﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾

عندما نحاول أن ندعو غير المسلمين إلى الإسلام فإننا كثيراً ما نطرح عليهم سؤال: ما هو الهدف من الحياة؟ وما هي الغاية من وجودك في هذه الحياة؟ لأننا نشعر أنهم يسيرون بلا هدف ويلهثون بلا غاية.

لكننا كثيراً ما نغفُل عن طرح ذات الأسئلة على أنفسنا؟ وهل نحن على معرفة بالجواب؟ وإذا عرفنا الجواب هل نحن على يقين منه؟ وحينما نتيقن هل نعمل بمقتضى ذلك أم أن هناك لجة سحيقة بين ما نؤمن به في دواخلنا وبين سلوكنا وأعمالنا في اليوم والليلة؟
• أنت تعرف أن الغاية من الخلق هي العبادة وتحفظ عن ظهر قلب قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. فما مقدار العبادة في قلبك ولسانك وجوارحك؟
• يقرأ إمام مسجدك بين فترة وأخرى قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19] لكنك لا تسمعها، وإن سمعتها فإنها تمر على قلبك كبيت من الشعر استحسنته ثم نسيته.
• قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: ولا تكونوا كالذين تركوا أداء حقّ الله الذي أوجبه عليهم، فأنساهم الله حظوظ أنفسهم من الخيرات.
• ويقول السعدي رحمه الله في تفسيرها: والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قوماً نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فُرطاً، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنا، لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره.
أيها المؤمن الحصيف:
إياك أن تظن أنك أعلم بمصالح نفسك من ربك، لا تتعب نفسك ولا تجهد تفكيرك فقد تكفل الله عنك ذلك ودلك على الطريق، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]. هل سمعتها؟ قالوا ربنا الله ثم استقاموا؟ لقد قلنا ربنا الله، فهلا استقمنا؟

روى الإمام أحمد عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به. قال: "قل ربي الله، ثم استقم" رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حسن صحيح.
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19]..
• نسوا الله في الاستقامة على منهجه والاهتداء بهديه فأنساهم أنفسهم وجعلهم يهيمون في أودية الدنيا فيعبون منها ثم لا يشبعون، لماذا؟ لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
• نسوا الله في تربيتهم لأبنائهم فنشؤوا بعيدين عن الله وعن الأنس بقربه، فأصبحوا آلات لا روح فيها تجدهم في كل مكان إلا في الصف الأول ويتكلمون في كل موضوع إلا في حب الله والشوق للقائه، لماذا؟ لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
• نسوا الله في تأديتهم للأمانة في أعمالهم حضوراً وانصرافاً وجودة واتقاناً فعاقبهم الله بالمثل فيما يحصلون عليه من الخدمات، فهي إما متأخرة وإما رديئة ثم لا يوفقهم الله للتأمل أن ما أصابهم هو بما كسبت أيديهم، لماذا؟ لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
• يعجب أحدهم بعقله وبما حباه الله من القدرة على تحليل المواقف واستدراك الأخطاء، وينسى أنه محروم من استعمال ذلك العقل في التأمل في ملكوت السماء والأرض وتدبر آيات الكتاب العظيم مما يزيد الإيمان ويقرب من الرحمن. ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19].
• ينشغل أحدهم بمشاهدة المباريات والتعليق عليها وتحليلها لساعات بل لأيام ثم لا يتفكر أنه ربما هان على الله فأشغله بالتافه عن المفيد فلا يجد جواباً حين يسأل عن عمره فيما أفناه. نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
أيها الموفقون:
إن واقعنا الشخصي والمجتمعي خير شاهد على أننا بحاجة لذكر الله حتى لا ينسانا الله وينسينا أنفسنا، لأن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]، والمعيشة الضنك تسير في تناسب طردي مع الإعراض عن ذكر الله، فكلما ازداد الإعراض زاد ضنك العيش جزاء وفاقاً ولا يظلم ربك أحداً. قال ابن القيم رحمه الله: إن القلب كلما كان أبعد من اللَّه كانت الآفات إليه أسرع، وكلما كان أقرب إلى اللَّه بعدت عنه الآفات، والبعد من اللَّه مراتب، بعضها أشد من بعض، فالغفلة تبعد العبد عن اللَّه، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله. اهـ.

أيها المؤمنون:
إن ضيق قلوب كثير من أبناء المسلمين اليوم وسوء أخلاقهم وتردي العلاقات فيما بينهم منبعه خلو قلوبهم من الأنس بالله والقرب منه والالتذاذ بمناجاته وذوق حلاوة الإيمان في الصبر على طاعته والبعد عن معصيته.

