بعد القرار الذي اتخذه سيدنا عمر بن الخطاب بعدم تَوَغُّلِ المسلمين داخل الأراضي الفارسية أصبح للمسلمين حامية في منطقة "رَامَهُرمُز" شرقي منطقة الأهواز، وحامية في مَناذر، وحامية في تِيرَى.
أما المنطقة التي تقع شرقي نهر تِيرَى والمنطقة التي تقع شرقي رامَهُرمز، فهي تحت سيطرة الفرس بقيادة الهرمزان لكنها تدفع الجزية للمسلمين على ألاّ يقاتلوا المسلمين، وعلى أن يمنعهم المسلمون إذا حدثت حرب على أهل فارس، وذكرنا أن يزدجرد كسرى فارس بعد هروبه الثالث من المدائن إلى مدينة "مرو" في أقصى شرقي المملكة الفارسية، ظل يحفز الجيوش الفارسية لقتال المسلمين الذين سيطروا على أرضهم، حتى بدأت الجيوش الفارسية تتجمع وتتجه نحو مدينة تسمى تُسْتَر، وتقع هذه المدينة على نهر كارون الموجود في منطقة الأهواز..
وكان الهرمزان قد أعطى عهدًا ثالثًا للمسلمين، وكان العهد الأول قد أعطاه النبيَّ ثم نقض العهد ودخل القادسية في حرب ضد المسلمين، ثم عاهد المسلمين ألا يقاتلهم على أن يدفع الجزية، ثم نقض العهد مرة أخرى ودخل مع المسلمين في معركة في "سوق الأهواز" وانتصر عليه سيدنا حُرْقُوص بن زهير السعدي من صحابة النبي، ثم طلب العهد الثالث فقبل منه سيدنا عمر بن الخطاب على ألا يقاتل المسلمين ويبقى في مكانه، وبعد أن استنصر يزدجرد كل الفرس نقض الهرمزان العهد للمرة الثالثة وغدر بالمسلمين، وجهَّز جيشه وبدأ بإعداد العُدَّة لقتال المسلمين مرة ثالثة، ولم يتعلم الهرمزان من الدروس السابقة؛ فكل مرة يغدر بالمسلمين ويدخل في معركة معهم ويُهْزَم، فجهز جيشه وبدأت الجيوش في شرقي المملكة تتجمع حتى تقاتل المسلمين في معركة فاصلة كبيرة، واختارت مدينة تستر أحصن المناطق الفارسية على الإطلاق؛ فهي أكثر حصانة من المدائن ومن جَلُولاء التي كانت من أشد المعارك مع المسلمين في هذه الفترة.
ولما وصلت سيدنا عمر الأنباء التي تؤكد نقض الهرمزان للعهد مع المسلمين، وأن يزدجرد يشجع الفرس لقتال المسلمين في معركة فاصلة، يصدر سيدنا عمر بن الخطاب أوامره، ويضع خطة الجيش الإسلامي في فارس من المدينة، فيأمر سيدنا عمر بخروج جيش كثيف من الكوفة عاصمة المسلمين في أرض فارس على رأسه النعمان بن مُقَرِّن أحد صحابة النبي، ويتوجه من الكوفة رأسًا إلى الأهواز ليقاتل الهرمزان وفرقته، ثم يُتْبِع جيشَ النعمان بن مُقَرِّن بجيشين: على أحدهما سويد بن مقرن، وعلى الآخر جرير بن عبد الله البجلي وهو من الصحابة أيضًا، وهو الذي جمع قبيلة "بجيلة" بعد تفرقها، وكانت أول معركة تخوضها قبيلة بجيلة هي معركة القادسية.
