فِي منتصف الثلاثينات من القرن الماضي رفعّت وزاره المرحوم ياسين الهاشمي الى مجلس النواب مقترحا بقانون يتضمن تخصيص رواتب شهرية للأميرات شقيقات الملك غازي قدره (خمسة عشر دينارا) شهريا لكل واحدة منهن لغرض تلافي نفقاتهن الشخصية.
لدى مناقشة المقترح من قبل اللجان القانونية والمالية في مجلس النواب وبحضور وزير المالية المرحوم رؤوف الكبيسي، اعترضت اللجنة القانونية على ما جاء بالمقترح مبينة في اعتراضها أن مسؤولية تحّمل النفقات تقع على عاتق الملك غازي باعتباره أخوهم والمسؤول عنهم شرعا وقانونا وهذا ما تنص عليه القوانين النافذة وعليه لا يمكن لمجلس النواب ان يشرع القانون المقترح.
أحرج موقف وزير المالية ممثل الحكومة في مناقشاته مع أعضاء اللجنة في مجلس النواب ولم تعًّّد طروحاته ومبرراته مقنعّه أمامهم.. سارع الى الهاتف متصلا برئيس الوزراء عارضاً عليه المصاعب التي يواجهها في إقناع اللجنة للموافقة على المقترح، بعد ان استمع عبّر الهاتف على التفاصيل، طلب من الوزير ان ينتظر حضوره الى المجلس لتدارك الموقف.
كان دار رئيس الوزراء قريبا الى بناية المجلس وخلال وقت قصير حضر الى المجلس وانضم الى الوزير في مناقشة لجان المجلس حول الموضوع..أعاد أعضاء اللجنة عرض رأيهم المتمثل بأن المسؤولية في تحمل نفقات الأميرات يقع على عاتق شقيقهم الملك غازي باعتباره مسؤولا عن ذلك شرعا وقانونا ومقترح الوزارة بهذا المجال يتقاطع ويخالف القوانين الشرعية والموضوعية بهذا الصدد، بعد ان استمع رئيس الوزراء الى رأي اللجنة عقب عليه قائلا.. انه يتفق من حيث المبدأ وما جاء برأي اللجنة المستند على النواحي الشرعية والقانونية ولكن طرح المشروع من قبل الدولة انطلق من جوانب إنسانية والمتمثل بمعاناة الأميرات من قصور في تلافي نفقاتهن الشخصية نتيجة عدم مقدرة الملك على تحّملها بحكم التزاماته المتفرعة والتي تستوجب عليه الالتزام بها مما أدى الى التقصير في الاستجابة لمتطلبات شقيقاته بهذا المجال.. وعقب رئيس الوزراء دعما للمقترح مناشدا ضمائر أعضاء اللجنة قائلا:
أذكركم ان الأميرات بنات الملك فيصل وفضله لا يجب ان ينسى في بناء هذه المملكة وما تحّمله من متاعب لوضع أسس أركانها، لهذا أرجو ان تنظروا الى الموضوع من هذه الزاوية.. بنات مؤسس الدولة العراقية يعّانين من المصاعب والواجب المفروض علينا جميعا ان نتكاتف ونقف صفا واحدا لتلافي هذه الظاهرة..
عند هذه النقطة أقتنع أعضاء اللجنة بتوضيحات رئيس الوزراء وأقرّ مشروع القانون الذي يتضمن تخصيص مبلغ (خمسة عشر دينارا) شهريا لكل من الاميرات بنات الملك فيصل الأول.
لاحظ عزيزي القارئ ان الحادثة حصلت في ظل النظام الملكي الذي كان قائما حينذاك، والموضوع الذي نحن بصدده له مسّاس مباشر بالعائلة الحاكمة آنذاك لكن ذلك لم يكّن له تأثير من قريب أو بعّيد على ما دار من مناقشة تمت حوله وكانت الموضوعية هي السائدة في تلك المناقشة بدون التأثر بالاعتبارات الخارجية والمواقف التي رافقت دراسة مشروع القانون واعتراض أعضاء اللجنة القانونية في مجلس النواب كان صائبا ويتفق مع القوانين المرعّية سواء منها الشرعية او القانونية، وموقف الحكومة كان منطقيا عند طرح الاسباب الموجّبة التي تستدعي تشريعه برغم تقاطعه مع المسببات التي استند اليها أعضاء اللجنة في البرلمان وحسم الامر اخيراً عندما برزّ دور الملك فيصل الاول في بناء الدولة اذّ وقف الجميع خشوعا امام ذلك الدور ولم يعدّ هناك من اعتراض على القانون..
وهكذا يكون الوفاء للرجال الذين يقدمون خدماتهم للوطن بدون النظر لحساب المصالح الشخصية اذّ ان التاريخ ينصفهم ويقدر ادوارهم مهما كان الإجحاف الذي قد يطول تلك الأدوار فلا يصح في النهاية الا الصحيح ويا ليتنا نتعّض من هذه العّبر ونأخذ منها دروس للتاريخ تأخذ طريقها للعلن مهما طال الزمن على اخفاء حدوثها.
المشرق/مثنى محمد سعيد الجبوري