إذا ما تحدثنا عن العلم فهو يُعتبر ظاهرة حضارية عملت على بناء الأمم على مدى عقودٍ من الزمن، وجاهد علماء كُثر في تخصصاتٍ كثيرة على إيصاله وتعميمه، حتى أصبح العلم ظاهرة مُساهمة في بناء المجتمعات من خلال البناء المعرفي للإنسان، وتكوين عقله، وتغيير واقعه.
وإذا ما تحدثنا عن الفلسفة والعلم معاً فهما يمثلان حلقة وصل ورابطة قوية، حيث يستطيع الفلاسفة التأثير بأنظمتهم الفلسفية في بناء المعرفة العلمية، والتغيير من نظامٍ علمي إلى نظام آخر.
وترتبط دائماً التغيرات الأساسية في العلم -على مدى قرون من الزمن- بالأُسس الفلسفية ومن هذا المُنْطلق أصبحت فلسفة العلم مفهوم لا ينفصل عن الأبعاد التاريخية لظاهرة العلم.
العلم في الشرق العربي
بدأت ظاهرة العلم من حكماء الشرق القديم -بشهادات مؤرخين كُثر- الذين كانوا بُناة الحضارة الإنسانية الأولى، ومؤسسي العلوم التجريبية، حيث أنشؤوا علوم الرياضيات، والفلك والكيمياء والطب.
وكانت العراق هي منبع هؤلاء الحكماء، حيث اخترع العراقيون الكتابة، وأسسوا المدارس، ودرسوا الخط، وحفظوا اللغة، وتعمقوا في العلوم كافة، وتأملوا الطبيعة وظواهرها، وناقشوا الكون من وجهات فلسفية مثل: «الخلق والموت والخلود والخير والشر»، وغيرها من تلك الموضوعات ذات الطابع الفلسفي.
الرؤية العلمية في اليونان
اشتهر الفِكْر اليوناني بالعلاقة الوثيقة بين العلم والفلسفة، حيث وجدوا أنه لا يُمكن الفصل بينهما. ونتيجة لذلك تعمّق اليونانيون في دراسات الفلك والطبيعة والحياة والطب.
أما كلمة علم نفسها فهي تعني «
المعرفة المُطْلقة» سواءً أكانت مُستمدة من الحواس، أم من العقل ومبادئه. أما الفلسفة؛ فهي تعني «
المعرفة البشرية».
ظهر في اليونان ما يُعرف بـ «المذهب الأيوني» وهو أول المذاهب الفلسفية التي بُنيت على أساس «
الاتجاه التجريبي العلمي»، وضم مجموعة من العلماء الذين بحثوا وتعمقوا في مجال الطبيعة، وبحثوا في نظام نشأة الكون وخرجوا بنتيجة واحدة وهي أن كل شيء في العالم له أصل بداية واحد، وأن لا شيء يأتي من لا شيء، وأن الموجودات حولنا لا تنعدم مهما طال زمانها.
ضم هذا المذهب عدداً من الفلاسفة العلماء البارزين وكان أولهم «طاليس 624 – 524» الذي عَرَف أن كل شيء حي يأتي من الماء، وكان على دراية بالسجلات البابلية التي توضح ظاهرة كسوف الشمس، وكان لديه أفكاره عن إمكانية تطبيق القواعد الهندسية على نطاقٍ عام.
وثاني هؤلاء الفلاسفة هو «أنكسيمندر 610 – 547» قبل الميلاد الذي توصل إلى أن أصل كل شيء عبارة عن مادة لا شكل لها ولا حد ولا نهاية، وهي مزيج من العناصر كلها التي خرجت منه كافة الكائنات الحية، وهو تجمع لا نهائي للمادة يمتد في كافة الاتجاهات.
واعتقد أيضاً أن الحياة نشأت في الماء وتطورت من شكلٍ لآخر حتى وصلت إلينا، وتصور تطور الكون والأحياء ووجود عوالم مختلفة حولنا لا نعرفها.
ثالث هؤلاء الفلاسفة هو «أنكسيمانس 588 – 524» قبل الميلاد، الذي بحث في نشأة الكون والمادة، وكان يقول بأن الهواء هو المادة الأولى التي تكونت منها الأشياء عن طريق التكاثف والتخلخل.
كانت الفلسفة اليونانية قائمة على التفكر في نشأة الكون، وتفسير ظواهره حتى بزغ ما عُرف بــ «
الاتجاه العقلي التأملي» في مُدنٍ يونانية قديمة جنوب إيطاليا، وتمثل هذا الاتجاه في مدرستي «الفيثاغورثية، والمدرسة الإيلية».
ويُعرف الفيثاغورثيون بأنهم جماعة دينية، علمية، سياسية، يعملون بنظامٍ مشترك حيث يشتغلون في الرياضيات، والفلك والموسيقى ويعتقدون أن العلم أفضل وسيلة «
لتهذيب الأخلاق».