وما زال على جيش الأهواز سيدنا حُرْقُوص بن زهير من صحابة النبي، وتحت إمرته أربع فرق: سلمى بن القين وحرملة بن مُرَيْطة وهما من صحابة النبي، وغالب الوائلي وكليب بن وائل (وهما الداخلان في عهد المسلمين من سنة ماضية)، ومدينة البصرة القريبة من الأهواز تخرج جيشًا كثيفًا على رأسه سهل بن عدي أخو سهيل بن عدي فاتح الجزيرة كما ذكرنا في المقال السابق، ويوصي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهل بن عدي بأن يصطحب معه خمسة من فرسان المسلمين في جيشه وهم: البراء بن مالك، ومَجْزَأَة بن ثور وهما من صحابة النبي، وكعب بن ثور وهو من كبار التابعين، وسيدنا حذيفة بن محصن قائد الجيش الثامن من جيوش الردة لحرب عُمان، وسيدنا عرفجة بن هرثمة قائد الجيش التاسع من جيوش الردة لحرب مهرة، وهما في اليمن، ويوصيه ألا يولِّي البراء بن مالك إمارة الجيوش؛ فقد كان سيدنا البراء بن مالك من الشجاعة الفائقة بما يجعله يلقي نفسه في أمور قد يصعب على المسلمين أن يتحملوها، فينهى سيدنا عمر بن الخطاب عن توليه قيادة الجيش رغم كفاءته خشية هلاك المسلمين، ومن الكُمَاة المهرة سيدنا مَجْزَأَة بن ثور، وكان من أتقى الصحابة.
ومن المقربين إلى سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا كعب بن ثور هذا التابعي الجليل، ومن مواقفه مع سيدنا عمر بن الخطاب أن امرأة قالت لسيدنا عمر بن الخطاب: إن زوجي يصوم النهار ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام, فقال لها سيدنا عمر بن الخطاب: نِعْمَ الزوجُ. فاستحيت السيدة وانصرفت، فقال كعب بن ثور لسيدنا عمر بن الخطاب: لماذا لم تُجِبْ لها مسألتها؟ فقال سيدنا عمر بن الخطاب: وأي مسألة في صيام زوجها وقيامه؟! فقال سيدنا كعب: ما أرى إلا أنه يهجرها في الفراش. فقال سيدنا عمر بن الخطاب: أوَ ترى ذلك؟ فأرسل إلى السيدة مرة أخرى، فعرض عليها ما قاله سيدنا كعب بن ثور، فصدّقت المرأة ما قاله كعب، وقالت: والله إنَّ لي لرغبة كما للنساء.
فتعجب سيدنا عمر بن الخطاب من سيدنا كعب بن ثور وفَهْمه للمسألة بسهولة وببساطة، فقال له سيدنا عمر: اقضِ في الأمر. فقال: أنت أمير المؤمنين، فَلْتَقْضِ أنت. فقال: إذا كنت عرفت الأولى فلك أن تعرف الثانية. فقال سيدنا كعب بن ثور: لو كان هذا الرجل من حقه أن يتزوج بأربع نساء فلكل واحدة منهنَّ ليلة، فيكون القضاء بأن يقضي هذا الرجل ثلاث ليالٍ مع ربه يقوم ويصوم كما يريد، وليلة مع زوجته. فقال له سيدنا عمر: ما رأيك الأول بأعجب من رأيك الأخير؛ اذهب فأنت قاضي البصرة.
فكان سيدنا كعب قاضي القضاة في البصرة، ومع ذلك كان من المجاهدين المقاتلين في صفوف المسلمين. وهذا يدلِّل على أن العابد أو العالم ليس دوره أن يمكث في المسجد فقط منصرفًا عن الجهاد، بل نذكر قصة عبد الله بن المبارك لما بعث برسالة إلى عابد الحرمين الفُضَيْلِ بنِ عِيَاض يبين له فيها أن العبادة التي يقوم بها في مقابل الجهاد لعب، وكان الجهاد وقتها فرض كفاية، فكيف وهو فرض عين!!
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك في العبادة تلعب
تحركت هذه الجيوش العظيمة؛ جيش الكوفة والأهواز والبصرة في اتجاه واحد نحو مدينة تُسْتَر لحرب الفرس، على رأس كل الجيوش سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم، الذي استطاع أن ينقذ المسلمين في موقعة طاوس، فأرسل سيدنا عمر بن الخطاب بتولية أبي سَبْرَة بن أبي رُهْم الإمارة على كل الجيوش، وكل هؤلاء القادة من الصحابة: النعمان بن مُقَرِّن، وسويد بن مقرن، وسهل بن عدي، والبراء بن مالك، ومَجْزَأَة بن ثور، وحرقوص، وحرملة، وسلمى؛ وذلك لما له من مهارة في القيادة، أَدَّتْ إلى أن يتبوَّأ هذه المكانة العظيمة عند المسلمين، وبدأت الجيوش الإسلامية بالتحرك في الاتجاه الذي ذكرناه.
