الموضوع فائز بمركز ثاني
الشعر الحر:
هو الشعر الذي يتكوّن من شطر واحد، دون عجز، ذو تفعيلة واحدة، سمّي بالحرّ لأنّه تحرر من وحدة القافية والشكل، وللشاعر الحرية في تنويع التفعيلات والطول لكنّه يلتزم في القواعد العروضيّة كامل الالتزام، فإذا نظمت القصيدة على بحر معيّن تكون جميع أبياته على نفس البحر.
ظهر الشعر الحر نتيجة لعدة عوامل أولها ما سببته الحرب العالمية الثانية من دمار وقتل، وبالتالي كان لا بد من ظهور شعر يتكلم عن معاناة الإنسان، ويصف الهمجية الإنسانية، والعامل الثاني انتماء الكثير من الشعراء لتيارات سياسية وفكرية خلقت في ذهنهم أفكار جديدة أما العامل الثالث هو التأثر بالشعر الغربي ومذاهبه الرومانسية والواقعية ورغبة الشعراء في التجديد والثورة على القديم.
من مُسميّات الشعر الحر:
الشعر الحر.
الشعر الجديد.
الشعر المنطق.
الشعر الحديث.
الشعر التفعيليّ.
شعر التفعيلة.
مواضيع الشعر الحر:
موضوعات الشعر الحرّ عن الحياة العامّة، مثل تصوير المشكلات التي يعاني منها الناس في مجتمعهم من حروب أومرض أوضيق الحال، وتعبير الشاعر عن الحالة التي يشعر بها، والثورة على الحاكم الظالم أو التقصير من جانبه بحق شعبه، ووصف الزيف أوالظلم السائد في مكان ما.
خصائصه:
تميزت قصيدة الشعر الحر بخصائص أسلوبية متعددة، فقد اعتمدت على الوحدة العضوية، فلم يعد البيت هو الوحدة وإنما صارت القصيدة تشكل كلاماً متماسكاً، وتزاوج الشكل والمضمون، فالبحر والقافية والتفعيلة والصياغة وضعت كلها في خدمة الموضوع وصار الشاعر يعتمد على "التفعيلة " وعلى الموسيقا الداخلية المناسبة بين الألفاظ".
ومدرسة الشعر الجديد (الواقعية) هي طريقة من التعبير عن نفسية الإنسان المعاصر، وقضاياه ونزوعاته، وطموحه، وآماله، وقد ظهرت لعوامل متعددة منها الرد على المدرسة "الابتداعية " الرومانسية" الممعنة في الهروب من الواقع إلى الطبيعة وإلى عوالم مثالية.
مميزاته:
_أنه موزون: فلو لم يكن موزونا لما جازت تسميته شعرا.
_يعتمد التفعيلة وحدة للوزن الموسيقي، ولكنه لا يتقيد بعدد ثابت من التفعيلات في أبيات القصيدة.
_أنه يقبل التدوير: بمعنى أنه قد يأتي جزء من التفعيلة في آخر البيت، ويأتي جزء منها في بداية البيت التالي.
_عدم الالتزام بالقافية: إذ تتعدد فيه حروف الروى مما يفقده الجرس الموسيقي العذب.
_استعمال الصور الشعرية : كالتي تعمق التأثير بالفكرة التي يطرحها الشاعر.
_اللجوء إلى الرمزية التي يموه بها الشاعر على مشاعره الخاصة أو ميوله السياسية. وقد يصعب على القارئ إدراك المقصود من القصيدة
مقوّمات الشعر الحر
من أهم مقوّمات الشعر الحر الآتي:
*الموضوع: يمثل الأفكار الرئيسية الخام التي يقدمها الشاعر في قصيدته، ويجب أن يكون الموضوع واضحاً ومحدداً، كما يجب أن يعالج أفكاراً هامة بحيث يعطي ذلك مبرراً لنظم القصيدة ووجودها، فالقصيدة ليست موضوعاً فقط بل موضوع مبنيّ من هيكل.
*هيكل القصيدة: نعني به الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع وتقديمه، وهو أكثر عناصر القصيدة تأثيراً وأهمية، وتكمن أهميته في توحيد القصيدة ومنعها من الانفلات بحيث يحددها ضمن حاشية مميزة، وللهيكل أربع صفات عامة وهي:
-التماسك: بأن تكون النسبة القيم والعاطفية والفكرية متناسقة، فلا يفصل في نقطة ويهمل أخرى.
-الصلابة: يقصد بها بأن يكون هناك تمايزاً بين هيكل القصيدة والتفاصيل داخلها من استعارات تشبيبه وتلوين عاطفي وتمثيل فكري، فلا يضع الكاتب في قصيدته ما يفيض عن الحاجة من التفاصيل حتّى لا تفقد القصيدة من قيمتها الجمالية.
-الكفاءة: تعني أن تضم القصيدة التفاصيل الضرورية بحيث لا يحتاج القارئ إلى مصدر خارجي للمعلومات لفهم القصيدة، ويتضمن ذلك لغة القصيدة، والتشبيهات والاستعارات.
-التعادل: يجب وجود نقطة تعادل منطقية بين مطلع القصدية وخاتمتها، والاعتماد الكبير هنا يكون على خاتمة القصيدة بشكل رئيس.
*التفاصيل: يعني بهذا العنصر ما يملأ به الشاعر هيكل القصيدة من الأساليب التعبيرية المختلفة.*الوزن: هو ما يختاره الشاعر من الشكل الموسيقي ليعرض به الهيكل.
يعد شعر التفعيلة تغييراً حاسماً في تاريخ الشعر العربي, لارتباطه بتحوّل عميق على صعيد البناء الموسيقي, وأنماط التعبير الفكرية والإبداعية, وقد كانت بداية هذا الكشف الشعري في العراق على يد نازك الملائكة في قصيدة الكوليرا, المنشورة في تشرين الأول سنة 1947م, وعلى يد بدر شاكر السياب في قصيدته (هل كان حباً) في ديوانه أزهار ذابلة, الصادر في كانون الأول سنة 1947م, وعلى الرغم مما تستغرقه كتابة ديوان شعري كامل من زمن قد يوحي بريادة السيّاب للمدرسة كما قرر بعض النقاد, إلا أن نازك الملائكة قد بيّنت ريادتها لهذا الشعر عندما قررت أنه أول من شمل هذا الكشف الشعري, بالإيمان العميق, والوعي النقدي الدقيق.
يعتقد الكثيرون أن نازك الملائكة هي أول من كتبت الشعر الحر في عام 1947 ويعتبر البعض قصيدتها المسماة الكوليرا من أوائل الشعر الحر في الأدب العربي. وقد بدات الملائكة في كتابة الشعر الحر في فترة زمنية مقاربة جدا للشاعر بدر شاكر السياب.
ذكرت نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر العربي)، في مقدمة الطبعة الخامسة، بأن الشعر الحرّ هو شعر موزون، وليس مجرد نثر كما يظن البعض. فتقول:
ما زال المتعصبون والمتزمّتون من أنصار الشطرين يدحرجون في طريق الشعر الحرّ صخورهم التي يظنونها ضخمة بحيث تقتل هذا الشعر وتزيحه من الوجود. مع أنها لا تزيد على أن تتدحرج من الجبل إلى الوادي ثم ترقد هناك دون أن تؤثر في مجرى نهر الشعر الحرّ الجارف الذي ينطلق يروي السهول الفسيحة وينتج أزهارًا وفاكهة ونخيلًا وبساتين. وهؤلاء المتعصبون ما زالوا يرددون قولًا مضمونه أن الشعر الحرّ ولد غير شرعي فلا علاقة له بالشعر العربي.