أسس هذه الجماعة «فيثاغورس 572 – 497 » قبل الميلاد، وارتكزت المدرسة الفيثاغورثية على أنها مدرسة علمية اهتمت بشكلٍ رئيسي بالرياضيات، وجعلته علماً بذاته، حيث أهملوا أصل الوجود المادي وبحثوا عن حقيقته في النسب الرياضية، والصفات المتضادة وخرجوا بنتيجة واحدة وهي:
أن العالم عدد ونَغَم، وأن هذا العدد هو العنصر الذي تتكون منه جميع الموجودات، واستخرجوا من الأعداد جداول الحسابات والهندسة وناقشوا الظواهر الفلكية، وخرجوا بنتيجة وهي أن الأرض والكواكب «
كروية».
منطق البحث العلمي
يُسمى منطق البحث العلمي باسم المنطق العام أو المنطق المادي أو التطبيقي، والذي ينقسم بدوره إلى قسمين: منطق تصويري، ومنطق عام.
–
المنطق التصويري: -مثل منطق أرسطو– هو منطق ينظر للتصورات والقضايا، وأشكال القياس من حيث
الصورة فقط وليس مادتها.
–
المنطق العام: هو البحث عن طُرق الانتقال الفكري من أجل معرفة أيّ الطرق تُوصل للحقيقة، وأيٌّ منها يوصل إلى الخطأ. كما يدرس المادة التي تكون الأشياء –الصورة– ويقوم على أوضح الطرق وهي الملاحظة، والفرضية، والتجربة، والاستقراء.
(أي أن هذا المنطق يقوم على أساس طرق البحث العلمية البحتة).
تعريف منطق البحث العلمي
هو علم يشير إلى دراسة الطّرق التي يستخدمها البحث العلمي لبناء القوانين التجريبية بالاستقراء، وطرح الفرضيات، والمبادئ الأساسية والتي تعتبر مقدمات النظرية العلمية عن طريق الأدلة.
كما ينص تعريف منطق البحث العلمي على التأكد من النتائج المشتقة من الفرضيات بواسطة الوسائل التجريبية، واكتشاف قوانين تجريبية جديدة بواسطة الاستنتاج ومراعاة الشروط المنطقية في تجنب التناقض بين المفاهيم والمبادئ، وتحقيق مبدأ البساطة في اختيار أي عدد مهما كان ضئيلاً من المبادئ الأساسية.
مفهوم فلسفة العلم
فلسفة العلم هي تلك الطريقة التي تُحلل العلم ولا تكون جزءاً منه، والفرق بين الفلسفة والعلم أن الفلسفة
علم بحقائق الموجودات وتضم حقول فلسفية كثيرة ومنها علم المنطق، نظرية المعرفة، الميتافيزيقا، فلسفة الأخلاق، وفلسفة الجمال.
وفلسفة العلم لا تتعرض لأي موضوع أو مشكلة علمية في أي علم من العلوم الإنسانية أو الطبيعية، وهي ليست جزءاً من العلم ذاته، ولا تُوضع مع بقية الأجزاء في صعيد واحد، على سبيل المثال، لا يُقال علوم «فيزياء، كيمياء،.. وفلسفة علم» بل أن فلسفة العلم تأتي في صعيد وحدها، حيث أنها حديث عن العلم وتعليق عليه.
ويرى آخرون أن فلسفة العلم من المباحث الجديدة التي أضافها المُحّدثون من المناطقة، إلى مباحث المنطق المألوف عند العلماء وهو مناهج البحث العلمي.
فلسفة الفيزياء
لتوضيح فكرة فلسفة العلم، لنأخذ على سبيل المثال
فلسفة الفيزياء وهي عبارة عن دراسة تحليلية نقدية لمفاهيم الفيزياء وطُرقها المعرفية والمنطقية، ومنهج البحث فيها والذي يتضمن الملاحظة والتجربة والفرضيات والقوانين والنظريات التي يشتمل عليها علم الفيزياء.
فالفيزيائي يتعرض في دراسته للفيزياء لأنواع من المسائل والتفسيرات ذات البُعد الفلسفي مثل الميكانيكا الكلاسيكية والنظرية الكميّة، والنسبية العامة والخاصة، وغيرها من الفرضيات والنظريات التي تتطرق لأبعاد فلسفية. وكان لفلسفة الفيزياء الدور الأساسي في تطور العلم ذاته وتطور نظرياته.
فلسفة علوم البيولوجيا
مثال آخر على فلسفة العلم هي فلسفة علوم البيولوجيا وهي دراسة تحليلية نقدية للمفاهيم والطرق المعرفية فيها. فإذا تحدثنا عن المفاهيم في علم البيولوجيا أو علم الحياة سنجد أننا نتساءل عن ماهي الحياة؟ وما هو العقل؟ وهل يمكن تفسيرهما بمفاهيم علم الحياة الاعتيادية، أي بما يمكن أن يعتبر تفسيرا مادياً؟ أو إذا ما كان هناك عنصر آخر غير مادي؟
العلم المعاصر
أصبح القرن العشرين هو قرن الثورة العلمية التي فتحت المجال للعلم واتساع نطاقه إلى حدٍ كبير، وحظيت الإنجازات العلمية التي تحققت بأهمية كبرى، وبذلك أصبح للعلم مكانة جوهرية في حياتنا.