تحركات الجيوش الإسلامية:
من الكوفة يخرج جيش النعمان ويخترق سواد الجزيرة ويعبر نهر دجلة، ويتجه جنوبًا ويعبر نهر "كارون" ناحية الأهواز، ومن البصرة يخرج سيدنا سهل بن عدي بجيشه، وكان جيش سيدنا النعمان بن مقرن أسرع من جيش سيدنا سهل بن عدي؛ فاخترق السواد في سرعة رهيبة جدًّا حتى وَصَل إلى منطقة سوق الأهواز، فعبرها حتى وصل إلى مدينة "رَامَهُرمُز" وعليها الهرمزان، فحاصرها وخرج له الهرمزان فالتقى معه في موقعة سريعة انتصر فيها على الهرمزان. ويرجع الانتصار الذي حققه النعمان على الهرمزان لعدة أمور من أهمها: سرعة النعمان بن مقرن، ومباغتته لعدوه قبل أن يجهّز الهرمزان جيشه، وقبل أن تصل القوات الإسلامية من البصرة.
ولما انهزم الهرمزان جمع فلول جيشه وانسحب به متجهًا نحو مدينة "تُسْتَر" حيث الحصون العظيمة للفرس، وعلم سيدنا سهل بن عدي وهو في طريقه إلى رامهرمز أن سيدنا النعمان بن مقرن انتصر على الهرمزان في رامهرمز، واتجه نحو تُسْتَر فغيَّر سيدنا سهل بن عدي اتجاهه من منطقة الأهواز رأسًا إلى تُسْتَر ليحاصرها مع سيدنا النعمان بن مقرن رضي الله عنه، وتوجهت جيوش الأهواز إلى مدينة تُسْتَر وكان على رأس هذه الجيوش سيدنا حرقوص بن زهير، وسلمى، وحرملة، وغالب، وكليب تحت إمرة سيدنا حرقوص بن زهير، ولا يكتفي سيدنا عمر بن الخطاب بذلك، بل يأمر سيدنا أبا موسى الأشعري أن يخرج بنفسه على رأس جيش من البصرة مددًا للمسلمين، فيخرج سيدنا أبو موسى الأشعري على رأس جيش من البصرة، ويتوجه بهذا الجيش إلى تُسْتَر أيضًا، وبوصول سيدنا أبي موسى الأشعري إلى تُسْتَر يكون سيدنا أبو موسى على رأس الجيوش التي خرجت من البصرة، ويبقى النعمان على رأس جيوش الكوفة، ويظل أبو سبرة بن أبي رهم على كل الجيوش حتى على سيدنا أبي موسى الأشعري.
وتصل الجيوش الإسلامية إلى مدينة تُسْتَر، بينما تختبئ الجيوش الفارسية داخل الحصون، وكما ذكرنا أن مدينة تُسْتَر من أعظم الحصون الفارسية على الإطلاق، ويقال: إنها أقدم مدينة في بلاد فارس، وبها أول سور بُنِيَ على وجه الأرض، وبُنِيَتِ المدينةُ في منطقة عالية وحولها سور ضخم عالٍ، وعلى السور أبراج عالية، وهذه الأبراج لم تكن متوفرة في حصون فارس، وهذه ميزة للفرس فباستطاعتهم رمي المسلمين بالسهام من فوق الأبراج ولا تصل سهام المسلمين إلى أعلى البرج، فكانت هذه في صف الفرس؛ بالإضافة إلى خندق حول المدينة كعادة الفرس، لكن الفارق بينه وبين الخنادق الأخرى أن هذا الخندق مملوءٌ بالماء مما يُصَعِّبُ على المسلمين اجتياز المدينة، وكان سور المدينة من طبقتين وبينهما فراغ والماء حول المدينة من معظم الجهات، وهناك منطقة واحدة لم يكن بها ماء ولكن على رأسها جيش كبير من الفرس، والأسهم تُلْقَى من فوق الأبراج على من يُحَاوِل اجتيازَ هذه المنطقة، فكانت المنطقة في شدة الحصانة، ولها سور ضخم عالٍ يحيط بالمدينة كلها، وبداخل المدينة الزروع والطعام وخارجها نهر بجوارها؛ فأقاموا الشواديف والروافع لرفع الماء من النهر إلى داخل المدينة، وبذلك كانت لديهم قدرة كبيرة على الصبر على حصار المسلمين.
