون ندبات أو طعنات. قد ساعدت هذه الاعتقادات بجانب طقوس الكنيسة في إنقاذها حين كانت على شفا حفرة من الاكتئاب، وأعطتها القوة لمواصلة تربية طفليها الآخرين.
بالنسبة إلى الملحد النموذجي، يبدو كل هذا غير عقلاني، وبالتالي غير مقبول. فيخبرنا بأن المعتقدات لا بد من أن تتماشى مع أدلة لا مجرد رغبة واحتياج. من دون المعايير العقلانية، مثل معايير العلم الراسخة، فإننا نسير في طريق الفوضى، وسننتهي إلى ظلمات عصور ما قبل التنوير.
يعترف الكاتب بأنه لا ينوي محاولة إنقاذ الدين باعتباره عقلانيًّا. فهو غير عقلاني بصورة كبيرة فعلًا. لكنه يود أن يناقش هنا
غير عقلانية الدين لا تجعله غير مقبول، أو أقل قيمة، أو جديرًا بالازدراء. وإنما غير العقلانية تلك قد تكون مصدر قوته.
دماغ الإنسان عبارة عن كومة من أنظمة تشغيل مختلفة: دماغ الزواحف القديم (الذي تضمَّن وظائف الحركة، وغريزة الكر والفر)، ودماغ الثدييات (الذي يتضمَّن العواطف)، وآخرهم القشرة الحديثة، وهي جزء من القشرة المخية (وتتضمن العقلانية). يُغضب الدين الجزء العقلاني من الدماغ لأنه مبني بشكل كبير على الغيبيات دون أدلة، لكنه يغذي الدماغ العاطفي لأنه يهدئ من مخاوفه، ويتفق مع رغبته في الحاجة للإنتماء إلى شيء أكبر، ويقوي مشاعر الولاء.
وفقًا لعلماء أعصابٍ بارزين، مثل «جاك بانكسب»، فإن أدمغتنا مدفوعة أولًا بالنظم العاطفية القديمة، مثل الخوف والغضب والشهوة والحب والحزن. هذه القوى قابلة للتكيف، وتساعدنا على البقاء والنجاة إذا أديرت بشكلٍ صحيح، هذا ما إذا كانت قوية بما يكفي لتحقيق أهداف البقاء. لكن ليست قوية للغاية لكي لا تتغلب علينا، وتدفع بنا إلى اضطراب عصبي أو سلوك غير تكيُّفي.
إن ادِّعاء الكاتب الأساسي هو أن الدين يمكنه أن يصل بصورة مباشرة إلى تلك الحياة العاطفية بطرق لا يستطيع العلم التعامل معه
تعد الممارسات الدينية لونًا من ألوان التفاعل الاجتماعي الذي يمكن أن يحسن من الصحة النفسية.
نعم، يمكن للعلم أن يعطينا مشاعر عاطفية، مثل التعجب والتأمل في سحر الطبيعة وعظمتها، لكن هناك أشكال أخرى للمعاناة الإنسانية، والتي لا يستطيع العلم تخفيف وطأتها. الضغوط النفسية المختلفة تتطلب أنواعًا مختلفة من الإنقاذ. وبعكس الإشادات العلمانية السابقة عن وظيفة الدين الأخلاقية والحضارية، فإن الكاتب يعتقد أن أهمية الدين الحقيقية تكمن في الإدارة العاطفية التي يوفرها، والتي جرى اختبارها بالفعل.
بالطبع، هناك جانب سوداوي للمشاعر الروحية. فالحياة العاطفية الدينية تميل إلى الميلودراميات. فلا يزال الدين يُشرك في حكايات المعارك بين الخير والشر، ويغذي قصص الانتقام والعدوان التي يكون بطلها «التستوستيرون». وبرغم أن هذا النوع من التعصب خطير، ولا يمكن إنكاره، فإن أغلب الأديان تساعد الأُسر المتوسطة التي تكافح من أجل كسب قوتها في الأيام العصيبة.
إن الطقوس الدينية، على سبيل المثال، تُحيط الشخص الذي يعاني الفقدان، بأكثر عنصر مساعد، وهو: أُناس آخرون. إن البشر يعتمدون على الآخرين بشكل كبير، أكثر من الثدييات الأخرى، وليس فقط للحصول على منافع أو مهارات، لكن للشعور الجيد. والشعور الجيد أكثر أهمية من التفكير الجيد في معركة البقاء.
تعد الممارسات الدينية لونًا من ألوان التفاعل الاجتماعي الذي يمكن أن يحسن من الصحة النفسية. عندما تفقد شخصًا تحبه، يمكن للدين أن يوفر إطارًا علاجيًّا من الطقوس والمعتقدات التي تُفرز «الأوكسيتوسين»، والمواد الأفيونية الداخلية، وكذلك «الدوبامين»، وعدد من التأثيرات الإيجابية الأخرى التي من شأنها أن تساعد في تخطي الشعور بالحزن، وتُعين على التكيف والبقاء.
