شرح دعاء اليوم الثاني عشر من شهر رمضان المبارك



من المعلوم أن أدعية الأيام فيها ألوان مختلفة من المفاهيم الجميلة ، فالمؤمن في كل يوم يطلب من ربه تعالى طلباً جميلاً.. فتراه يطلب التوفيق للصيام والقيام في يوم ، ويطلب الاحتراز من الآثام والذنوب في يوم ، ويطلب من الله عزوجل التوكل في يوم... وفي هذا اليوم الثاني عشر للمؤمن طلب آخر من الله عزوجل أيضاً :

(اَللّـهُمَّ زَيِّنّي فيهِ بِالسِّتْرِ وَالْعَفافِ ، وَاسْتُرْني فيهِ بِلِباسِ الْقُنُوعِ وَالْكَفافِ ، وَاحْمِلْني فيهِ عَلَى الْعَدْلِ وَالإنْصافِ ، وَآمِنّي فيهِ مِنْ كُلِّ ما أخافُ ، بِعِصْمَتِكَ يا عِصْمَةَ الْخائِفينَ).

- (اَللّـهُمَّ زَيِّنّي فيهِ بِالسِّتْرِ وَالْعَفافِ...) :
الإنسان الذي لا عفة له ، هو الإنسان الذي لا يضبط شهواته ، سواءً كان هذا الانفلات في جانب النظر أو غيره.. فمن المعلوم أن لكل عضو زنا -كما في بعض النصوص- ، فزنا العين : النظر.. ثم أن القضية تتفاقم وتتفاقم ، إلى أن يصل إلى تلك الفاحشة ، التي يقول عنها القرآن أنه : {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}.. فلكل عضو خطيئته.. وفي عبارة جميلة إلى نبي الله المسيح (ع) -مضمونها- : أنه بعض صور التفكير في الحرام ، بمثابة الدخان في المنزل ، الذي لا يحرق المنزل ، ولكنه يسود الفضاء الداخلي..
قال الصادق (ع) : اجتمع الحواريون إلى عيسى (ع) فقالوا له : يا معلّم الخير !.. أرشدنا.. فقال لهم : إنّ موسى كليم الله (ع) أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالى كاذبين ، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين.. قالوا : يا روح الله !.. زدنا.. فقال : إنّ موسى نبي الله (ع) أمركم أن لاتزنوا ، وأنا آمركم أن لا تحدّثوا أنفسكم بالزنا فضلا عن أن تزنوا ، فإنّ مَن حدّث نفسه بالزنا كان كمَن أوقد في بيت مزوّق ، فأفسد التزاويق َالدخانُ وإن لم يحترق البيت..

وهناك بعض النصوص تؤكد على : أنه إذا أمكن الإنسان أن لا ينظر إلى ثوب امرأة ، أو إلى حجم بدن امرأة ، فليفعل.. فإنه الأفضل الابتعاد عن كل مثيرات الفتنة.. ولهذا نلاحظ أن بعض الناس في حياته يعيش حالة القساوة الباطنية ، والظلمة الباطنية ، وهو لا يعلم السبب.. والسبب واضح !.. وهو التشاغل ببعض الأمور ، التي ليست من مستوى الإنسان المؤمن ؛ فالمؤمن إنسان مترفع عن سفاسف الأمور..

نلاحظ التعبير بكلمة (زيني) ، وكأن الإنسان الذي لا عفة له بمثابة العاري ، إنسان قد كشفت عورته.. ولهذا فإن نبي الله آدم -جدنا الأكبر- وكذلك أمنا حواء ، ابتلاهما الله عزوجل عندما أنزلهما من الجنة ، ببدو السوأة : {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة}..
إن التقوى والعفة ستر للإنسان ، والذي يرتكب خطيئة من الخطايا ، كأنه رفع الستر عن نفسه.. ولا خلاف في أن الإنسان عندما يخرج من المنزل يحرص على أن تكون له طبقات من الثياب : فطبقة تستر عورته ، وطبقة تزينه.. ومعنى ذلك أنه الإنسان يحب أن يظهر بمظهر الستر ، وبمظهر الجمال.. ولكن المعصية ترفع الثوبين معاً !.. ترفع ثوب الستر للعورة ، وترفع ثوب الجمال أيضاً ، فيبدو وكأنه عاري ، وطبعاً الناس لا تعلم بذلك ، ولكن الملائكة يرون ، والله عزوجل يرى.. ورد في بعض النصوص -ما مضمونه- : أن لكل إنسان مثالاً في العرش يشبهه ، وكلما هم بخطيئة في الدنيا وارتكب الخطيئة ، فإن صورته العرشية أيضاً ترتكب الخطيئة.. ويا لها من فضيحة !.. ومن شفقة الله عزوجل على عبده ، فإنه يلقي على ذلك التمثال غطاء وحجاباً ، لئلا يهتك عبده في محضر الملائكة.. وكما نقرأ في دعاء كميل : بأن الله عزوجل ستر بعض المعاصي عن ملائكته ، وكان هو الشهيد من ورائهم والرقيب : (... وَكُلَّ سَيِّئَةٍ أَمَرْتَ بِإِثْباتِها الكِرامَ الكاتِبِينَ ، الَّذِينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مِنِّي ، وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيّ مَعَ جَوارِحِي ، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ ، وَالشَّاهِدَ لِما خَفِي عَنْهُمْ وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ...)..

