مرحبا
ولد كولست سركيس غولبنكيان عام 1869م في عائلة أرمنية ثرية ، وتزوج عام 1892 من نفارت إسيان التي أنجبت له صبياً وفتاة، وقد أنهى كالوست دراساته الأولى في كاديكوري (خلقيدونية) في مدرسة أرميان أنكويان، ومن ثم في مدرسة القديس يوسف الفرنسية، وتعمق بعدها في دراسة اللغة الفرنسية في مرسيليا قبل أن يتخصص كمهندس في الكينغز كولدج بلندن، حيث تخرج عام 1887 واستحق المرتبة الأولى.
الرجل المنقذ الذي لولاه لما كان هناك في العراق ملعب دولي يخوض عليه المنتخب مبارياته الدولية (كالوست سركيس كولبنكيان) واحد من أهم رجال الاعمال العراقيين في فترة الخمسينيات والستينيات وهو عراقي أرمني وهو من انقذنا ببناء ملعب الشعب الدولي في العراق هدية منه يسمى أيضاً بـ "Mr Five Percent" لأنه كان يتقاضى نسبة خمسة بالمائة من عائدات النفط العراقي الذي كان له دور كبير في إكتشافه.
لم يدير ظهره لابناء وطنه العراق فقام بانجاز صرح مازال يتحدث عنه الجميع ويتحصر لانه الوحيد من نوعه الا وهو ملعب الشعب الدولي الذي افتتحه في يوم 6 تشرين الثاني(نوفمبر) عام 1966وكان لقاء الافتتاح يجمع بين فريقي منتخب بغداد ونادي بنفيكا البرتغالي والذي كان يضم بين صفوفه آنذاك اللاعب الشهير اوزيبيو هداف كأس العالم 1966. أن (كالوست) الذي لم يشأ ان يترك العراق الا وكان اسمه منقوشاً في ذاكرة الرياضة العراقية وملاعبها (الحزينة) كان حريصاً على جماهير الكرة العراقية اكثر من غيره حيث فكر هذا الرجل بالجانب الرياضي بنظرة بعيدة الامد وكأنه يعرف ان هذا الملعب سيكون الوحيد من نوعه
أمضى كالوست حياته بين الشرق الأوسط والغرب، بدأ من لندن (1897 ـ 1914) فأنشأ مكتبة فيها، بعد حصوله على الجنسية البريطانية، ثم انتقل إلى فرنسا بين 1915 و1940، وأخيراً استقر في ليشبونة (1942 ـ 1955). وقد أنجز كالوست مهمات صعبة في ميدان السياسة، اذ خدم بصرامة مصلحة بلاده الامبراطورية العثمانية وسمي عام 1898 مستشاراً اقتصادياً للسفارتين العثمانيتين في باريس ولندن، ولأنه كان يحمل الجنسية البريطانية ايضاً فقد تمكن غولبنكيان من الجمع بين مصالح الامبراطورية العثمانية تحت سيطرة النفوذ البريطاني عقب تفكك الامبراطورية العثمانية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أوكلت إليه مهمة التمثيل التجاري والديبلوماسي معاً لإيران في باريس، لمدة 24 عاماً، كذلك فقد عمل في الوقت ذاته على حماية مصالح فرنسا النفطية في ايران، وقد لعب دوراً في مسار المفاوضات التي أدت الى توقيع معاهدة سيفر ولوزان بعد الحرب العالمية الأولى. وترأس الجمعية الخيرية الأرمنية في القاهرة بعد وفاة مؤسسها بوغوص نوبار باشا. وفي العشرين من يوليو (تموز) عام 1955، توفي كالوست غولبنكيان، بعد أن قام بأعمال جليلة يستحق ان يخلد عليها. عرفه وليم سارويان بأنه «من الرجالات العظام، متألق، حيوي، ديناميكي، متوسط القامة، يتكلم الانجليزية بطلاقة».
عندما كان كالوست في الثانية والعشرين زار منطقة ما وراء القوقاز، متفقداً حقول النفط في باكو. وأوحت له هذه الزيارة بتأليف كتاب بعنوان «ذكريات سفر» وكان قد نشر عدة مقالات استحوذت على اهتمام وزير المناجم في الحكومة العثمانية الذي طلب من كالوست وضع تحقيق حول حقول الآبار في الامبراطورية، وبالتحديد حول الآبار الواقعة في بلاد ما بين النهرين.