ثم تستشهد بأبيات للشاعر الفلسطيني (محمود درويش)، يقول فيها:
وفوق سطوح الزوابع كل كلام جميل
وكل لقاء وداع
وما بيننا غير هذا اللقاء
وما بيننا غير هذا الوداع
وتعقب بعد ذلك:
ومع أن هذا الشعر حرّ طبيعيّ إلا من الممكن اعتباره شعر شطرين بمجرد تغيير شكل كتابته كما يلي:
وفوق سطوح الزوابع كلُّ .. كلام جميل وكل لقاء
وما بيننا غير هذا اللقاء .. وما بيننا غير هذا الوداع
وقد أسقَطتُ كلمة واحدة هي “وداع”، وهذا ما يجب أن يقنع اعتراضات المتزمتين. فإن الشعر الحر يمكن أن يعدَّ شعر شطرين اعتياديًا ما عدا أنه أوسع من أسلوب الشطرين وأرحب أفقًا. وليس معنى كلامنا هذا أننا نتخلى عن الشطرين ونرفضهما. فإن لهما مزايا وعيوبًا كما أن للشعر الحرّ مزايا وعيوبًا. وأنا حريصة عليهما معًا، محبة لهما كليهما، وكل ما أدعو إليه أن نقيم أسلوب الشعر الحرّ توأمًا جميلًا لأسلوب الشطرين فكلاهما طفل يلثغ بالأغاني الحلوة وليس لشاعر أن يرفض أيًا منهما.
وقد يقول البعض بأن هذا النوع من الشعر دخيلٌ على الثقافة العربية، وليس أصيلٌ فيها. ويراه آخرون وكأنه تأثر بالقصيدة الأعجمية ليس إلا.
تقول نازك الملائكة حول تعريف الشعر الحر (هو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر ويكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه)
ثم تتابع نازك قائلة "فأساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة والمعنى البسيط الواضح لهذا الحكم أن الحرية في تنويع عدد التفعيلات أو أطوال الأشطر تشترط بدءا أن تكون التفعيلات في الأسطر متشابهة تمام التشابه ، فينظم الشاعر من البحر ذي التفعيلة الواحدة المكررة أشطرا تجري على هذا النسق :
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
، ويمضي على النسق حرا في اختيار عدد التفعيلات في الشطر الواحد غير خارج علي القانون العروضي لبحر الرمل جاريا علي السنن الشعرية التي أطاعها الشاعر العربي منذ الجاهلية حتى يومنا ، .
ومن خلال التعريف السابق تؤكد نازك ما توصل إليه موريه في النمط الخامس من أنماط الشعر الحر الذي أشرنا إليه سابقا والذي يعتمد على البحر الواحد في القصيدة مع اختلاف أطوال البيت وعدد التفعيلات ، مع تعديل يسير في تعريف موريه وهو أن تضع كلمة شطر بدلا من كلمة بيت ليستقيم التوافق مع مفهوم الشعر الحر بعد الأربعينيات لأن كلمة بيت تعني التزام نظام الشرطين المتساويين في عدد التفعيلات والروي الواحد ، وهو النظام المتبع في القصيدة التقليدية بشكلها الخليلي ، والشعر الحر الذي يعنيه موريه ليس كذلك.
الوحدة العضوية في الشعر الحر:
كان (السياب) و(نازك الملائكة) من دعاة الوحدة العضوية في القصيدة، ويرى (السياب) أن من أبرز خصائص القصيدة الحديثة أنها كل متكامل وليست مجرد أبيات أو مقاطع متجاورة بالصدفة وهي كالكائن الحي تحس به كيف يولد وكيف ينمو وكيف يموت, ويرى ايضاً "ان البيت ليس وحدة للقصيدة، فالمعنى يتسلسل من بيت الى آخر سالكاً عدداً من الابيات وهو ما يسمى بالتضمين عند العرب قديماً، وهو مما أجازته الحركة الرومنطقية في الغرب. وقد انتقد (السياب) قصيدة للبياتي وهي (سوق القرية) التي قال فيها:
الشمسُ ، والحمرُ الهزيلةُ، والذبابْ
وحذاءُ جنديّ قديم
يتداولُ الأيدي، وفلاحُ يحدقُ في الفراغْ:
"في مطلعِ العامِ الجديدْ
يداي تَمتلئان حتماً بالنقودْ
وسأشتري هذا الحذاءْ"
وصياحُ ديكٍ فرّ من قفص، وقديس صغيرْ:
:ما حك جلدك مثل ظفرك"
و "الطريق الى الجحيم
من جنة الفردوس "أقرب" والذبابْ
الخ
يقول (السياب) مشدداً على اهمية الوحدة العضوية "فأية وحدة في القصيدة ، وحدة نضحي من أجلها بالوزن التقليدي والقافية التقليدية وجزالة الأسلوب. لولا هذه الواوات التي لا تكاد تقوى على شد هذه الحزمة العجيبة من الصور الفوتوغرافية، لولاها لأنفرط كل بيت وتدحرج يبحث له عن مكان. انها ظاهرة نراها في شعر (البياتي) وشعر مقلديه تجعلنا نتحسر على القصيدة العربية بمفهومها التقليدي.
وترى (نازك) ان وحدة القصيدة ضرورة في القصيدة، ويجب ان يكون لوحدة القصيدة هيكل، وظيفته هي منعها من الانتشار والانفلات ولمها داخل حاشية متميزة . وانه لابد لكل هيكل من توافر اربع صفات وهي: التماسك والصلابة والكفاءة والتعادل، واللغة هي العنصر الاساس الذي يعمل على كفاءة هذا الهيكل. وترى (نازك) أهمية أن تكون وحدة القصيدة تناغماً بين المضمون والشكل، بين اللغة والموسيقى، بين الفكرة والصورة، وما يعكسه الواقع أو تعكسه القصيدة على الواقع. والوحدة في النهاية هي التناسق والتناغم بين الصور التي تتألف منها القصيدة.
إن قصيدة التفعيلة تنمو اجزاؤها نمواً عضوياً على وفق طريقة خاصة، فهي مغايرة في بنائها الفني للأمثلة الشعرية القديمة، إذ "عرف الشاعر الأفادة الجادة من معطيات فن المسرح والقصة لإغناء الشعر فاتجه الى توظيف عنصر الحوار والحوار الداخلي وتعدد الأصوات وتقديم الصورة العامة للأجواء والمشاهد التي يدور فيها الموضوع الشعري، والأهتمام بتصوير ملامح الأشخاص وتقديمهم ضمن حدث أو موقف، كما وظفوا الرمز وألتفتوا الى الأساطير وأبطال التاريخ" . إن دخول هذه الوسائل البنائية الجديدة الى قصيدة الشعر الحر جعلت للنقد الحديث مهمات جديدة في تفهم علاقات هذه العناصر الجديدة بالبناء الكلي لها. ولعل أهتمام رواد الشعر الحر بالوحدة العضوية على الصعيدين النظري والتطبيقي، دليل على ثقافتهم التي اكتسبوها من المصدر الاساس وهو النقد الغربي، وكذلك من المرجع العربي.
مستويات مفهوم حداثة الشعر عند شعراء الشعر الحر
1.مفهوم الحداثة في المستوى اللغوي
ان حركة الحداثة الشعرية التي ابتدأت مع المثلث الشعري، (السياب)، و(نازك الملائكة)، و(البياتي)، تميزت بلغتها الخاصة، التي تكشف عن أبعادها من خلال الرمز والأسطورة والحوار والموسيقى الداخلية، وإستدعاء مفردات من الواقع وإدخالها نسيج الشعر، ومحاولة إسباغ روح العصر على الرمز الذاتي أو الإنساني، من اجل كشف واقع معاناة الانسان العربي في العصر الذي ينتمي اليه، فرموزهم هي دليلهم على التفرد والخصوصية في ضمن حركة الحداثة.