إن العفاف هو حالة من حالات التعالي.. ففرق بين من يشتهي الحرام ، ويكف نفسه ؛ خوفاً من الفضيحة عند الله عزوجل ، أو الملائكة ، أو البشر ، أو خوفاً من نار جهنم ؛ وبين إنسان مترفع.. فإن المراد من الفرد المؤمن ، أن يكون متنزهاً مترفعاً عما يشينه.. ولهذا أحد الصحابة في زمان النبي (ص) -بقي اسمه في التأريخ- قيل له : لم لا تشرب الخمر - فمن المعلوم أن الخمر حرم في المدينة ، في سنوات متقدمة ، وإلا ففي مكة وفي أوائل البعثة ، المسلمون كانوا يشربون الخمر من دون أي مانع من الرسول - ، فقال -بما معنى كلامه- : أنه إذا شرب الخمر ، فإنه يسلبه عقله ، فيقوم بأعمال غير إرادية ، ويضحك عليه الأطفال.. هذه عفة.. هذا الإنسان لم يترك شرب الخمر لأمر الرسول (ص) ، ولا لآية تحريم الخمر في القرآن ؛ وإنما عف نفسه أن يتنزل إلى مستوى ، بحيث أن الطفل يضحك على الإنسان..
إذن، الإنسان المؤمن تركه لصور الحرام ، ليس من دواعي الزجر دائماً ، وإنما من دواعي أن يجل نفسه أن يتنزل لبعض المستويات.

- (وَاسْتُرْني فيهِ بِلِباسِ الْقُنُوعِ وَالْكَفافِ...) :
إن المؤمن في حركته الاقتصادية ، إنسان متزن : فلا هو مهمل ، ليحتاج إلى لئام الخلق ، ولا أنه حريص.. فإن السعي الحثيث وراء الدنيا زيادة عن المستوى المطلوب ، قطعاً يشغل حيزاً من القلب ، وقد قال الله عزوجل في كتابه الكريم : {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.. فالقلب المهتم بالاقتصاد ، وبالعمل ، وبتكثير وتوسعة الثروة ، وبتكديس الذهب والفضة... ، فإن هذا القلب لا يفرغ لله عزوجل..

وأقولها بإشارة سريعة -لأن هذا من أسرار الطريق إلى الله عزوجل- : المؤمن لا يلتفت إلى ما سوى الله عزوجل إلا بمقدار الضرورة ، في كل شؤون حياته ، وشعاره في الحياة : {قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}.. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}.. فالتفاته إلى كل شيء ، يكون بمقدار اللزوم والضرورة ، ولهذا فإنه يسعى في حياته سعياً معقولاً ، وعملاً لما قد ورد في الروايات من الحث على الإجمال في الطلب.. الإنسان ليطلب المال ، ولكن بهدوء مجملاً ، لا يستغرقْ في طلب المال..

- (وَآمِنّي فيهِ مِنْ كُلِّ ما أَخافُ...) :
من المعلوم أن الإنسان يخاف من أمور كثيرة في حياته : سواء في جانب نفسه ، أو في جانب بدنه ، أو من جانب أعدائه.. وهذه الأيام شركات التأمين تؤمن على المال ، والحياة ، والأسرة ، والدابة ، وغير ذلك.. إن الإنسان بإمكانه بكلمة واحدة أن يؤمن نفسه !.. فإن المؤمن بطلب واحد من الله عزوجل ، يطلب منه التأمين الشامل في كل شؤون الحياة.

- (بِعِصْمَتِكَ يا عِصْمَةَ الْخائِفينَ !) :
جعلنا الله تعالى وإياكم جميعاً في عصمته !.. إنه سميع مجيب.