وبدأ المسلمون في حصار الفرس، وكان هذا الحصار من أشد أربعة حصارات حاصرها المسلمون، وكعادة الفرس الخروج من داخل الحصن لقتال المسلمين من وقت لآخر كما فعلوا في جَلُولاء وفي تكريت وفي المدائن، فتخرج فرقة لقتال المسلمين وسرعان ما تعود إلى داخل الحصن، وتكررت هذه الزحوف ثمانين مرة، ودام الحصار لمدينة تُسْتَر قرابةَ ثمانية عشر شهرًا (ما يقرب من عام ونصف)، وكانت هذه أطول مدة تُحَاصَر فيها مدينة في التاريخ، ورغم طول المدة لم يستسلم الجيش الفارسي المحاصَر ولم ييأس الجيش الإسلامي من الحصار، وكان أمرًا شاقًّا على المسلمين فَهُم مُعَرَّضون لسهام الفرس، وبداخل الحصن أعداد كبيرة من الجنود وعلى رأسهم الهرمزان، وكان من أشد قادة الفرس قوة في ذلك الوقت بعد مقتل رستم في موقعة القادسية؛ فيصبر المسلمون على الحصار الشديد، وكان النصر في كل ما قام به الفرس من مهاجمة المسلمين حليفَ المسلمين، لكن كان الفرس يلجئون إلى الحصون في كل زحف قبل تحقيق النصر الكامل، فَشَقَّ الأمر على المسلمين، وشق الأمر أيضًا على الفرس، ثم تذكر المسلمون أن معهم رجلاً قال عنه النبي: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ[1] لاَ يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ"[2].
والبراء هو الذي أوصى به سيدنا عمر بن الخطاب أن يكون في جيش المسلمين، فذهب المسلمون إلى البراء بن مالك قائلين له: يا براء، ألا ترى ما نحن فيه؟! أَقْسِمْ على ربك. فيقول: أقسمت عليك يا رب أن تمنحنا أكتافهم، وتملكنا رقابهم، وتلحقني بنبيك.
مغامرة في نفق الماء:
بعد ثمانية عشر شهرًا قطعها المسلمون في حصارهم للفرس في تُسْتَر، وبعد أن طلبوا الدعاء من رجل بشَّره النبي باستجابة الدعاء، وبعد أن فرغ رضي الله عنه من دعائه سقط سهم بجوار سيدنا أبي موسى الأشعري، وفي هذا السهم رسالة، فقرأ سيدنا أبو موسى الأشعري الرسالة فوجدها من أحد الفُرْسِ داخل الحصن، يطلب الأمان من المسلمين لنفسه ولأمواله على أن يصف للمسلمين طريقًا للدخول إلى تُسْتَر، فذهب سيدنا أبو موسى الأشعري من وقته بالرسالة إلى قائد جيش المسلمين أبي سبرة بن أبي رهم، وتناقش معه في أمر الرسالة؛ فوافق سيدنا أبو سبرة على تأمين هذا الرجل، فكتب له أمانًا في ورقة ووضعها في سهم، ورمى بالسهم في المكان نفسِه الذي جاء منه السهم الفارسي، فسقط السهم بداخل حصن تُسْتَر، ثم يَقْدُم أحد الفرس خفية في الليل يحمل معه ورقة الأمان على نفسه ودمه وأمواله، وقال للأمير: فإني أريد منك رجلاً واحدًا أدلّه على الطريق، وبعد ذلك يعود ليأخذ الجيش.
فاستدعى سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم سيدنا مَجْزَأَة بن ثور رضي الله عنه من صحابة النبي ليستشيره، وكان من الذين أوصى بهم سيدنا عمر بن الخطاب ليكونوا في جيش المسلمين، وقال له: يا مجزأة، من ترى يكون هذا الرجل الذي يتبع هذا الفارسي؟ فقال سيدنا مجزأة: اجعلني ذلك الرجل. فيقول الفارسي: إن الأمر شديد، وإني أريد رجلاً يجيد السباحة. فيقول سيدنا مجزأة: أنا ذلك الرجل. ويضحي سيدنا مجزأة بنفسه ويخوض المجهول مع هذا الفارسي، فيقول له سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم: أوصيك أن تعرف الطريق جيدًا وتعود إلينا دون أن تُحْدِث أمرًا. وهذا أمر من سيدنا أبي سبرة بن أبي رُهْم قائد المسلمين إلى سيدنا مجزأة الجندي في جيش المسلمين، وكان هذا الأمر قد وُجِّهَ من قبل إلى سيدنا حذيفة بن اليمان من قبل النبي في غزوة الخندق، فقد أوصاه النبي ألا يُحدِث أمرًا وهو يأتي بخبر القوم.
