- في فترة ما من التاريخ , كان الكثير من الناس مهتمين ببذل جهدهم في دراسة واكتشاف الأرض , والنظم البيئية الطبيعية والمناخ , ونمط الهجرة , والعرقيات المختلفة , وغيرها من جوانب التفاعل بين الإنسان والبيئة , نُسمي هؤلاء بالـ ( الجغرافيين ) , وكانت العصور الوسطى بمثابة العصور الذهبية بالنسبة لهم لاكتشاف واستكشاف " العالم غير المُكتشف " .
ويُعرف أحد هؤلاء الجغرافيين باسم ( أبو الجغرافيا ) بسبب مساهماته الهامة في هذا المجال .
نحن نتحث اليوم عن " محمد بن محمد الإدريسي " والمعروف ايضاً باسم " الشريف الإدريسي" وهو من أهم الجغرافيين ومن أمهر رسامي الخرائط عبر العصور .
ولد الإدريسي في مدينة ( سبته Ceuta ) - وهي مدينة أسبانية تقع مقابل مضيق جبل طارق - في العام 1100 ميلادياً , وتوفي ما بين عامي 1165/1166 في صقلية .
كان محمد الإدريسي سليل النبي ( محمد ) صلي الله عليه وسلم , منحدراً من سلسلة طويلة من الأمراء , والخلفاء ورجال الدين .
كان أقرب أسلافه من ( بنو حمود Hammudids ) - وهي أسرة من الأدارسة نازعت الأمويين على خلافة المسلمين في الأندلس في فترة الفتن التي حدثت هناك .
وقد حصل الإدريسي على لقب ( الشريف ) والذي يعني " الرجل النبيل " بسبب نسبه .
على الرغم من ذلك لا توجد معلومات كافية عن طفولته في مدينة سبتة , ولكن الشييء الوحيد الذي نعرفه أنه قد اكمل تعليمه الديني هناك .
في صباه - زار الإدريسي العديد من الأماكن في شمال إفريقيا والأندلس , وقد جمع معلومات دقيقة عن كلتا المنطقتين .
اختار الإدريسي أن يمكث في قرطبة لدراسة مختلف العلوم , وخاصةً الجغرافيا .
وبعد الإنتهاء من دراسته , قرر الإدريسي أن يغادر قرطبة , ويسافر لبقاع عديدة في غرب أوروبا , وشمال أسبانيا , والبرتغال , والساحل الأطلسي الفرنسي , وجنوب إنجلترا , وآسيا الصغر , وذلك عندما كان عمره 16 عاماً فقط .
في وقت لاحق من حياته امتدت رحلاته بشكل واسع إلى أجزاء مختلفة من العالم , وفي كل مر كان يسافر فيها , كان يأخذ معه شيئين مهمين : قلمه وأوراقه , ليكتب عن كل ما رآه وسمعه في جميع الأماكن التي زارها .
الإدريسي والملك روجر الثاني
- كانت هناك نقطة تحول في مسيرته في العام 1145 , حيث تغيرت بالكامل عندما تلقّى دعوة من الملك النورماندي في صقلية - الملك روجر الثاني - والذي عُرف بالملك المثقفنظراً لقيامه بتمويل حركة ترجمة الأعمال العربية واليونانية والفلسفية إلى اللاتينية .
وعندما سمع الملك ( روجر الثاني ) عن الإدريسي ورحلاته الرائعة وأعماله الجغرافية , أرسل إليه يدعوه إلى زيارة صقلية والبقاء فيها .
إلتقى ( الإدريسي ) بالملك ( روجر الثاني ) , ووافق على البقاء في صقلية .
شرح الإدريسي للملك روجر موقع الأرض في الفضاء باستخدام بيضة مغلقة لتمثيل الأرض , حيث شبه الإدريسي الأرض بصفار البيض المحاط ببياضها , كما الأرض في السماء محاطة بالمجرات .