وكانت مسألة اللغة الشعرية من المسائل التي شغلت رواد الشعر الحر على نحو كبير، وذلك بسبب محاولات التجديد التي دفعهم تأصيلها وتحديد سماتها الى الاهتمام بالأسس الفنية للقصيدة لأن "في كل قصيدة عربية عظيمة، قصيدة ثانية هي اللغة". وهناك من يرى أن حداثة رواد الشعر الحر متركزة في لغتهم الشعرية لأنها هي التي حققت النقلة الحداثوية في تاريخ الشعر العربي. وتمثلت حداثتهم اللغوية بتمردهم على مواضعات اللغة، من خلال تحطيم العلاقات المنطقية، وإبتداع أنساق تعبيرية ليست في طوق اللغة ذاتها، فقد امتد تمردهم الى العلاقات النحوية والبلاغية والتركيبية في الجملة الشعرية.
نلمح في الشعر الحر تيارين لفهم اللغة الشعرية، التيار الأول فهم لغة الشعر وهو مرتبط بلغة الموروث الشعري العربي، ويمثل (السياب) و(نازك) هذا الفهم. والتيار الثاني يقوم على "استخدام الشاعر الجديد لكثير من الأجواء والتعابير والمصطلحات الشعبية، والتبسيط في استخدام الأساليب اللغوية الى حد النسيج العادي البسيط ويمثل (البياتي) هذا الفهم.
لقد حافظ رواد الشعر الحر على لغة الشعر، وإن كانوا قد أستخدموا مفردات وصيغاً من اللغة المتداولة ، فإن ذلك لم يكن سلوكاً يمنح اللغة العامية إعتباراً خاصاً يتنكر للغة الفصيحة. فـ(السياب) منذ بداياته كان يكشف عن فحولة القديم في لغته بحيث لا يتطرق الشك الى النبوغ الفذ الذي كان وراء شعره. وإن تشكيله للغة الشعر جاء نتيجة وعيه الجديد للغة الشعر، فمعماره اللغوي الذي أفاد من الرمز والأسطورة، وخلق الروح لهذه الأسطورة، هو أهم أنجاز حققه (السياب) في حركة الحداثة الشعرية. ويرى (أدونيس) أن (السياب) "طليعة الجدة في شعرنا" لأنه أستطاع أن يغير في هندسة اللغة الشعرية، وتحولها الى السهولة بدلاً من الفخامة، لأن من الأسس التي أعتمدت إليها حركة الحداثة في الشعر العربي الحديث هي جعل الشعر شعبياً، وذلك برجوعه الى ذات الفرد. ف(السياب) على الرغم من إرتباطه بلغة الموروث، لايتحرج من أن يأخذ مفرداته من اللغة العامية.
من الأسس التي قامت عليها حركة الشعر الحر، إذاً ، تحقيق الأقتراب من لغة الكلام المحكي، وجعل الشعر شعبياً. ولقد جاءت هذه الدعوة بأسم الواقعية اللغوية من أجل أغناء مفردات العربية حسبما تملي ذلك نفسية العصر. و(السياب) أبرز شاعر حديث استطاع بحسه المرهف، وسمعه اللغوي الدقيق أن يمد هذه المفردات بمعان جديدة لم تكن لها. وربما تكون الألفاظ التي أستخدمها (السياب) تنحدر من أصل لغوي فصيح، ولكن تطور الحياة وتعاقب الأجيال، جعلها جزءاً من اللغة الدارجة.
إن الدعوة الى أستخدام اللغة المتداولة في مجال الشعر كانت موجودة قبل (السياب) وعند كثير من الشعراء ، لكنها لم تكن علامة دالة على حركة تحديثية كبيرة ، كالتي قام بها (السياب). وقد اشار (كمال خيربك) الى بروز هذا التيار في لغة الشعر الحر اذ قال: "إذا تركنا تيار (الفوضى التركيبية) الذي ظل يمثله حتى عام 1965، نفر معدود من الشعراء ظلوا يطرحون مشكلة تفهم القصيدة ووضوحها على مستوى العلائق النحوية والمنطقية، وعلى المستوى (العضوي للكلمات) (كما يدعوه ج.مونان)، أو (هندسة اللغة) (كما تفضل ان تدعوه خالدة سعيد)، فان جميع العلائم التي حرصنا على كشفها حتى الان تشير الى هذه النزعة العامة نحو التبسيط، بل ونحو (تعميم) الخطاب الشعري احياناً أي تقريبه من العامة، وذلك في نطاق كل من القاموس الشعري والبناء الاسلوبي لكن الا يشكل هذا الملمح الهام من ملامح التجديد اللغوي لحركة الحداثة عنصر تناقض سافر مع اثنين من اهم مميزات التعبير الشعري للطليعة نعني بهما: (التعقيد) و(الغموض)". وهذا ما لوحظ على شعر الخمسينيات الحر، اذ اقترب بلغته من حرارة اليومي وحسيته، وابتعد عن الفخامة والزخرف. وهذا الامر بالحقيقة دعوة اوروبية الأصل، دعا اليها (وردزورث) وبسببها نشأ الخلاف بينه وبين (كولردج) عندما نشر الأول منهما آراء في مقدمته الشعرية لمجموعته (الاقاصيص الشعرية الوجدانية) عام 1798، ودعا الى ان تكون اللغة المأخوذة من أفواه الناس في الحياة الحقيقية هي لغة الشعر. وقد آمن (اليوت) بهذه الدعوة، وطبقها في مقطع من قصيدته(الارض الخراب). وكان لاليوت الأثر الكبير في اشاعتها عند الشعراء العرب الذين كانوا يبحثون عن "مادة تعبيرية متصلة بالحياة والأحياء مادة أقل فخامة واكثر دنيوية"، وأثرت هذه الدعوة في شعراء الشعر الحر، وبخاصة (السياب) الذي يقر ان الشعر بلغته قائم على "المعاني وتداعيها، ومزج الوعي باللاوعي، وتلوين الامل بالذكرى. ان فهم (السياب) لحداثة اللغة الشعرية يذهب الى ما قاله (إليوت) من ان الشعر بتأثيره في عبارة الشعب وعواطفه يؤدي وظيفة اجتماعية، ومن شأنه أن يحفظ ويجدد جمال اللغة ويبرز خصائصها التي لاتقبل الترجمة وبذلك تكون حداثة لغة الشعر عند (السياب) ليس هجر للصورة القديمة، بل تصبح مصدراً للخلق الدلالي داخل النسيج الشعري، وتنبثق ظلالها وخطوطها والوانها من اعماق الانسان واعماق التاريخ، وتظهر رغبته في احداث حداثة التنويع في لغة الشعر من خلال اعتماده على اللغة الفصيحة، والمتداولة ولغة الموروث.
