الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وأترضَّى عن الصحابة والتابعين ومن والاه.

وبعد:
فإن الذِّكر عبادة فريدة، أمرنا الله بها من دون تقييد بزمان ولا مكان، ولا صفة ولا هيئة ولا عدد، قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 41].

وقال: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].

وحثَّ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حثًّا شديدًا، وأخبرنا أن هذه الحياة الدنيا اختبارٌ وامتحان، وصراعٌ بين الخير والشر، بين الإنسان والشيطان، ولا نجاة منه إلا بذكر الله؛ فعن الحارث الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وآمركم بكثرة ذكر الله، وإن مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رجل ظلمه العدو، فانطلقوا في طلبه سراعًا، وانطلق حتى أتى حصنًا حصينًا، فأحْرَز نفسه فيه، وكذلك مثل الشيطان لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله))[1].

وأفضل العبادات الصلاة إنما شُرعت له؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14].

وأمرنا بمواصلة الذكر بعد انقضائها، قال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].

من أجل هذا طلب رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - من ربه أن يعينه على الاستمرار على هذه العبادة؛ فجاءت وصية المحب لحبيبه معاذ؛ فعن معاذ بن جبل، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيدي يومًا، ثم قال: ((يا معاذ، إني لأحبك))، فقال له معاذ: بأبي وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك، فقال: ((أوصيك يا معاذ، لا تدَعنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك))[2].

وأمرنا ربنا بالسعي إليه وترك ما تميل إليه النفس من البيع في صلاة الجمعة، فقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9].

وما خلت آيات الحج عن ذكر الله فيها؛ قال - تعالى -: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198] إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203].

وهذا سيدنا موسى - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - يتوجه بأمر الله إلى أطغى طغاة الدنيا في زمانه فرعون، فيطلب من الله أن يجعل له وزيرًا يرافقه في هذه المهمة الشاقة؛ ليشترك معه، ويشاركه في عبادة الذكر، فقال: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾ [طه: 29 - 34].

وسيدنا يونس - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - ضيَّق الله عليه اليابسة، فركب البحر، فضيق عليه في القارب، فأُلقِي في قاع البحر، فضيق عليه البحر، فالتقمه الحوت، ولم يخرجه من ضيقه إلا ذكرُ الله، ولولاه للَبِث في بطنه إلى قيام الساعة، قال - تعالى -: ﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 140 - 144].

ومن المعلوم أن العشو يعني ضعف البصر ليلاً، وهو دون العمى بداهة؛ فأخبرنا ربنا أن من تغافل عن ذكره فعَشَى، قيَّض له شيطانًا فهو له قرين: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36].

وأكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان واضعٌ خَطْمَه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله - تعالى - خنس، وإن نسي الله الْتقم قلبه))[3].

وهذا ما فهمه ابن عباس - رضي الله عنه - فقال: ما من مولود إلا على قلبه الوسواس، فإن ذكر الله خنس، وإن غفل وسوس، وهو قوله - تعالى -: ﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾ [الناس: 4].

من المعلوم أن الشرع لا يحاسب على النسيان حسابه على التعمد، إلا "عند جلال الناسي أو المنسي"، وعلى هذا جاء حساب مَن نسي ذكره - سبحانه - لجلال الذكر، فقال - تعالى -: ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المجادلة: 19].

وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه: مثل الحي والميت))[4].

ومن معالم الرجولة في القرآن الإقامةُ على ذكر الله، دون الالتفات إلى غيره؛ قال - تعالى -: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].

والمتتبع للأعمال الصالحة في القرآن، يعلم أن نهايتها وغايتها ذكر الله تعالى؛ قال - عز وجل -: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].

ومن علامات النفاق البارزة ذِكرُ الله قليلاً؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].

وغاية المحب أن يذكره محبوبُه، وغاية العبد أن يذكره سيدُه، وغاية العابد أن يذكره معبوده، وسبيل ذلك كله ذكرُ الله؛ قال - تعالى -: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].

وإن الذي يرى دلائل الذكر في القرآن والسنة، يخلص إلى نتيجة، هي: التنوع في هذه العبادة، فقد جاءت بصيغة الإخبار، وبصيغة الإنشاء، قال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191].

وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 41].

وللتكليف وللتشريف، وللعاقل وغيره من جماد وحيوان ونبات، قال - تعالى -: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]، وعقب عليها رب العزة، فقال: ﴿ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ ﴾، ولم يقل: (لا تسمعون تسبيحهم)، فلو قال: (لا تسمعون) لما كان لذكر التسبيح معنى للاتعاظ به، وإنما قال: ﴿ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾؛ أي: تسمعونه ولا تفقهونه، ولعل ذلك واضح بقوله - تعالى -: ﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ﴾ [الرعد: 13].

ومما لا شك فيه أننا نسمع صوت الرعد، ولكن لا نفقه معناه، حتى قال العلماء: ليس الإعجاز في تسيبح الحصى بيده - صلى الله عليه وسلم - وإنما بسماع صوتها وهي تسبِّح، فعن أبي ذر الغفاري قال: "إني لشاهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلقة وفي يده حصى فسبَّحْنَ في يده، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحهن مَن في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فسبحن مع أبي بكر، سمع تسبيحهن مَن في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسبحن في يده، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر فسبحن في يده، وسمع تسبيحهن مَن في الحلقة، ثم دفعهن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان بن عفان فسبحن في يده، ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا"[5].