في تلك اللحظة طلب الملك روجر الثاني من الإدريسي , أن يرسم له خريطة للعالم , ووعده ان يمده بكل ما يحتاجه لرسم تلك الخريطة , وقبل الإدريسي هذا التحدي بالفعل , وبدأ في تحقيق تلك المهمة الضخمة , وكان يعمل خطوة بخطوة بيقظة وبحماسة متقدة لتحقيق هدفه .
كان أول شيء فعله الإدريسي هو تشكيل فريق يتكون من 12 رجلاً ليساعده في إنجاز مهمته , وقد إختار أفضل من لديهم معرفة بتقنيات الملاحة الجديدة وعلم الرياضيات , ورسم الخرائط , وكل ذلك تحت إشرافه الدقيق .
قام الرجال الإثنا عشر بقراءة كل شيء عن أساليب الملاحة الجديدة , وقاموا بتوثيقها , وقاموا بالحسابات وجمع البيانات .
الشيء الثاني الذي فعله الإدريسي بالإضافة إلى جمع المعلومات من أسفاره , كان جمع المعلومات من المقابلات التي أجراها مع البحارة الذين زاروا المناطق التي كتب عنها , ولكن كل ذلك لم يكن كافياً للملك روجر الثاني , فقد أراد أكثر من ذلك .
قرر الملك ( روجر الثاني ) ارسال سفنه الخاصه إلى المناطق غير المستكشفة حول العالم , وجلب الادريسي أشجع وأقوى البحارة , وكذلك أمهر الرسّامين لتحقيق هذه المهمة , وبالفعل تم إرسال هؤلاء الرجال إلى مناطق مختلفة من العالم .
سافر الرجال إلى بلاد الشرق الأوسط , والشرق الأقصى , وأرواسيا وأفريقيا , وذهبوا إلى أراضٍ شتوية تغطيها الثلوج ولا تشرق الشمس عليها أبداً ( يمكن أن تكون أيسلندا وغرينلاند ) .
بعد عودتهم وصف البحارة كل ما فعلوه وشاهدوه في تلك البلاد , وأعطوا الإدريسي رسوماتهم عن تلك البلاد , وكل ما قاموا بتسجيله , ومن هنا بدأ عمل الإدريسي يتخذ شكلاً أكثر وضوحاً , فقد وضع الإدريسي خريطة العالم الأولى , وقام بتأليف كتاب جغرافي عن العالم لم يسبق له مثيل .
أسفرت خدماته في صقلية عن إنجاز 3 أعمال جغرافية أساسية خلال 15 عاماً , فقد رسم خريطة فضية كروية للعالم صورت الأقاليم السبعة , وتكونت من 70 قسماً , تم تشكيلها من خلال تقسيم الأرض إلى الشمال من خط الإستواء إلى أقاليم مناخية بخطوط عرض متساوية , وكل إقليم تم تقسيمه إلى 10 أجزاء متساوية حسب خطوط الطول , ويقال أن تلك الكرة الفضية قد تحطمت في إحدى ثورات صقلية .
كما كتب نصاً جغرافياً يُعتبر كمفتاح لقراءة تلك الخريطة الكروية للعالم .
كما ألف كتابه المشهور ( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ) والمسمى أيضًا ( كتاب روجر) , وذلك لأن الملك ( روجر الثاني ) هو من طلب منه تأليفه , ويعدّ من أعظم أعماله , وقد أصبح من أشهر الكتب الجغرافية , التي استفاد منها الجغرافيين في أوروبا وبلاد الشرق , ونقلوا خرائطه وترجموا بعضاً من نصوصه إلى مختلف اللغات .
ومن اجل ما قدمه ( الإدريسي ) في علم الجغرافيا ورسم الخرائط , أطلقت وكالة ناسا اسم (جبال الإدريسي ) على الشواطيء الجبلية المعروفة في منطقة سبوتنيك بلانوم على ( بلوتو)