تلعب المعتقدات دورًا، لكنها ليست الوسيلة الأفضل لتلقي مثل هذه القوة العلاجية. وبدلًا من ذلك، فإن الممارسة الدينية (الطقوس، الأنشطة التعبدية، الأناشيد والترنيمات، الصلوات) تحرك مشاعرنا، وتمنحنا الفرصة لدعم بعضنا في الأوقات الحزينة، ما يخفف من التوتر والقلق، ويرشدنا إلى مَخرج للغضب والسخط.
يقيّم ملحدون، مثل «ريتشارد دوكنز»، الدين بناءً على عقلانيته. يتفق الكاتب معهم في أن الدين يفشل بجدارة في أن يُصنَّف عقلانيًّا، لكننا في قائمة التصنيف الخطأ.
الهدف من الدين ليس عقلانيًّا. ففي أحيان كثيرة، تقدم العواطف حلولًا أفضل للمشكلات من التفكير العميق.
أظهر عالم الأعصاب «أنطونيو داماسيو» أن العواطف تتشابك مع جوانب معالجة المعلومات، والتي نظنها عقلانية تمامًا. ولذلك، يحدث شيء معقد عندما تتذكر والدة طالبي ابنها الفقيد، ثم تدمجه باعتقادات لنهاية سعيدة لهما معًا.
وجه «ماركس»، و«ماو»، وحتى «مالكوم إكس» نقدهم للدين التقليدي، ويعيش هذا النقد كإهانة جارحة لمعتقدي كل الأديان، بشكلها التقليدي.
لا يوجد قدر كافٍ من التفسيرات العلمية أو التنظيرات الإجتماعية/السياسية يمكنه مواساة أمٍ ثكلى. ولن يكون كلام أي عالم، مهما تكن «عقلانيته»، ذا فائدةٍ تُذكر، إلا ما إذا تركوا شرح فسيولوجية المعاناة وعلم اجتماع الجريمة جانبًا. ما سيساعد الأم الثكلى فعلًا هو اعتقادها السحري بأنها سترى ابنها الفقيد مرةً أخرى، إضافة إلى دعم رفقائها بالمعانقات الصادقة والتعاطف.
إذا كان يمكن لهذا الأمل في لقاء آخر أن يساعدها ويمنحها الطاقة لاستكمال تربية طفليها الآخرين، فإنه يفعل الشيء ذاته مع آخرين في نفس الحالة. ولهذا السبب تحديدًا، فإن الدين ما زال موجودًا.
أما بالنسبة إلى العلمانيين الذين ينتقدون هذه الحلول العاطفية والاعتقادات السحرية بسؤال: «لكن هل هذا حقيقي؟»، لا يفهمون القصد وراء هذا بعد. معظم المعتقدات الدينية ليست حقيقية، بالفعل. لكن الدماغ العاطفي لا يأبه لهذا. إنه لا يتأثر بكون الأشياء حقيقية أم زائفة. فالمشاعر لا تُصنَّف بالحقيقة أو الزيف. حتى الخوف المفزع داخل حلم لا يزال خوفًا مفزعًا. هذا يعني أن معايير قياس النظريات ليست بالضرورة نفس معايير قياس المشاعر. فبعكس النظريات، التي يجب أن تتوافق تمامًا مع الحقائق التجريبية، فإن المشاعر تُقاس بإسهامها في إحداث توازنٍ كيميائي عصبي، أو في حالات أخرى تعزز التطور البيولوجي.
هل الدين أفيون الشعوب حقًّا؟
لقد وجه «ماركس»، و«ماو»، وحتى «مالكوم إكس» نقدهم للدين التقليدي، ويعيش هذا النقد حتى الآن كإهانةٍ أخيرة جارحة لمعتقدي كل الأديان، بشكلها التقليدي. ظل الكاتب كثيرًا متفقًا مع هذا الرأي، لكنه في السنوات الأخيرة، غيَّر رأيه بشأنه.
يرى الكاتب الآن أن الدين يُنشط بقدر ما يُخدِّر. كما أنه يُلهم كثيرين للقيام بكثيرٍ من الأعمال الخيرية.
وما المشكلة في تخفيف الألم على أي حال؟ إذا كان دفاع الكاتب عن الدين أنه علاجي في المقام الأول، فهو لا يجد أي مشكلة في أن يكون الدين وسيلة لتخفيف الألم وتلطيفه.
أما بالنسبة إلى بقيتنا، فيربت الكحول والدين والهوايات والعمل والحب والصداقة، على كتفِ آلامنا، لتهدئتها. وفوق كل شيء، فإن المواد الكيميائية، مثلها مثل «الأندروفين»، مكونات كيميائية أساسية في الدماغ والجسم البشري، وقد تطورت جزئيًّا، لتخليص الكائن الحي من بؤسِه أحيانًا.
إننا بحاجة إلى تقدير المسكنات الثقافية بصورة أكبر. فلا يكفي رفض الدين على أساس بعض الأحكام الأخلاقية المتزمتة حول ضعف المؤمنين به. الدين أقوى استجابة للحياة العاطفية العالمية التي تربط بيننا جميعًا