ومفهوم (نازك) لحداثة لغة الشعر متأت من جانب الجودة والمتانة، ولعل تربيتها اللغوية والذوقية، واحاطتها بقواعد اللغة وأصول التعبير، مكنتها من ان تصبح مالكة ناصية التعبير الاصيل، بما يشبه الفطرة. وتظهر تربيتها اللغوية الرفيعة ايضاً من خلال آرائها عن لغة الشعر الحديث، فعندما رافقت حركة الحداثة الشعرية العربية دعوات تستهين باللغة وأصولها وقواعدها، رفضت تلك الدعوات ، على الرغم من دعوتها الى التجديد اللغوي. فقالت: "إننا لا ندعو الى التمسك بقواعد اللغة لذاتها. ولسنا نحب ان ننصب مشانق أدبية لكل من يستعمل لفظة استعمالاً يهبها حياة جديدة، أو يدعو الى الاستغناء عن عن بعض شكليات النحو البالية التي لم نعد نستعملها. لا بل اننا نؤمن أعمق ايمان بالتجديد المبدع ونعتقد ان هذا التجديد لايتم الا على ايدي الشعراء والنقاد المثقفين الموهوبين. فالشاعرة ترى أن أمر التجديد في لغة الشعر منوط بالشاعر لأن "شاعراً واحداً قد يصنع للغة ما لا يصنعه ألف نحوي ولغوي مجتمعين، ذلك ان الشاعر بإحساسه المرهف وسمعه اللغوي الدقيق، يمد للألفاظ معاني جديدة لم تكن لها. وقد يخرق قاعدة مدفوعاً بحسه الفني، فلا يسيء الى اللغة، وإنما يشدها الى الامام، ورأي (نازك) هذا متأثر برأي (اليوت) الذي جعل الاحساس بالكلمات ينبع من خلال الخيال السمعي اذ قال: "فمهما يستعمل الكاتب من كلمات فإنه يفيد أكثر ما يمكنه من تاريخ الكلمات ومن الاستعمالات التي جرت فيها. فهذه المعرفة ستسهل عليه اعطاء الكلمة حياة جديدة واعطاء اللغة مصطلحاً جديداً. فالشاعر والاديب هما من يقومان بدور التطوير والإحياء، لان اللغة اذا لم تتغير مع تطور الحياة تموت. وليس للشاعر والاديب الحق ان يصوغا الكلمات على غير القياس الوارد، وان يبتدعا انماطاً من التعابير الركيكية، والتي تخدش السمع، ولكن عليه ان يستغل قوة الايحاء في اللغة والقوى الكامنة في الالفاظ. فتجديد الالفاظ عند (نازك) هو تجديد طاقاتها الايحائية، واشارت الى الطاقة الايحائية في كتابها (الصومعة والشرفة الحمراء) عندما تحدثت عن اسلوب الشاعر (علي محمود طه المهندس) ورأته كيف كان يحسن الاختيار في اللفظة المعبرة التي تنقل معنى بيت كامل من أفق الى آخر اوسع بفضل الطاقة الايحائية التي يسبغها على الالفاظ. لكنه كان يسقط احياناً في الفاظ قاموسية فيها جزالة وبعد عن روح العصر. والمحذور في استعمال الالفاظ القاموسية لايكمن في كونها لاتستعمل في عصرنا، وانما هذه الالفاظ تبقى مقصوصة الجناح بالمعنى الشعري، لانها تفقد ما يضيفه عليها الاستعمال من خلال معان جانبية وفرعيه واقتران.
إن حداثة (نازك) اللغوية تجلت في اللفظة، فنراها تدعو الشاعر الحديث الى أن يحدث "تغييراً جوهرياً على القاموس اللفظي المستعمل في أدب عصره، ويترك طائفة من الالفاظ التي كانت مستعملة في القرن المنصرم ويدخل مكانها ألفاظاً جديدة لم تكن مستعملة، وذلك لأن الألفاظ تخلق كما يخلق كل شيء يمر عليه أصبع الاستعمال في هذه الحياة المتغيرة فالشاعر اذاً في نظر (نازك الملائكة) يقوم بمنح اللغة آفاقاً اكثر حداثة عن طريق تركه لكثير من الالفاظ، ويدخل مكانها الفاظاً جديدة، وباستعماله هذا يكون الشاعر قد أحيا اللغة، لان الالفاظ بطبيعتها تصدأ وتحول، وتحتاج الى استبدال بين حين وحين. ولكي يكون الشاعر حديثاً فعليه ان "يعبر بلغة عصره وإلا ولد شعره ميتاً لكن دون ان يبيح لنفسه الحرية المطلقة في التغيير بقواعد اللغة(4)، لان هذه القواعد في معناها صديقة الشاعر وحاميته، تعطيه الأمان وتحرس معانيه من الالتباس. وهي في الأصل قواعد مأنوسة ، بدليل ان ملايين الناس قطعوها من قبل.
ومن اشكالات اللغة التي وجدتها الشاعرة انها وجدت طائفة من الشعراء يدخلون الكثير من الألفاظ العامية في شعرهم بدلاً من الألفاظ الفصيحة. واعترضت على إيراد اللفظ العامي في الشعر الفصيح لأسباب وجدتها، وهي:
1. إن العامي منفر للنفس العربية لانه ينقلها الى الحياة المتخلفة.
2. إن العامية لغة تعكس العواطف البدائية وضحالة الفكر.
3. إن العامية تسقط الترابط في اللغة العربية.
ان رفض الشاعرة لهذه الدعوة، نابع من مفهومها للغة الشعر، التي يجب ان تكون مضغوطة ومركزة تحوي معاني كثيرة بأقل ما يمكن من الألفاظ التي يستغلها الشاعر بما فيها من إيحاء وإشعاع. والاسلوب المناسب الذي يصف النفس، ويلمس حياتها لمساً دقيقاً هو الاسلوب الرمزي الذي يعتمد الغموض، لأن الإبهام جزء أساس من الحياة. وقال بهذا الرأي (ملارميه) الذي جعل القصيدة تصنع من الكلمات على ان يكون المعنى مكثفاً، حيث يغدو الجرس الموسيقي في هذه الكلمات يؤدي المعنى المقصود بالكلمة نفسها. ونتيجة هذا التأثير والاهتمام بالاسلوب الرمزي، وجدنا لغة الشاعرة انتقلت خلال سنوات من لغة رومانسية الى لغة رمزية، وانتقلت ايضاً من التعبير المباشر عن التجربة كما نلاحظه في (عاشقة الليل)، الى التعبير الرمزي الذي يوحي بالحالة النفسية ايحاءً رمزياً في (قرارة الموجة). وقد ظهرت ملامح الاسلوب الرمزي في ديوانها الثاني (شظايا ورماد) وذلك عندما كتبت مقدمة قالت فيها: "إن النفس الانسانية عموماً ليست واضحة، وانما هي مغلفة بألف ستروبهذا الرأي اكدت الشاعرة اهمية التعبير الرمزي وأصالته في النفس الإنسانية. ومن هنا وجدت (نازك) ان الشاعر لايستعمل اللغة وانما تستعمله هي، بمعنى ان اللغة هي التي تعبر عن ذاتها على لسان الشاعر. وبتحول (نازك) من لغة شاعرة رومانسية الى لغة شاعرة رمزية، وباهتمامها بقواعد اللغة الاصولية وباللغة الفصيحة وتثبيت آرائها عن لغة الشعر الحديث في مقدمة دواوينها وكتبها المستقلة، ما يدل على رغبتها في إحداث حداثة التغيير والتنويع المناسب للحياة المدنية.
واختط (البياتي) في لغته نهجاً خاصاً، اذ اعتمد في حداثته اللغوية على اللغة الواقعية التي تقوم على استخدام الشاعر الجديد لكثير من الأجواء والتعابير والمصطلحات الشعبية، والتبسيط في استخدام الاساليب اللغوية الى حد النسيج العادي البسيط. وقد حقق (البياتي) تلك الواقعية اللغوية في شعره، فلغته تبدو لنا في كثير من معطياتها، لغة ذات منحى بنائي نثري، بعيدة عن لغة القواميس الضخمة، ولكنها مشحونة بدلالات معنوية رامزة، وبالوقت نفسه بعيدة عن أي نمط معقد، وتستمد قوتها من حركتها، ومن الدلالات التي تنطوي عليها. ولعل نجاحه في اللغة الواقعية يعود الى رغبته في الاقتراب من لغة الحياة اليومية عن طريق الانهماك بهمومها، محاولاً من خلال ذلك ان يبث اتجاهاً في الشعر لنا ان ندعوه (طليعياً) لما كان سائداً في الحياة الشعرية العربية. وقد نجد تأثير (اليوت) واضحاً في لغته بدءاً من ديوانه (اباريق مهشمة) عبر واحدة من خصائصه المعروفة المتمثلة بإدخال الاحاديث والامثال المحكية في اللغة الشعرية. ومصطلح لغة الحياة الواقعية يعود الى مفهوم (إليوت) للغة الشعر. وبتأثر (البياتي) بهذا المصطلح جعله من الشعراء العرب المبكرين الذين كرسوا لغة الواقع في الحياة الادبية الشعرية الجديدة، وأصلوها في عملهم الابداعي. واصبحت بعد ذلك منهجاً لغوياً يحتذى به الشعراء.
ان لغة (البياتي) الشعرية مصفاة من الزوائد الاسلوبية التي تنتمي الى قصيدة التقليد، والتي لاتمت لقصيدة الحداثة بصلة. وان كان يعتمد على تعدد الحركات والمادة الرمزية في معظم قصائده، إلا انه يتجنب البناء المعقد، وهذا ما جعل قصيدته تقع دائماً في حدود الوعي.