فيذهب حذيفة إلى داخل معسكر الأحزاب، ويكون أبو سفيان على مقربة منه، فهَمَّ بقتله لولا أن تذكر وصية النبي ألا يحدث أمرًا، فيُعْرِضَ عن قتل أبي سفيان مع أنه قائد جيوش الأحزاب لوصية النبي، فيحفظ سيدنا مجزأة الوصية جيدًا، ويذهب مع الفارسي في منطقة من الخندق ثم يتجه الفارسي إلى المنطقة التي بها مياه، ويسبح في الماء فيسبح وراءه سيدنا مجزأة بن ثور، ثم يغطس تحت الماء فيغطس وراءه، فيجد نفسه قد دخل في نفق داخل السور الكبير الذي يحيط بمدينة تُسْتَر فيدخل في هذا النفق، وكان نفقًا شديد الصعوبة، فتارة يضيق فيعبره سيدنا مجزأة بمنتهى الصعوبة، وتارة يتسع ويتشعب، وتارة يكون سقف النفق منخفضًا فإذا أراد العبور لا بد من الغطس تحت الماء، ويختفي تمامًا حتى يعبر المنطقة التي بعدها فيرتفع مرة أخرى فوق سطح الماء، وكان هذا النفق شديد الصعوبة شديد الظلمة، ووصل سيدنا مَجْزَأَة إلى باب النفق الذي يؤدي إلى مدينة تُسْتَر بعد مغامرة قضاها مع الفارسي وسط نفق من الماء شديد الظلام وشديد الصعوبة، فيذهب الفارسي ويحضر لباسًا فارسيًّا، ويلبسه سيدَنا مجزأة بن ثور ويدخل به إلى المدينة، وبمجرد دخول سيدنا مجزأة بن ثور المدينة بدأ يتفقدها، فتفقَّد باب الحصن الرئيسي، وتفقد الحصن الكبير أو القصر الكبير بداخل تُسْتَر الذي فيه الهرمزان، وتفقد المناطق الرئيسية المؤدية إلى مداخل المدينة، وفي أثناء هذا التفقد يرى رجلاً نازلاً من القصر ليلاً بخُيَلاء وعظمة عليه تاجه ويلبس ذهبه، وعرف سيدنا مجزأة أنه الهرمزان، فيقول سيدنا مجزأة: واللهِ إني أعلم أني لو أطلقتُ عليه سهمًا ما أخطأته، ولكني أذكر وصية أبي سبرة بن أبي رهم "لا تحدث أمرًا"؛ فأعيد سهمي في جَعبتي طاعةً لأمير الجيش.
ولقد رأينا أن معصية الأمير أو القائد لا تأتي إلا بالخسارة الفادحة على المسلمين، وكما رأينا ذلك في موقعة الجسر وقد استشهد فيها أربعة آلاف مسلم، وأيضًا في معركة طاوس التي استشهد فيها عددٌ غير قليل من المسلمين، وعلى العكس من ذلك تمامًا نجد نتيجة الطاعة، طاعة الجندي لأميره حتى وإن كان يرى في رأيه صوابًا إلا أنه بعد أن يشرح للأمير عليه أن يطيعه، فيطيع سيدنا مجزأة أميره ويعرف طريقه جيدًا، ولا يحدث أمرًا ثم يعود أدراجه مرة أخرى إلى النفق، ويترك الفارسي داخل المدينة، ويعود إلى سيدنا أبي سبرة بن أبي رهم ويخبره بإتمام أمره، قائلاً له: انتخب لي بعض المسلمين حتى أفتح لك الأبواب. ولم يرضَ سيدنا أبو سبرة أن يكلف الناس بهذا الأمر الشاقِّ؛ ففتح للناس باب التطوع لعبور النفق بشرط أن يكونوا ممن يجيدون السباحة، فتطوع المسلمون من جيش الكوفة ومن جيش البصرة ومن جيش الأهواز (كما حدث من قبل في موقعة المدائن، لما أراد سيدنا سعد بن أبي وقاص عبور نهر دجلة بالخيول، فكانت أول فرقة تعبر النهر ستكون أول فرقة في مواجهة الفرس، فجعلها سيدنا سعد تطوعًا، وكان على رأسها سيدنا عاصم بن عمرو التميمي)، وتطوع من المسلمين -لما أعلن فيهم سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم- ثلاثمائة من المسلمين ليعبروا هذا النفق الخطير، وكان هذا أكبر عائق مَرَّ بالمسلمين في حروب فارس، وكان من بين المتطوعين سيدنا عاصم بن عمرو التميمي وسيدنا أبو سبرة بن أبي رهم، وهما من قواد المسلمين في معارك فارس، لكن سيدنا أبا سبرة بن أبي رهم جعل سيدنا مجزأة بن ثور أميرًا على الثلاثمائة؛ لأنه دليل المسلمين في الطريق، وهو أول من تطوع للذهاب إلى داخل مدينة "تُسْتَر".