لقد تاه كثير منا وهو يبحث عن طمأنينة القلب وسعادة الروح وصار يبحث عنها في كل مكان إلا في مظانها في كلام الله وسنة رسوله... يرقع دنياه بتمزيق دينه، فلا دينه يبقى ولا ما يرقعُ.
يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ
أتَطلُبُ الرِّبْحَ فيما فيه خُسرانُ
أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلَها
فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ

يا أيها المؤمنون:
إن الطرح المادي الصرف لكثير من قضايانا، والاسترشاد بالغرب لحل كثير من إشكالاتنا أبعدنا عن الجوهر الحقيقي لتحسين أوضاعنا وحل مشاكلنا. دعونا نقف مع أنفسنا هذه الوقفات:• كان العرب في الجاهلية بعيدون كل البعد عن المدنية وكانت فارس والروم ملء السمع والبصر حضارة ومدنية، وعندما أراد الله بالعرب خيراً لم يرسلهم لفارس أو الروم ليستنيروا بآرائهم، بل بعث فيهم رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وأنزل اليه كتاباً مبيناً فاستهدوا بهداه فسادوا الدنيا وملؤوا الأرض وهم أعراب، وأصبحت فارس والروم أثراً بعد عين وانتهى مجدهم على وقع خيول أقدام أولئك الذين كانوا في جاهلية جَهلاء. إن ذلك الكتاب الذي ساد به أولئك المؤمنون هو نفسه الكتاب الذي بين أيدينا الأن ولسنا والله بحاجة لدروس ومحاضرات من الشرق أو الغرب لتعلمنا كيف نسعد أنفسنا ونرتقي بذواتنا. وعندما نسينا الكتاب أنسانا الله أنفسنا.
• هل نجح الغرب اجتماعيًّا وروحيًّا مثل ما نجحوا ماديًّا؟ كلا. شتان أيها المؤمنون بين أن نستسلم لحضارتهم وبين أن نستفيد منها. لماذا تقازمنا أمامهم وأصبحنا نرى كل شيء فيهم جميلاً؟ أنظروا إلى ملابس شبابنا وقصات شعرهم والصور التي في جوالاتهم والمشهورين الذين يعجبون بهم من لاعبين ومغنين وممثلين وغيرهم. انظروا إلى الكلمات الأجنبية التي نستخدمها في حديثنا ومراسلاتنا وإلى النقد اللاذع الذي نرمي به أنفسنا كلما سافرنا إلى بلادهم. انظروا أيها المؤمنون إلينا عندما نستقبل الرجل الأشقر وقارن ذلك بنا حينما يزورنا عالم رباني من الهند أو بنغلاديش؟ نسوا الله فأنساهم أنفسهم.
• ما هو رصيدك من الإيمان باليوم الآخر وما أثر ذلك الرصيد على أعمالك وأقوالك في اليوم والليلة؟• ما هو مقدار تذكرك لهادم اللذات ومفرق الجمعات؟ وما أثر ذلك التذكر على بنائك للدنيا وبنائك للآخرة.
• ما هو مقدار يقينك بأن ما أصابك لم يكم ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك؟ وما أثر ذلك اليقين على اعتمادك على الناس وطلب العون منهم والتذلل لهم مقارنة بعزتك بالله والتوكل عليه والرضا بقضائه؟
• مر بنا قريباً شهر رمضان وبعده شهر كأس العالم، كيف كان حالك في الشهرين وما مقدار اهتمامك بالأول مقارنة بالثاني وكيف كان استعدادك لمشاهدة المباراة من أولها مع استعدادك للصلاة في الصف الأول وما مدى حضور قلبك في كل صلاة مقارنة مع حضوره في كل مباراة؟
• هل لديك القدرة أن تربط بين التوفيق الإلهي لبعض الصالحين في أغلب مجالاتهم مع قلة بذلهم للأسباب الدنيوية وكيف أن الله سددهم ووفقهم وأعانهم وبارك في أوقاتهم ونصرهم في كثير من المواقف وهم لم يبذلوا من الأسباب عشر ما بذل غيرهم. ألا تظن أن خلواتهم مع الله سبب رئيس لذلك التوفيق. ألا تحسب أنهم ذكروا الله فذكرهم ولم ينسوه فينساهم في مواقفهم المختلفة.
أيها المسلمون:
لقد قرأنا كثيرا في التاريخ أن السبب الرئيس لسقوط أكثر الدول الإسلامية هو ضعف الوازع الديني، وهذا كما ينطبق على الدول ينطبق على الأنفس والبيوت والقبائل والمجتمعات، ما نسي قوم الله إلا نسيهم وجعل أمرهم فرطا. تأمل في نفسك وبيتك. ارسم خطا أفقيا وضع في طرفه الأيمن قوله تعالى أذكروني أذكركم وفي طرفه الأيسر قوله تعالى: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67] ثم ضع موقعك بكل تجرد في المكان الصحيح بين الطرفين ثم بعد ذلك كن من أصحاب اليمين وتجاف عن ذات الشمال.
والموفق من وفقه الله ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35].