جعل (البياتي) لغته الشعرية شديدة الالتصاق بمضمونه وموقفه الداخلي من قضيته، ولأجل ذلك الالتصاق اعتمدت لغته على القناع والرمز والاسطورة, وبرع في ايجاد الرموز التي تنبع من الاتجاه الباطني، وهي كثيرة في شعره، ولكن بعض هذه الرموز موضح وبعضها يلمح من خلال التصوير. وعلى وفق ذلك كانت (للبياتي) طاقة كبيرة في التصوير، وكانت لديه القدرة على شحن اللفظ بطاقات ايحائية وتعبيرية قادرة على خلق الرمز من طينة المفردة اليومية المتداولة، وايجاد الصورة الموحية باللغة اليومية. وقد نجح في استعمال لغة الحديث اليومي ووظفها في شعره، ولاشك ان هذه البساطة التعبيرية ليست على مستواها الظاهري من السهولة والبساطة، فهي ابداع وانسياب انساني في دروب الابداع الفني. ونستطيع ان نستدل على ذلك، من خلال المضامين الشعبية التي ترد في شعره ، فاننا نجده لايوردها بألفاظها وعباراتها، وانما يضعها بقالب جديد ويأخذها "بنوع من التهذيب والعمل، فيصنعها على طريقته. ويرى (البياتي) ان لهذه البساطة التعبيرية تعويضاً خيراً عن الاعماق الكبيرة، وهي سر كبير ايضاً في العمل الفني.
وكان (للبياتي) طريقته الخاصة في خلق عدد من رموزه، اذ اعتمد في خلقه هذا على الطريقة الصوفية. وقد شاع في شعره مصطلحات المتصوفة من الشعراء ومعجماتهم الشعرية. وكان يرى ان لغة المتصوفة هي التي منحت اللغة العربية طاقات جديدة لا عهد للشعر العربي بها من قبل. وان استخدامات شعراء المتصوفة للغة الموروثة تأخذ أبعاداً خطيرة وجديدة جداً، وتكتسب وجوداً حياً، وهي لغة شعرية لها قدرة خطيرة على الكشف، ولأجل ذلك استخدمها (البياتي) في كثير من قصائده لإضفاء ابعاد جديدة، وكذلك شخصيات المتصوفة، باعطائها رموزاً جديدة متجددة، ليست غاية بذاتها، أي ان استخدام شكل متصوف سواء اللغة أو الشخصيات ليست غاية. يقول (البياتي) "فهدف المتصوف هو السماء، اما انا فاستخدم لغة التصوف لقيام الثورة في الارض واقامة العدالة على هذه الارض، هذا إذا كان هناك مثل هذا المفهوم في شعري.
ودور الشاعر يكمن في إحياء اللغة، فيرى (البياتي) أن الشاعر هو اللغة، لانه يتفوق على جميع الاذكياء والموهوبين، لامتلاكه القدرة على الحلول في اللغة والتجربة والتعبير عما يحس به. ويرى ايضاً ان الشاعر هو الرؤيا، مضافاً اليها اللغة، ومن ثم فان اللغة ليست منفصلة عن تجربة الشاعر وعالمه، وانما هي جوهر تجربته. وفي ظل هذا التصور للغة الشعر يجعل (البياتي) من لغة الشعر كائناً حياً يتنفس ويولد، ويمتص طاقات الانسان وعذاباته. ويجعل كل من الحضارة والالم والجمال مفاهيم تكمن في اللغة نفسها، وبذلك أصبحت اللغة اشبه بالجسر الوحيد الذي يربط بين الوجود الفاني والوجود اللامتناهي والوجود الذي سيولد.
2. مفهوم الحداثة في المستوى الايقاعي
على وفق الأثر الاتصالي الذي يقوم به الايقاع، فهم رواد الشعر الحر الايقاع فهماً خاصاً، فمفهومهم للإيقاع ليس قائماً كلياً على البناء العروضي وايقاعاته وحدها، وانما بنية القصيدة الداخلية المستمدة من حالة شعورية معينة، يعيشها الشاعر تقتضي اطاراً لغوياً خاصاً، وصوراً تتمثل الحالة، مما يلحق بالبناء الوزني مضموناً موسيقياً جديداً. أي "ذلك الايقاع الناشئ عن تساوق الحركات والسكنات مع الحالة الشعورية لدى الشاعر. ولهذا السبب فإن موسيقى الشعر الحر موسيقى جديدة، لحياة جديدة، وعصر موسيقي جديد، استطاع ان يذهب بالاذن الموسيقية الى حدّ أبعد مما كانت تألفه الاذن العربية القديمة من إيقاع. مقتنعين بإن الايقاع القديم لم يعد قادراً وحده على أداء ذلك، وأكد احد الباحثين ذلك اذ قال: "ان الاصل في ثورة العروض التي قام بها الشعر الجديد وخرج بها عن عمود الشعر التقليدي هو أن مضمون الحياة التي عرفها الأولون يختلف عن مضمون الحياة كما نعرفها اليوم، وهو يحتم تجديد صور الأدب بما يجعلها أقدر على حمل مضمون الحياة الجديدة.ومن هنا كان الغرض من تجديدهم لموسيقى الشعر ليس تحطيم الاطار القديم او الثورة على الاوزان والقوافي ، وانما الغاية هو إحداث حداثة التعديل والتغيير للأسلوب الأدائي ولبنية القصيدة بحيث تكون ملائمة لتطور مضمون الحياة.
إن حداثة رواد الشعر الحر للبينة الايقاعية، قد أحدثت تحولاً خطيراً في الوزن والقافية، وفسحت حداثتهم المجال لاختلاف الرواد بعض الشيء حول ضرورتهما في قصائدهم. لأن ثورة الحداثة أخضعتهما لمقاييس جديدة تنسجم مع طبيعة هذه الثورة وقوانينها، ولذلك فهما لم يحتفظا بهيئتهما الموحدة التي ظلت عدة قرون مسيطرة على القصيد العربي.
ونبدأ بمفهوم رواد الشعر الحر للقافية الموحدة، وضرورة تنويعها في الشعر الحديث لأن أساس ثورتهم على الموسيقى الرتيبة وحدة القافية، ثم تعدتها الى الأوزان ولقد بين (السياب) اسباب تمرد الشاعر الحديث على القافية الموحدة فقال: "أما الثورة على القافية فلها اسباب , فبينما كان في وسع الشاعر الجاهلي أن يكتب قصيدة على قافية اللام مثلاً تتألف من ستين بيتاً نرى الشاعر الحديث لا يستطيع أن يستعمل في هذه القوافي الستين سوى عشرين أو أقل. فالسجنجل والمتعثكل والكلكل وغيرها، أصبحت كلمات أثرية منقرضة أو شبه منقرضة ولكن هذا ليس إلاّ جانباً من جوانب الموضوع. والثورة الحية على القافية تتماشى مع الثورة على نظام البيت فلقد اصبح الشاعر الحديث يطمح إلى ان يجعل القصيدة وحدة متماسكة الاجزاء بحيث لو أخرت وقدمت في ترتيب ابياتها لاختلت القصيدة كلها أو لفقدت جزءاً كبيراً من تأثيرها على الاقل. فهل يسنح الشاعر الحديث للقافية الموحدة بأن تكون حجر عثرة في سبيله هذا. كما أن الشاعر الحديث مطالب بخلق تعابير جديدة عليه أن ينحت لا أن يرصف الآجر القديم ف(السياب) عدّ سعي الشاعر الحديث للتخلص من القافية من أسباب سعيه لكتابة الشعر الحر، حيث أن معجم الشعر الحديث الذي يستطيع أن يقدم له من الكلمات التي تصلح قوافي قد انخفض بحيث لم يعد بمستوى ما كان متوافراً للشاعر القديم. وثورة الشاعر الحديث على القافية الموحدة تتماشى مع ثورتهم على نظام البيت، بمعنى انها تتماشى مع التطور والتغيير الحاصل في موسيقى الشعر.