وتتقدم هذه الفرقة لتدخل مدينة تُسْتَر، ويوصيهم سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم: "إذا التقيتم مع عدوكم فتذكروا الله، وافتحوا لنا الأبواب، وعلامتنا التكبير". فيدخل الثلاثمائة إلى النهر بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين، وقبل الفجر بثلاث ساعات، وتقدم سيدنا مجزأة المسلمين وكان النفق شديد الصعوبة على المسلمين؛ فكان يرشد الناس إلى الطريق بصوت خافت لظلمة النفق ولئلا يسمعه الفرس، وتحرر المسلمون من كل شيء إلا جلبابًا خفيفًا والسيف مربوط على صدورهم، ويجتاز المسلمون النفق ويصل سيدنا مجزأة بن ثور إلى باب النفق وقد فقد في النفق مائتين وعشرين جنديًّا، ولم يتبقَّ معه سوى ثمانين رجلاً فقط، أي أنه في خلال ساعتين فقط ابتلع النفق الرهيب هذا العدد الضخم.
قد نمرُّ على فتوحات المسلمين في فارس وفي غيرها دون الوقوف عندها، لكن هذه الفتوحات قد دُفِعَ فيها أرواح ومجهود، فلم يكن الأمر سهلاً وميسورًا بالنسبة للمسلمين، وأقرب مثال على ذلك فتح تستر.
دخل سيدنا مجزأة بن ثور مع المسلمين خُفْيَة وتحسَّسَ الطريق حتى وصلوا إلى باب الحصن، فتقاتلوا مع قادة حرس الباب في معركة شديدة، وكان الجيش الفارسي في سُبَاتٍ عميق، ولم تبقَ إلا الحامية التي دخل معها المسلمون في قتال عنيف وسريع، وأثناء القتال تتوجه مجموعة من المسلمين ناحية الباب لتفتحه للجيوش الإسلامية، ثم بدأ المسلمون من داخل الحصن في التكبير، وكانت هذه التكبيرات إشارة للقوات الإسلامية خارج الحصن إلى السيطرة على الموقف، وأَنَّ عليهم أنْ يكونوا على أُهْبَةِ الاستعداد، فوقف المسلمون على باب الحصن قبل أن يُفتحَ الباب، وما إن فُتِحَ باب الحصن حتى انهمر المسلمون داخل حصن "تُسْتَر" كالسيل، والتقى المسلمون مع الفرس في معركة من أعنف المعارك في الفتوحات الفارسية حتى هذه اللحظة يُقَدَّر عنفها بعنف ليلة "الهرير" في القادسية، وبعنف ليلة جَلُولاء؛ وكانت الميزة بالنسبة للمسلمين عنصر المفاجأة والمباغتة التي داهموا بها القوات الفارسية، ولم يَدُرْ بخَلَدِ الفُرْسِ أبدًا أن يقتحم المسلمون الحصن في ذلك الوقت من الليل، فاستيقظ الجنود الفرس وقد باغتهم وجود المسلمين ولم يأخذوا أهبتهم بعدُ، وألقى الله الرعب في قلوبهم، وأعزَّ الله جنده، وبدأت سيوف المسلمين تُعمل في رقاب الفرس.