برهن التقرير على سعة اطلاع وذكاء الشاب كالوست ولم يغفل واضعه اظهار التغلغل الاقتصادي الألماني بموازاة تطوير مشروع سكة الحديد في الأناضول، والهدف دائماً الوصول الى بغداد والخليج العربي، وبدأت مضخات النفط عملها شيئاً فشيئاً، ومن هنا برزت جدارة غولبنكيان، ففي فترة زمنية لم يكن أحد فيها يهتم بالنفط في المنطقة، وهو الديبلوماسي المتمرس في اقناع كبار اصحاب رؤوس الأموال في العالم، بالاضافة الى السلطات العثمانية لضرورة تنظيم عملية الاستخراج. وهكذا غدا الشاب كالوست رائداً في مجال تطوير النفط في الشرق الأوسط ومفاوضاً ناجحاً وخبيراً مالياً معروفاً، ثم جازف في تأسيس مجموعة «رويال دوتش شل» بعد عقد اتصالات بين مصانع النفط الأميركية والروسية، فتمكن من تحقيق اقلاع أضخم صناعة في العالم، بخاصة بعد أن أظهر الخليج العربي قدراته الهائلة لجهة احتياطيه من النفط الموازي لنصف احتياطات العالم من هذه المادة. واثر ثورة تركيا الفتاة عام 1908، تأسس المصرف الوطني التركي عام 1910، فعين كالوست مستشاراً له، وفي عام 1912 ولدت شركة النفط التركية، وهدفها استخراج احتياطات الحقول الغنية في العراق، وكانت تضم الرويال دوتش شل 25%، والمصرف الوطني التركي 35%، كالوست غولبنكيان 15%، المصالح الألمانية 25%، بيد أن المساومات العديدة لعامي 1913، 1914 بين المصالح النفطية وتلك المالية، أعادت تنظيم شركة النفط التركية مع ضمان الحكومات الانجليزية والتركية والألمانية، مما خفض نسبة غولبنكيان الى 5% بهدف تسهيل مسار المفاوضات. وأثناء الحرب العالمية الأولى أطلق كالوست في فرنسا فكرة انشاء اللجنة العامة للنفط، بهدف الاستعاضة عن مصالح الدوتش ـ البنك الألماني، الموضوعة تحت الوصاية الانجليزية ضمن شركة النفط التركية، لإبراز دور الفرنسيين في الحرب، وهكذا ولدت الشركة الفرنسية للنفط عام 1924 وفتحت أمام الفرنسيين الأبواب للوصول الى احتياطات النفط في الشرق الأوسط. وبعد انهيار الدولة العثمانية، شارك كالوست في المفاوضات بين الانجليز والأتراك والعراقيين وحكومات اخرى لتعيين الحدود النهائية بين تركيا والعراق، كما أفضت هذه المناقشات الى اتفاق على امتيازات عام 1925، بين شركة النفط التركية، والحكومة العراقية. وفي فترة بين الحربين العالميتين ظهرت الولايات المتحدة الأميركية التي أرادت الالتحاق بالدول التي سبقتها الى سوق النفط الشرق أوسطية، فأحضر كالوست مرة أخرى الى ساحة المفاوضات التي كان نتيجتها تقسيم حصص شركة النفط التركية القديمة الى شركة نفط العراق المحدودة مع الشركة الانجليزية الفارسية للنفط (الـ BP حالياً، ومجموعة الرويال دوتش شل والشركة الفرنسية للنفط وشركة الشرق الأدنى للتطوير التي تضم شركات النفط الست الأساسية في الولايات المتحدة الأميركية)، فيما احتفظ كالوست غولبنكيان بنسبة 5% من رأس المال، فأطلق عليه لقبه الشهير «مستر فايف برسنت». وقد عرف الاتفاق باسم الخط الأحمر، لأنه حدد العمل ضمن الحدود السابقة للامبراطورية العثمانية (تركيا والجزيرة العربية) باستثناء ايران والكويت. ونسب الخط الأحمر الذي حقق الاتفاق بين الجميع الى كالوست، بعد أن عين بيده وبكل ثقة الحدود التي عرفت عام 1914.