وتنوعت مع أنواع الفعل الثلاثة: الماضي، والمضارع، والأمر، قال - تعالى -: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحديد: 1].

وقال - تعالى -: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الجمعة: 1].

وقال - تعالى -: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1].

بل حتى مع غير الزمن إذا خلا الأمر منه، كما في معجزة الإسراء، فقد جاء بصيغة اسم المصدر؛ لأنه لا يعتمد على الزمان، فقال - تعالى -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].

كما جاءت متنوِّعة باللفظ من تسبيح واستغفار وغيره، وعلى درجات مختلفة في الطلب ما بين وجوب وندب، وأتت موزعة على القلب واللسان والعين، وأمها القلب، فعن الأغر المزني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة))[6].

وعن عبدالله بن بسر - رضي الله عنه - أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فمُرْني بأمر أتشبث به، فقال: ((لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله - عز وجل))[7].

ثم إنها جاءت متنوعة في باب المفاضلة، فقد ورد أنه أفضل من باب القتال وضرب الرقاب، ومن ذلك قوله: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].

وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غدًا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله - عز وجل))[8].

وإذا كان الله - عز وجل - قد أمرنا بالثبات في ساحة القتال عند التحام الصفوف، فقد ثنَّى بالإكثار من الذكر في هذه اللحظات؛ فقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45].

كما نوَّع في المُلْهِيات؛ كالشيطان، والتجارة، والأموال، والأولاد، فنبَّهنا ربنا ألاَّ ننشغل بهم عن ذكره، ومن فعل ذلك كان - في ميزانه - من الخاسرين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].

وقال - تعالى -: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].

ونوع أيضًا فيمن أعرض عن الذكر ما بين لاهٍ، ولاعب، ومعرِض، قال - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 42].

ونوَّع القلوب المتلقية له ما بين قلوب وَجِلة، وأخرى قاسية أو مشمئزَّة، قال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].

وقال - تعالى -: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22].

وقال - تعالى -: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45].

حتى نوع في ذكر المتأثرات؛ من قلبٍ، وجلد، وعين؛ قال - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 35].

وقال - تعالى -: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].

وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله ... ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))[9].

ونوَّع في المطلوب منهم ما بين فرد وجماعة، بقوله: (اذكر) بلفظ المفرد، و(اذكروا) بلفظ الجمع.

كما نوَّع في الأداء ما بين سر وإعلان، قال - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 205، 206].

وقال - تعالى -: ﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 63].

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: ((قال الله: يا بن آدم، إن ذكرتَني في نفسك، ذكرتُك في نفسي، وإن ذكرتَني في ملأ، ذكرتُك في ملأ من الملائكة، أو في ملأ خير منهم...))[10].

ومن هنا، فإن هذه القواعد الكلية، والعمومات القولية - لا تفتقر إلى مفسرات فعلية، وإنما الأفعال فيها مندرجات تحتها؛ كالفرد تحت النوع، أو كالنوع تحت الجنس، "وإفراد فرد بالذكر لا يخصصه".

وكل ما سبق ليس محل اختلاف كما هو معلوم، ويعد هذا أصلاً في جواز التنوع ومنه الجهر بالذكر، والله أعلم بالصواب.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] سنن الترمذي (5/148) (2863)، وقال الألباني: صحيح، ومسند أحمد (28/404)، (17170)، وصحيح ابن خزيمة (3/195) (1895)، والمستدرك (1/582)، (1534)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
[2] ينظر سنن أبي داود (1/ 475) (1522)، قال الألباني: صحيح، وسنن النسائي (3/ 53) (1303)، ومسند أحمد (13/360) (7982)، والمستدرك (1/ 407) (1010)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: على شرطهما.
[3] مسند أبي يعلى: (7/ 278) (4301)؛ قال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف.
[4] صحيح البخاري: (5/2353) (6044).
[5] المعجم الأوسط: (2: 59) (1244)، ومسند البزار: (9: 434)(4044)، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن أبي حميد؛ وهو ضعيف، وله طريق أحسن من هذا في علامات النبوة، وإسناده صحيح؛ ينظر: مجمع الزوائد: (5: 214) .
[6] صحيح مسلم: (4/ 2075) ( 2702 ).
[7] مسند أحمد: (4/ 190) (17734)، قال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
[8] مسند أحمد: (36/ 33) (21702)، والحاكم عن أبي الدرداء؛ ينظر المستدرك (1/673) (1825)، ثم قال بعده: وقال معاذ بن جبل: "ما عَمِل آدمي من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله - عز و جل"، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
[9] صحيح البخاري: (1/ 234) (629)، وصحيح مسلم (3/ 93) (2427).
[10] جزء من حديثٍ أخرجه أحمد في مسنده: (3/138) (12428)، وعبدالرزاق في مصنفه: (11/293) (20576)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح؛ ينظر: مجمع الزوائد: (78:10).