شجاعة نادرة:
وممن كتب الله لهم الشهادة في ذلك اليوم سيدنا البراء بن مالك، وقد لمحت عينه الهرمزان من بُعد، فأراد الوصول إليه، وكانت أمامه أمواج من البشر تتقاتل، لكنه كان يقتل رجلاً رجلاً ليصل إلى الهرمزان ليفتك به، وتجاوز عدد قتلى البراء بن مالك في معركة تُسْتَر إلى مائة قتيل من الفرس مبارزة، ويلتقي بعد ذلك بالهرمزان ويتقاتلان معًا، فيسدد البراء ضربة ويسدد الهرمزان ضربة، فيخطئ البراء ويصيب الهرمزان؛ لينال البراءُ بنُ مالكٍ الدرجات العُلا من الجنة بالشهادة في سبيل الله كما دعا اللهَ I، فاستجاب له الله دعوته بفتح تُسْتَر وهزيمة الفرس واستشهاده، وراقب سيدنا مجزأة بن ثور الموقف عن بُعْدٍ، وحتى هذه اللحظة كان قد قتل مائة من الفُرْسِ وأراد الوصول إلى الهرمزان لقتله؛ فقاتل أمواجًا من البشر حتى وصل إلى الهرمزان، وما إن وصل مجزأة إلى الهرمزان حتى تقاتلا، فضرب مجزأة ضربة أخطأها، وضرب الهرمزان ضربة فأصابت سيدنا مجزأة لينام قرير العين بعد جَهْدٍ أمضاه في خدمة الإسلام، ليلحق بركب المجاهدين ويكون ممن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
ونزل نصر الله:
ما زالت السيوف المسلمة تعمل عملها في رقاب الفرس، ولم يجد الفرس خيارًا سوى الفرار، ولم يجد الهرمزان حيلة إلا الاختفاء داخل قصره الكبير، وأغلق عليه بابه الكبير؛ فقد كان قصرًا أقرب إلى الحصن، أما القوات الفارسية فما بين قتيل أو جريح أو أسير أو هارب.
وبعد أن صعد الهرمزان إلى قصره وأغلق بابه نادى على المسلمين: إن معي في جعبتي مائة سهم، لو أطلقتُها لقتلتُ مائة منكم؛ فسهمي لا يخطئ، فأي نصر تحققونه إذا أخذتموني وقتلت منكم مائة؟! فقالوا له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أنزل على رأي عمر. وبعد أن تناقش المسلمون قَبِلَ أبو سبرة بن أبي رهم عَرْضَ الهرمزان؛ فألقى الهرمزان بالسهام وسلَّم نفسه للمسلمين وتم القبض على الهرمزان، ووفاءً للعهد مع الهرمزان قرر المسلمون إرساله إلى سيدنا عمر بن الخطاب ليرى فيه رأيه وليحكم فيه، ووصلت الأنباء إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتمام النعمة على المسلمين بفتح تستر بعد عام ونصف العام من حصارها، وأَسْرِ الهرمزان الذي طالما نقض عهده مع المسلمين، وقد ذكرنا من قبل أن مدينة السُّوس في منطقة الأهواز هي عاصمة الأهواز، وتُسْتَر تعدّ العاصمة التجارية.
أرسل سيدنا عمر بن الخطاب برسالة إلى سيدنا أبي سبرة بن أبي رهم يأمره أن يتوجه النعمان بن مقرن على رأس الجيوش الإسلامية إلى مدينة السوس، ويرجع أبو موسى الأشعري بجيشه إلى البصرة، وعلى الجيش سيدنا المقترب بن ربيعة وهو من صحابة النبي، وكان اسمه الأسود بن ربيعة، وقال للنبي لما سأله: "مَا أَقْدَمَكَ؟" فقال: جئت لأقترب إلى الله تعالى بصحبتك؛ فسماه المقترب.
فكان المقترب على قيادة الجيوش مكان سيدنا أبي موسى الأشعري على الجيش، وعلى الجيشين سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم.
وتوجه سيدنا زيد بن كليب وهو من صحابة النبي إلى "جنديسابور"، وأمر سيدنا عمر بن الخطاب أن يأتي إليه الهرمزان ومعه فرقة لحراسته، وعلى رأس هذه الفرقة سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه أخو البراء بن مالك رضي الله عنه، وسيدنا الأحنف بن قيس رضي الله عنه، وسيدنا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وعرف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الهرمزان ذو مكرٍ ودهاء وحيلة؛ فأرسل معه هذه الحامية التي على رأسها هؤلاء الثلاثة من المقاتلين المسلمين المهرة، وبدأ المسلمون بتوجيه القوات الإسلامية في الاتجاهات التي أمر سيدنا عمر بفتحها، ووجه المسلمون الهرمزان إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة ليرى رأيه في هذا الرجل الذي نقض عهده أكثر من مرة مع المسلمين.