ومن الخصائص الحداثوية التي يتصف بها رواد الشعر الحر هو رغبتهم بالتنويع في القوافي، وقد عمد (السياب) إلى تنويع قوافيه وتبديلها من وقت الى آخر حتى عرف عنه بولعه المبكر بهذا المنحى. وظل عليه حتى آخر قصيدة له. وكان يشكل للسياب احدى خصائصه التراثية وهذا ماجعل القافية لديه تتنوع بتنوع مستويات أدائها، ولذلك فهو يتبع نمطين من التقفية ، الاول: نمط القافية المتواليه، والثاني: نمط القافية المتراوحه، وهو كثير في شعره.
ان استخدام الشاعر الحديث للقوافي المتنوعة يفسر لنا عملية تعقيد العمل الفني الحديث، لأن قصيدة الحداثة لم تعد تشتمل على التقنيات البسيطة التي لا تتلاءم مع روح التجربة وتعقيدها. وان القافية المنوعة والمعقدة هي التي تخضع لأشكال متعددة من التنوع في الاستخدام التقفوي وهذا ما يسهل للشاعر الحديث مهمة اختيار قوافيه والملاءمة بينها ومن هنا ندرك بإن (السياب) من شعراء الحداثة الذين لم يهملوا القافية في القصيدة الحرة بل طوروها لتكون اكثر مواتاة للبناء في القصيدة الحديثة. وباهتمام (السياب) بالقافية كان قلما يرسل شعره خالياً من القافية لدرجة أنه حينما يرد سطر في نهاية فقرة من فقرات القصيدة دون أن يكون هذا السطر متحداً في القافية مع سطر أخر مما قبله فان الشاعر كان يلتزم بأن يورد سطراً من سطور الفقرة التالية متحداً مع هذا السطر في القافية. ومما تقدم يتبين لنا أن (السياب) اهتم بالقافية اهتماماً بالغاً، ولم يرغب في التفلت منها وحاول ان يغنيها بالوظائف الدلالية التي تجعل منها بنى رئيسية في قصائده، وذلك عن طريق تنويعها في القصيدة الواحدة.
وكانت تجربة (السياب) مع العروض الخليلي هي تجربة الشعر الجديد كله، لأنه استطاع ان يقدم للشعر الحديث نموذجاً جيداً يزخر بالنغم الخارجي والنغم الداخلي، مما زاد تجربته الشعرية غنى وحرارة. ومن محاولاته الجديدة قيامه بمزج الأبحر الشعرية في اكثر من قصيدة على النحو الذي يعطي إثارة ودهشة يقتضيهما الموقف الشعوري في الانتقال من بحر الى سواه. وعلى الرغم من ان الانتقال من وزن الى آخر يسبب (نشازاً) في الموسيقى، لا تقبله الأذن الحساسة، ولكن الانتقال المقصود هو ما يتطلبه المعنى كما يرى (السياب). ومن الإمكان المحافظة على انسجام الموسيقى في القصيدة، رغم اختلاف موسيقى الابيات، وذلك عن طريق استعمال الابحر الشعرية ذات التفاعيل الكاملة. فـ(السياب) يدعو الى السطر لا البيت، مع الاعتماد على التفاعيل الكاملة ، والمحافظة على الانسجام الموسيقي في جو القصيدة كلها. ودعوته هذه جاءت لضرورة إحداث التنويع، لان ثورة الشعر الحر جاءت لتطوير وتنويع بعض العناصر الحسنة من عناصر التراث الشعري، والابتعاد عن العناصر الفاسدة. كما نجد ان (السياب) لايهدف من وراء الاحتفاظ بالأوزان الشعرية الى التقيد بوزن واحد وقافية موحدة، فيقول: "فليكن الشعر مرسلاً، ولكن عليه ان يحتوي على ديباجة قوية وموسيقى ظاهرة واسلوب ممتاز ليمكن قراءته أولاً ولكي تستسيغه الأذن والروح ثانياً. ولهذا نجد انه كان يحرص دائماً على موسيقاه الخارجية، وحرصه هذا متأتٍ من أن للوزن اهمية خاصة لديه، لان اثر الوزن كبير لا يقل عن اثر الصورة ، ولانه يسهم إسهاماً فاعلاً في إقامة بناء القصيدة العام وتوحيده. ولأجل هذا الدور الذي يقوم به الوزن فإن (السياب) يرفض الشعر غير الموزون ، ويعدّ وجود الوزن شرطاً اساساً في الشعر وللوزن في الشعر الحديث دور مهم، اذ يستوعب التجارب الشعرية، والتجربة هي التي تختار وزنها بما يلائم خواصها وطبيعتها.
ويرى (السياب) ان ثورة كل شعراء الحداثة على الأوزان، ليست بثورة، لأن جميع الشعراء مازالوا يكتبون بإوزان الخليل، وكل ما فعلوه هو تعديل بعض منها. و(السياب) محق هنا، لان الوزن القديم بقي مسيطراً على الشعر الجديد، بما في ذلك شعره، ومن يقرأ شعره خلال مراحله الشعرية، يجد أنه استغل كل البحور الشعرية ما عدا (المجتث والمقتضب والمديد). وبذلك كان (السياب) من أكثر شعراء الحداثة تنويعاً في موسيقى قصيدته وتعدد بحورها.
ومن قصائده التي ينتقل فيها من بحر الى سواه قصيدته (في المغرب العربي) التي بناها على بحر الهزج، ودخل في ثناياها بحر الرجز. وكذلك قصيدته (فجر السلام) التي انتقل فيها من بحر البسيط الى بحر الكامل، ليكسب القصيدة تدفقية استهوته كثيراً فيما بعد. وبذلك كان (السياب) من الشعراء الذين وقفوا على ضحالة البحر الشعري، وافتقار القصيدة الحديثة الى الثراء والتنوع الموسيقي، محاولاً الخروج من زجاجة التقليد، والتخفيف من حدة موسيقية النظام القديم في سبيل التنوع الموسيقي المناسب للشعر الجديد.
ونظرة (نازك الملائكة) للقافية ، نظرة متناميه مرتبطة بمراحل إبداعها، وذلك لأنها في بداية دعوتها للشعر الحر، لايظهر تمسكها بالقافية الواحدة، وتقول عنها: "ذلك الحجر الذي تلقمه الطريقة القديمة كل بيت وليس هذا مكان الحديث عن الخسائر الفادحة التي أنزلتها القافية الموحدة بالشعر العربي طيلة العصور الماضية، المؤكد أن القافية الموحدة قد خنقت أحاسيس كثيرة، والقافية الموحدة قد كانت دائماً هي العائق، فالشاعر يضطر الى مصانعة القافية وبتمرد الشاعرة على القافية الموحدة، فهي تجد اسلوباً مغايراً، اكثر حداثة وجدة للقافيه، وهو اسلوب يعتمد على الايجاز والتركيز، ويقف عند انتهاء المعنى المقصود، دون النظر الى اكمال الوزن المعروف، وما يرادفه من التكلف والمبالغة في المعاني، واضطرار الشاعر لملء المكانات المتبقية من قصيدته لسد الفراغ. ولابد لنا من الاستدلال على دعوتها هذه، فاننا نجدها قد حررت القافية تحرراً تاماً في بعض قصائدها، من مثل قصيدتها (مر القطار) و (خرافات) و (نهاية السلم)، فالشاعرة تركت القافية تتكرر كما يشاء الوضع الطبيعي للسياق، دون التقيد بنظام معين. ولهذا كانت (نازك) تلجأ الى تعاقب القوافي وتشكيلها المتجدد، فتكون على انماط مختلفة ومتجددة.