لكن كالوست لم يعش كل حياته لاهثا وراء المال والبترول، كان شغوفا ومحبا للجمال، لا بل إنه يمتلك حساسية صوفية لأي مظهر جمالي، وكان جامع تحف من الطراز الرفيع، وبدأ حبه منذ وقت مبكر يظهر في اقتنائه للمسكوكات والقطع النقدية القديمة، ومع الزمن اصبح لديه مجموعة منتخبة وفريدة في العالم اليوم، اذ جمع 6 آلاف قطعة حقيقية، ثم تزايدت مجموعات كالوست الفنية، بعضها في باريس وبعضها في لندن، وواشنطن، وأخيرا قرر ان يجمع تحفه المشتتة في ليشبونة في متحف خصصه لذلك. ووافقت الحكومة الفرنسية على نقل الأعمال، بتدخل وزير الثقافة آنذاك أندريه مالرو، وتم الافتتاح لمتحف كالوست غولبنكيان عام 1969، بعد وفاته بأربعة عشر عاما، ويعد اليوم المتحف الأفضل في العالم، ويحتل المرتبة الاولى في أوروبا، فيه قطع مميزة تعود الى مصر القديمة، وتماثيل صغيرة وأوان من الفخار وكؤوس من المرمر ورأس صغير من السبج للفرعون أمنحامات الثالث من السلالة الثانية عشرة (مصر القديمة).
إن اختيار كالوست للقطع الفنية تدعمه مجموعة من الكتب الاساسية حول تاريخ الفنون وعلم الآثار والرسم والنحت والسيراميك والاثاث والمجوهرات والاقمشة والمنمات والمخطوطات المزينة على نحو يظهر في وضوح ثقافة الرجل وذوقه، اضف الى ذلك شغفه بالكتب القديمة، إذ ترك مجموعة نادرة منها، تتضمن مخطوطات شرقية غنية للزخرفة والتجديد من كل اطراف الدنيا، ومن أقدم العصور، وهي معروضة بتناغم مع عاجيات من العصور الوسطى ومصنفات تمثل مشاهد حياة السيد المسيح والسيدة العذراء.
ويتمثل الفن الاوروبي بمجموعات من السجاد الفلاندري والايطالي من فترة عصر النهضة اضافة الى قطع اثاث فرنسية مهمة تعود الى القرن الثامن عشر وساعات دقاقة وفضيات وآنية مائدة من الفترة ذاتها. وهناك فسحة لمصوغات فرنسية من الفترة ذاتها موقعة من قبل فنانين مشهورين. ومن مجموعات اللوحات نجد اعمالا من ايام ما قبل النهضة الى الانطباعيين، منها لوحات لأشهر الفنانين العالميين (رامبرانت، رانوار، مونيه، ودان فان ديك، روبنز) ومجموعة الفنانين الانجليز، نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وينتهي المتحف بقسم خاص فريد، لقطع رنه لاليك الفنان الفرنسي صديق لاكوست الشخصي.. ناهيك عن الحلي الثمينة والاحجار الكريمة والزجاجيات.
استفادت الجماعات الارمنية في الشرق الادنى كثيرا من كالوست، فقد بنى لها المدارس والمراكز الطبية والمكتبات في تركيا وأرمينيا ولبنان وسورية والعراق، اضافة الى اقامة الكنائس وترميمها، بخاصة كنيسة قبر السيد المسيح في القدس.
وضع غولبنكيان في آخر حياته وصية، وفيها يعد بتخصيص أفراد عائلته بحصص وانشاء بعض الهبات الخاصة، اقامة مؤسسة برتغالية ذات اهداف خيرية وفنية وتربوية وعلمية، مركزها ليشبونة، تعتبر وريثة كامل ثروته، وقعت عام 1953، وبهذا التوقيع انشأ احدى أهم المؤسسات الاوروبية، واحدى أهم ست مؤسسات في العالم تحمل اسمه الذي أورثها مجموعاته الفنية و70 مليون دولار من الاموال النقدية ودخلا سنويا من 4 ملايين جنيه استرليني، سيرتفع الى عشرة ملايين في وقت لاحق، أهداف المؤسسة: خيرية، فنية، تربوية، علمية، وهي منتشرة في كل مكان من هذا العالم.