لصلاة الصبحِ عندي خير من ألف فتح:
يذكر سيدنا أبو موسى عن جيش المسلمين أنه دخل مدينة تُسْتَر عند أذان الفجر، وبدخول المسلمين بدأت المعركة ذات البأس الشديد بين المسلمين والفرس، فلم يتمكن المسلمون من صلاة الفجر في أول الوقت، وظل القتال مستمرًّا حتى بعد أن طلعت الشمس، ومن شدة ضراوة المعركة لم يتمكن المسلمون من الصلاة إيماءً كما حدث في جَلُولاء فقد صلَّى المسلمون إيماءً برءوسهم وهم على الخيول، وبعد أن أتمَّ اللهُ نصره للمسلمين صلَّى المسلمون الصبح بعد شروق الشمس، وكلما ذُكِرَتْ صلاة الفجر أمام سيدنا أبي موسى الأشعري بعد موقعة تُسْتَر كان يقول: والله لقد ضُيِّعَتْ علينا صلاةُ الصبح، لصلاة الصبح عندي خير من ألف فتح. يتألم أبو موسى الأشعري من صلاة فجر ضيعها في وقتٍ السيوف فيه على الرقاب، ولم يتمكن من صلاتها إيماءً، فهو يحزن على ضياع هذه الصلاة وعنده ما يعتذر به، فلا بد من حمل هذا الأمر على محمل الجد، فتضييع صلاة الفجر أو تضييع فرض من الفروض أحد عوامل الهزيمة الرئيسية للمسلمين، فما نراه من ضعف قد حَلَّ بالمسلمين ليس له إلا سبب واحد، ذكره سيدنا عمر بن الخطاب للجيوش الإسلامية: "إنكم تُنصَرون عليهم بطاعتكم لله ومعصيتهم لله، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العُدَّة والعتاد".
فبمجرد تخلِّي المسلمين عن طاعة الله يتخلَّى الله عنهم، وإن نصروه نصرهم، كما قال في كتابه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]؛ فنرى أن جحافل الفرس تُدَكُّ تحت سيوف المسلمين مع قلة المسلمين وكثرة الفرس، ورغم الحصون العظيمة التي يمتلكها الفرس إلا أنها لم تغنِ عنهم شيئًا، وهذا النصر يُتمُّه اللهُ للمؤمنين في حال طاعتهم له I، أما إذا عصى المسلمون أميرهم (وكما نعلم أن معصية الأمير معصية لله)، وارتُكِبت المعاصي، وتملكت الدنيا من قلوب المسلمين فستأتي الهزيمة، فالأمر في منتهى الوضوح، والرسالة قصيرة: وهي أن النصر لا يأتي إلا بطاعة، وما عند الله لا يُنَال إلا بطاعته، فلو فرَّطت الأمة في صلاة الصبح فلن يتنزل عليها النصر، ولو ضيعها فرد واحد فهذا الإنسان لن يُنصرَ في المحيط الذي يتعامل فيه، وإذا كان هذا هو دَيْدَن الأمة في وقت ما؛ فهذا يفسر تأخرها.
وقد يتعلل البعض بوقت صلاة الفجر، ولكن لم يكن الله ليفرض على الإنسان شيئًا يعجزه، فالله أعلم بما يصلحنا وما ينفعنا وهو أعلم بأنفسنا من أنفسنا، وما كان الله ليكلف نفسًا إلا وسعها، وهذا حتى يعلم الله الصابرين والصادقين في إيمانهم مع الله، وليمحص المؤمنين ممن يسير في الركاب، فإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة؛ ففي عهد الرسول كانت صلاة الفجر هي الفارقة بين المؤمن والمنافق، فهذه الصلاة ثقيلة على المنافق، وهذه رسالة من سيدنا أبي موسى الأشعري يوضح فيها للمسلمين مدى أهمية صلاة الفجر في حياة المسلم.
[1] الطمر: الثوب البالي.
[2] رواه الترمذي (3854)، وقال الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (4573) في صحيح الجامع.
- د. راغب السرجاني .