بريد السماء الافتراضي
في عيد ميلاده 24/8/1899
جزء من حوار مع الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس
قبل أن نبدأ الحوار معه،قال عن نفسه أشياء كثيرة،منها أنه بات مواطناً عِفْريتياً تكتمل فيه جميع صفات الشيطان .ويبدو أن الموت لم يؤثر على رحلته بذلك القدر من القلق والكآبة أو الخوف .إذ بمجرد أن وضع حقائبه التي أصّر على دفنها معه تحت التراب، هام على وجهه بحثاً عن قدامى الأصدقاء ممن تعلق بهم أو أحبهم في حياته المثقلة بالعمى على الأرض،وفي مقدمة أولئك الفنانة مارلين مونرو التي كان يضمر لزوجها (آرثر ميلر) حقداً سرّياً،أدى إلى انتزاعها منه بعد خمس سنوات من الزواج المضطرب.
إنه الشاعر والقاص والكاتب العمومي خورخي لويس بورخيس الذي شطبتْ رياحُ السموات عن وجهه كل التجاعيد،فلم يعد طاعِناً في السّن. وجدناه في مكتبه يراجع كتاباً عن الخُصُوبة وتكاثر الإنْسال. فيما جلست إلى جانبه مارلين مونرو،وهي تشحنُ شفتيها بأحمر الشفاه بواسطة قابس كهربائي.
كان الطقس مريحاً لتبادل الأسئلة والأفكار مع خورخي،خاصة وأنه كان على قدر كبير من الانتشاء في ذلك المكان العبق بعطر أحد أهم رموز الإثارة والأنوثة وأساطير السينما .سألناه:
■ كنت على تلك الأرض، بأحزانٍ جافة .لكن بورخيس في زمنه الجديد ،هو من غير صناعة الآلام أو تأثيراتها.هل كنت تقاوم هناك .أم كانت أوجاعُك لا تصرخ ؟!!
ـــ لقد ولى زمن الأرض الضريرة.وما تحطم من أحلام سابقة،لستُ بحاجة لإعادة إنتاجها هنا بعد عملية استرداد النظر للعينين .لكن يمكن التذكير هنا،أن عالمي القديم ، لم يكن موحشاً كما قد يظن البعضُ،ولكنه كان أشبه بحقيبة مضغوطة بالملابس المستعملة.
■ هل عَرَفَ بورخيس غرفَ جسدهِ تماماً ؟!!
ـــ لا أعتقد بوجود شاعرٍ ،يختارُ النزولَ والاستقرار في غرفة واحدة أو في حديقة حيوانات.لكن،ما أن تهبط العواطفُ على السلالّم السريّة بين طبقات اللحوم،حتى يشتعل صراخُ الحب،ليحكم الجدران مجتمعةً ،تاركاً الجسد بلا أقفال.أنا كنتُ أدّلُ نفسي على الفراغ العاطفي بكل قسوة،لئلا أقع فريسةً لسوء الاستعمال الغرامي.
■ ولكن الحبّ، لم يصل إلى مسامع جسمك ومجساته ، إلا فيما بعد الستينات من العمر.كيف حدث وان أغفلت ذلك ،لتدوم أعزبَ طوال تلك الفترة؟!
ـــ من الممكن لك أن تعتقد بأنني كنت مُصِرّاً على الافتراض بأنني صاحبٌ لحانة في مبنى لغوي ضخم،ولا يمكنه التفريط به لصالح شئ آخر،بما في ذلك النساء.
■ هل يعتبر خورخي المرأة عنصراً منتجاً للقلقِ على سبيل المثال ؟
ـــ ليس بعيداً الاعتقاد بشئ من هذا القبيل.إلا أنني أستطيع تبرير ذلك القلق المتعلق بوجودها داخل وجودي الشخصي.وبالمقابل ،لا يمكن إنكار دورها بصناعة الألم الوجودي الذي هو أوسع وأهم من القلق الطارئ الذي عادةً ما يعتاشُ على شرودنا وانقسام أفكارنا وهلامية شكوكنا بكل ما يحيط بعالمنا الهَرِم.