وبعد استقرار حركة الشعر الحر، تجاوز بعض الشعراء على القافية تجاوزاً حاداً، مما حدا بالشاعره ان تعدل عن رأيها الاول، فهي تراها في كتابها النقدي ركناً مهماً في موسيقية الشعر الحر لأنها "تحدث رنيناً وتثير في النفس انغاماً واصداء، وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر، والشعر الحر احوج مايكون الى الفواصل في حين كانت تراها في بداية دعوتها قد "خنقت احاسيس كثيرة، ووأدت معاني لاحصر لها في صدور شعراء اخلصوا لها وبذلك كان هذا التعديل شاملاً اصاب القافية، وموافقاً لقانون الأذن العربية وما يمنحه الذوق.
وترى الشاعرة ان وجود القافية في الشعر الحر مهم وضروري، قد يفوق اهميتها في الشعر العمودي لان "الطول الثابت للشطر العربي الخليلي يساعد السامع على التقاط النبرة الموسيقية ويعطي القصيدة ايقاعاً شديد الوضوح. بحيث يخفف ذلك من الحاجة الى القافية الصلدة الرنانة التي تصوّت في اخر كل شطر، فلا يغفل عنها إنسان، وأما الشعر الحر فانه ليس ثابت الطول وانما تتغير أطوال اشطره تغيراً متصلاً فمن ذي تفعيلة الى ثان ذي ثلاث الى ثالث ذي اثنتين وهكذا . ومن هنا حرصت الشاعرة على القافية، فكانت تكرر كل قافية مثنى وثلاث ورباع، وتعود إلى هذه القوافي بين أبيات وأخرى، مما ارغمها على اختيار قواف احياناً. وكما استعملت التشكيلات الخماسية في كثير من قصائدها. من مثل (الافعوان) و(لنكن اصدقاء) و(في طريق العودة) و(يحكى ان حفارين) و(صلاة الاشباح) وسواها من القصائد التي تحتوي كل قصيدة على عدد كبير من الاشطر الخماسية.
وترى الشاعرة ان حركة الشعر الحر اسلمت القافية الى وضع جديد ليس له سابق شائع الا في البند الذي ظهر في العراق في القرن الحادي عشر الهجري. اصبح الشاعر ينوع القوافي على غير نظام محدد، يأخذ به نفسه، وانما يغير القافية فجأة حين يشاء من دون التزام بشكل معين، ولا بمقاطع متساوية. فالشاعره ترغب في تنويع القوافي، وهذا ما عُرف عنها بهندستها في تنويع القوافي، واعتمادها نظاماً هندسياً صارماً، متخذة من القوافي المنوعة والمتداخلة التي تتكرر على غير نسق نهجاً لها. في معظم قصائدها الحرة. واذا نظرنا الى قصيدتها (الافعوان) نجد هذا التنوع في القوافي . فتقول:
أين امشي؟ واي انحناءْ
يُغلقُ البابَ دون عدويّ المرُيبْ
إنه لا يحسّ البكاءْ
أينَ .... أينَ أغيبْ
هَربي المستمرّ الرتيبْ
لم يَعدْ يستجيبْ
لنداءِ ارتياعي وفيم صُراخُ النداءْ؟
هل هناك ملاذُ قريبْ
أو بعيدُ... سأمضي وإن كانَ خلفَ السماءْ
أو وراء حُدود الرجاء
الخ
ان تنويع القوافي بين سطر واخر، شكل احدى خصائص الايقاع في شعر (نازك)، وهذا التنويع لايدفع القارئ الى الملل، فضلاً على انه يحافظ على التلاحم الداخلي للمقاطع، وهذا حاصل عن تواصل المقاطع الشعرية في دفقة واحدة.
ان (نازك) مثل (السياب) اولعت بالقافية وترفض كل دعاوي التفلت منها، بمن فيهم نفسها يوم رأت في القافية السبب الذي انزل خسائر فادحة في الشعر العربي، فتقول عن اهمية القافية: "أما انا فلم اتخل عن القافية حتى اليوم، وانما احتضنها واشعلُ حول الثريات، والحُّ على الشعراء ألا يتخلوا عنها، ومثلي في هذا بدر شاكر السياب يرحمه الله وحتى لو سعد الشعر المعاصر بحياته حتى اليوم ما أظنهُ كان يتخلى عن القافية فانّ بينهُ وبينها صلة حب حميمة. كان يرسلُ صرخاته الشعرية الاخيرة وهو يحتضر على سرير العذاب، ومع ذلك كان يتمسك بالقافية ويرفض ان يفلتها فالقافية اذاً ضرورة ملحة عند رواد الشعر الحر، ولم يهملوها لانها قائمة في شعرهم، وان اخذت شكلاً اخر، هو في الحقيقة اصعب مراساً من القافية الموحدة، لانه قائم على التنويع بين حين واخر.
وفي وقت متأخر، أكدت الشاعرة اهمية القافية وضرورتها الفنية والسيكولوجية، وحددت اهميتها بنقاط، هي:
1. القافية تحديد لنهاية الشطر، وخاصة في الشعر الجديد، لأنه لا يلتزم طولاً ثابتاً.
2. القافية الموحدة توحيداً جزئياً او كلياً في القصيدة الحرة غير الطويلة طولاً فادحاً تصبح وسيلة لخلق وحدة في القصيدة.
3. القافية وسيلة امان واستقرار للقارئ، فهو يحس ان الطريق واضح، على عكس القصائد غير المقفاة.
4. تشعرنا القافية بوجود النظام في ذهن الشاعر، وتنسيق الفكرة لديه ووضوح الرؤية الشعرية وقوة التجربة.
5. تكشف لنا القافية عن الافكار الداخلية في اعماق اللاوعي عند الشاعر.
6. ان القافية ذات تأثير غامض وسحري وقوي في نفس القارئ، اشبه بالتيار الكهربائي يسري في جو القصيدة، ويرقرق في الفاظها قوة مغناطيسية تجتذبنا دون ان نعلم لماذا.
7. تضيف القافية نغماً وجواً الى القصيدة.
8. ان عيب القافية –القيد- له منافع عظيمة احياناً.
9. ان ترادف القوافي يعطي احساساً بأن الشاعر لديه عزيمة، وخاصة في الشعر الثوري، لان القافية هي قتال ومصاولة. وبهذه النقاط يظهر لنا ان (نازك) و(السياب) يبحثان عن قافية لا يبحث عنها في قائمة من الكلمات التي تنتهي نهاية واحدة، وإنما هي كلمة بين كل الكلمات يستدعيها السياق الموسيقي والمعنوي للشطر الشعري.
ودعت الشاعرة في بيانها الأول للشعر الحر الى التحرر من الاوزان القديمة، وذلك عن طريق التمرد على نظام البيت، والتلاعب بعدد التفاعيل ، لان الوزن قيد يحد من حرية التعبيرـ ويمنع الاضاءات الشعرية التي تميز الصورة الشعرية عن الصورة النثرية. ولكنها ترى ان التحرر من الوزن يشكل خطورة، وان حرية التغيير صعبة وخطرة، لايقوى عليها سوى كبار الشعراء. لان التلاعب بالوزن يستتبعه تنويع في لغة الشعر من حيث اللفظ والمعنى اذا حدث التغيير في لغة الشعر، فإن الاوزان والقوافي والاساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعاً، التجارب الشعرية ستتجه اتجاهاً سريعاً الى داخل النفس، بعد أن بقيت تحوم حولها من بعيد. ولكن هذا التغيير في الاسلوب "ليس خروجاً على طريقة الخليل، وإنما هو تعديل لها، وجاء هذا التغيير مسايراً للتطور الحاصل في المعاني والاساليب، وبذلك تكون الشاعرة قد افادت في تطوير الاوزان الشعرية من الشعر الانكليزي، واعترفت بأنها تأثرت بأسلوب الشاعر الامريكي (ادجار الن بو)، وقال (منيف موسى) بأن الشاعرة نقلت الى الشعر العربي الحديث بعض طرائق النظم الانجليزية.