أدى ذلك إلى عدة تغيرات جذرية كان أولها هو زيادة المعرفة البشرية، وظهور الأبحاث العلمية المُختلفة في كافة المجالات، وتحقق أهم الإنجازات العلمية في هذا القرن بإنجاز مشروع الطاقة الذرية على يد العالم «ألبرت آينشتاين»؛ ومعاونيه وهو ما عُرف بـ «مشروع مانهاتن – «Manhattan Project الذي أنفقت عليه الولايات المتحدة أموالاً طائلة.
نتج عن هذا المشروع ظهور السلاح النووي والقنبلة الذرية التي استخدمت في الحرب العالمية الثانية، كما أحدثا تغيراً في المنظومة الدولية، فتطورت الأسلحة في الميدان العسكري من القنابل الذرية إلى القنابل الهيدروجينية، وهكذا نشأ ميزان الرعب النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي.
أما التحول الثاني للعلم خلال القرن العشرين فتمثل في ظهور علم التحكم الآلي «السبرانية«Cybernetics- على يد العالم «نوربرت فينر- Norbert Wiener» الذي كانت أبحاثه هي الأساس الأول لاختراع العقول الإلكترونية.
أما الإنجاز العلمي الثالث الذي تحقق فتمثل في «غزو الفضاء»، وهو إنجاز ارتبط بالإنجازين السابقين – إنجاز الطاقة الذرية والعقول الإلكترونية – وبدأت الحضارة البشرية بعدة محاولات في غزو الفضاء، كان أولها من الاتحاد السوفيتي الذي افتتح عصر السفن الفضائية؛ والتي يتم إطلاقها بصواريخ قوية من قواعد أرضية.
كما كان التحوّل الهام؛ هو إطلاق القمر الصناعي «سبنوتنيك 1» عام 1957، وبرنامج إنزال أول إنسان على القمر عام 1969.
لكن برغم هذه الإنجازات العظيمة للعلم وأن هدفه الأساسي هو خدمة الإنسانية وتسخير الإنسان لعقله من أجل خدمة الإنسانية إلا أنه وبصورةٍ ما أحدث تحولاً في النزعة الإنسانية، وأصبح الهدف المنشود منه مُسيّساً.
فعلى سبيل المثال كان لهذه الاختراعات العلمية أهدافاً سياسية لجهاتٍ بعينها، فالقنبلة الذرية تم اختراعها وكانت سبب الحرب العالمية الثانية، كما أنّ الاختراعات العلمية في مجال غزو الفضاء واختراع السفن الفضائية تمت في إطار الصراع بين قطبي النظام الدولي خلال فترة الثنائية القطبية.
وإذا ما تحدثنا عن الأبعاد الاجتماعية للعلم المُعاصر، فإنّ العلم ليس ظاهرة مُنعزلة تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة، لكنه يتفاعل مع المحيط والمجتمع الذي يظهر فيه بصورةٍ ما.
وبعبارة أخرى فإنّ هناك بُعد اجتماعي يؤثر على العلم، وهناك تأثير مُتبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذي يظهر فيه.
وبالتالي؛ يحتاج العلم أو الاختراع العلمي إلى تضافر عاملين مهمين وهما؛ (الحاجة الاجتماعية، والعبقرية الذهنية).
وكِلا العاملان يرتبط نجاحهما ببعضهما، فالعلم حينما يظهر لابد أن يكون المجتمع مهيأ لقبوله حتى يكتب له النجاح.
حيث أنّ هناك عباقرة نبغوا في العلم، إلا أنّ المجتمعات لم تكن مهيأة لقبولهم، ونجد ذلك في حالة ابن خلدون الذي أشار في مقدمته المشهورة – مقدمة ابن خلدون – إلى المقومات الرئيسية للدراسة العلمية للمجتمع البشري والتي أسماها بــ «علم العمران» وهي عبارة عن آراء ترددت لدى علماء الاجتماع في الغرب.
لكن نبوغ ابن خلدون لم يجد مجتمعاً يستجيب له، ونتيجة لذلك لم تستمر حركة العلم الجديد الذي توصّل إليه عبر تلاميذ نقلوا منه علمه، أو عبر علماء أكملوا مسيرته. وكانت عبقريته مثل شعلة ساطعة انطفأت بسرعة، إذ أن نبوغ ابن خلدون لم يُكتشف إلا بعد مرور عدة قرون من الزمن.
ومثال ابن خلدون هذا، يجعلنا ننتقل إلى ضرورة تسليط الضوء على سمات المجتمع الذي يظهر فيه العلم، حيث أنّ العلم اكتسب أهمية كبرى في حياتنا، وأصبح عامل حاسم في تحديد مصير البشرية في القرن الـ 21، والذي لا يُعرف إلى أي مدى سينقلنا.
للامانة منقول