■ كيف تحققُ اللذّةَ العظمى لجسدك؟
ـــ هذا سؤال مجرثم ولئيم.وهو بكل المقاييس ،يعتبرُ اعتداءً على خاصية العمى الذي أوقعني الزمنُ به.هل سبق لك وأن التقيت بالشاعر بابلو نيرودا ؟
■لا .لم تسنح لي الفرصةُ بعد؟
ـــ لأنني أشكُ بأنه وراء طرح سؤال مثل هذا .كنا أصدقاء متخاصمين بهدوء على بعض المبادئ الخاصة بالماركسية وسيطرتها الفكرية ،تلك التي تجعل الفرد عبداً للدولة،مع تفريغه من محتواه الإبداعي لصالح الجماعة.
■ ولكنه كان صديقك على ما أذكر.فكلاكما من قارة واحدة!
ـــ لا قدرة لي على مصاحبة شيوعي من طراز نيرودا
.
لقد كان (مصلحياً ) بإفراط.لم يقم بإدانة جرائم حكم العسكر برعاية بيرون في الأرجنتين.بعبارة أدق ،كان نيرودا شاعراً يعرف كيف تؤكل الكتف .أما بالنسبة لانتمائنا المشترك لأمريكا اللاتينية،فهو لا يعدو أن يكون توليفة جغرافية لا غير.
■ العبقري إنسانٌ قويّ .أما عصرهُ فضعيف .وقوته على حد تعبير _هارولد بلوم_ لا تستنزف صاحبها ،بل أولئك الذين يأتون من بعده.أين يضع خورخي نفسهُ من هذه الفكرة؟
ـــ هارولد بلوم كاتب مثالي وعظيم الأثر في الثقافات المعاصرة.أما أنا فخالٍ من تلك العبقرية إلا بدرجات ضئيلة أو ضيقة.فالبصري ،ربما يكون هو والي العبقرية الأصح.فيما الأعمى الذي هو في مثل وضعي،فيكون قد غادر تلك العبقرية جالساً في العتمة،مهما كان العقل ثاقباً وبليغاً ،فإن الأفكار التي تخرج من رأسي، لابد وأن تكون مصحوبة بالعكاكيز .وما من حكمة لمن هو في مثل وضعي على من هو في مثل وضعك أو أوضاع الآخرين .خورخي الذي تراه أمامك الآن،لم يشتغل على عتبة الحكمة يوماً.لأنني أعتبر النصائح مثل دبابات تقتحمُ صفحات القارئ وتربة الناقد،وربما تدفنُ الاثنين في بئر سحيق كثيف الظلام.
■ هل تتحكمُ بالعبقري فكرةُ القوة ،فيعتبرها مختبراً لتحسين شروط الكتابة مثلاً ؟
ـــ لا أظنُ ذلك. الكتابة على مرّ الزمان كما أعتقد،ليست إلا من مستحضرات تجميل العبقريات.أما القوة التي تتحدث عنها،فلا قيامة لها إلا عند المسوخ المتجذرين في آبار اللاهوت .
■ ما حجم الفاصل الذي بين خورخي بورخيس والدين؟
ـــ ربما كان فاصلاً شاسعاً.الرادارات التي عندي ،لم ترصد بعد، أية ديانةٍ تقوم على تحرير المخلوق من العبودية.فاللاهوت باسمه الأول وأحجامه المختلفة،ليس غير تابوت موحد لتجنيز البشرية ،ودفنها في خَزّان التّبْريد وإلى ما شاء الله.
■ الذي يقرأ أو يسمع هكذا آراء، يظنُ بأنك مَسْعُور بداءٍ إلحادي .
ـــ هكذا يقولُ عني خنازيرُ التأويل الخاطئ، ممن يأكلون فضلات أبدانهم الوسخة.فيما أتحدثُ أنا عن كلّ نفسٍ ،لا تريد أن تكون صحناً أو علفاً في زريبة الخنازير التي هم هياكلُها وحراسُها على حد سواء.
■ لماذا فعلُ الأسلافُ ذلك؟لماذا غذوا زمن الماضي بالسيف ،مثلما يغذونه الآن بالبارود وبالموت وبجميع مكملات الحروب؟!!
ـــ لأن كل هؤلاء فشلوا بالوصول إلى الله.وأنا جادٌ كُلَّ الجدّ،بأن الطريق إلى تلك السموات،هو غير ما يعتقد به هؤلاء ،ممن يٌسمون بالمؤمنين من عباد المذبحة الكونية التي يخوضها مسلحو اللاهوت على الأرض.
منقول