ان موسيقى الشعر الجديد عند (نازك) لاتنشأ من الألفاظ في ذاتها، وإلا كانت الالفاظ جميعها تملك صفة الموسيقية وهي في سياقها النثري. وانما الالفاظ تكتسب موسيقاها من خلال السياق الذي ينسجه الشاعر، وعلاقتها الخفية بما حولها من الالفاظ الاخرى وما تبثه من معانٍ توحي بها الالفاظ دون ان تشخصها تماماً. وباهتمام الشاعرة بالشكل الموسيقي من حيث هو قواعد تتبع، وانظمة موسيقية لابد من دراستها وحدها وفي سياق معزول، افردت للشعر الحر عروضاً خاصاً به. ويظهر اهتمامها بالعروض الخليلي من خلال وصيتها للشاعر العربي الناشئ، واشتراطها عليه بأن يستعين بضبط العروض وصحة استخدامه في الشعر من خلال التخميس والتشطير ونظام الدوبيت والبند والاجازة وغيرها من القوالب الايقاعية التي عفى عليها الزمن. ويجب ان يتبع الشاعر استراتيجية المراحل التي تقتضي إلا ينتقل الشاعر من اطار العروض الشطري إلى اطار العروض الحر الا بعد ان يكون قد استوفى مهارات إجادة الأول حتى يتفرغ للثاني. ومن هنا شغلها العروض كجزء من تجربتها لتقنين الشعر الحر، فاستنبطت اصول هذه التجربة، واسست الاوزان على التفعيلة المتنوعة العدد، وعلى البحور الصافية والبحور الممزوجة.
ومن جملة اهتمامها بالعروض الخليلي، قيامها برصد بعض المشكلات والأخطاء العروضية التي وجدتها شائعة عند معاصريها من الشعراء، واهمها:
1. الخلط بين التشكيلات: ان الشعر الحر، يتكون من شطر واحد، وليس فيه غير الضرب، وان الشطر الاول في القصيدة الحرة يعين للشاعر خاتمة كل شطر تالٍ يرد فيها، سواء اكان البحر صافياً ام ممزوجاً. ومعنى هذا ان وحدة الضرب قانون جار في القصيدة العربية مهما كان اسلوبها. ولهذا فضلت الشاعرة ان تضع نظاماً محدداً لقصيدة التفعيلة، بعدما خرجت القصيدة الحرة على النظم النمطية للقصيدة التقليدية، واول من تجاوز هذا النظام، هي الشاعرة نفسها، وفي كثير من قصائدها من مثل (مر القطار) التي بنتها على بحر الكامل، اذ جمعت بين (متفاعلن ومتفاعلان ومتفاعلاتن) وفي قصيدة (الخيط المشدود في شجرة السرو) التي بنتها الشاعرة على الرمل، وجمعت بين (فاعلان وفاعلن وفاعلاتن وفعلن) وغيرها من القصائد التي بنتها على ذلك ، ثم عدلت عن رأيها هذا وسمحت للشاعر بجواز جمع التشكيلات لكن حددتها دون غيرها من التشكيلات، وهي:
أ. جواز اجتماع التفعيلة مع ممدودها في ضرب القصيدة في ثلاث مواضع وهي، اجتماع فعل مع فعول، وفعلن مع مفعول، ومفاعلين مع مفاعيلان.
ب. جواز اجتماع كل ما يصح وقوعه في العروض والضرب في البيت العمودي القديم، وبه يجوز ان تجتمع في اضرب القصيدة الحرة (فاعلن وفاعلاتن وفعل وفعولن ومستفعلن ومفعولن). وقد طبقت (نازك) هذه التجاوزات في شعرها، وهذا مانراه في قصيدتها (دكان القرائين الصغيرة)، اذ نجد اضرب (فاعلاتن وفاعلان) وهما يجتمعان في قصيدة واحدة، ولا تكون احداهما ضرباً والاخرى عروضاً في بيت واحد.
2. المشكلة الثانية: وجود الزحاف في تفعيلة الرجز، وترى الشاعرة ان معاصريها اكثروا من استعمال الزحاف في الرجز، حتى ان الجمهور بدأ يعزف عن قراءة الشعر الحر.
3. المشكلة الثالثة: مشكلة الوتد المجموع، وترى الشاعرة ان الوتد يتصف بالصلادة والقوة، ويتحكم في طبيعة الكلمة التي يرد فيها، فيشقها عندما يرد في اولها الى شقين فيقطع بذلك اوصالها ويضيع تماسكها. وترى الشاعرة ان الشاعر القديم تخلص من تحكم الوتد بطرائق مختلفة، فهو اما يورده في اخر الكلمة، او في النصف الاول من الكلمة على ان يكون اخره صوت علة.
4. المشكلة الرابعة: وجود (مستفعلان) في ضرب الرجز، وقد اعترضت الشاعرة على هذه الظاهرة في الشعر الحر، لأن الاذن بطبيعتها تمج التذييل في الرجز، لشناعة وقعه، ولانه لايقع في الشعر العربي. ومن هنا نفهم ان لقصيدة التفعيلة نظاماً عروضياً معيناً، فهو يتشابه في التفعيلات في الاشطر تشابهاً تاماً، وباستدعائه التفعيلة المنفردة في الشطر كشرط لا يجوز الخروج عليه، مما يعطي صفة الالتزام للشعر الحر، وليس صفة الفوضى، كما حاول دعاة القديم ان يضيفوه اليها. فهو شعر جار على قواعد العروض العربي، ويصح عليه الخطأ والصواب العروضي، كما يصح على الشعر القديم. وان أي خروج عن وحدة الضرب خروج على مبادئ الشعر الحر. ولذلك رأت (نازك) ان لهذه القيود اسباباً ذوقية وجمالية وموسيقية.
وعلى الرغم من ريادة الشاعرة للشعر الحر، لم تتخلَ في نظمها للشعر الحر عن بحر دون سواه، فقد تنوعت البحور التي استخدمتها، اذ لم يبق أي بحر من بحور الشعر العربي إلا ونظمت فيه. وباهتمامها بقضايا العروض مكنها من الريادة في النقد العروضي.
ويرى (البياتي) ان حداثة الشعر لم تكن بالثورة على العروض العربي، بل هي ثورة على طرائق التعبير، لان اساس ثورة الحداثة لم تكن قائمة في الاطار التقليدي بقدر ماهي ثورة في حضور الشاعر وغيابه. وذهب بعد ذلك يبحث عن ايقاع جديد يتلاءم وايقاع التجربة الجديدة، تجربة تقويض أبنية قديمة، واختيار اثمن مافيها لتشييد بناء جديد يعكس الواقع المعايش.
ولما كان مفهوم الايقاع عنده مرتبطاً بموقفه الداخلي ومضمونه الشعري، تمرد على الوزن والقافية فقال: "آن لنا أن نقضي عليهما قدر الامكان لأنهما لم يعودا مؤاتين لتجاربنا الجديدة ولأزمة ضميرنا وحريتنا" ولهذا رأت (نازك الملائكة) ان (البياتي) اول شاعر من شعراء الشعر الحر حاول الانفلات من القافية الموحدة، اذ حدث ذلك تدريجياً في شعره، فبدأ يترك اشطراً سائبة بين الاشطر المقفاة، ثم تخلى عنها تماماً. والحق ان (البياتي) من شعراء الحداثة الذين كانوا يتمسكون في مراحلهم الاولى بايراد القافية في شعرهم، ففي نتاجه الشعري الذي سبق عام 1970 كان يهتم بها ويحافظ على الانماط التي يضعها لقوافيه. وديوانه (اباريق مهشمة) خير دليل على ذلك الحفاظ مع التنويع في اشكالها. ومن استخدامات (البياتي) للقوافي المتنوعة قصيدته (ولكن الأرض تدور) التي تتحرك على ثمان مجموعات تتوزع على ثلاثة اشكال. ومن هنا نستطيع ان نقول ان حركة الحداثة الشعرية في العراق لم تقلل من اهمية القافية، ولكن معظم شعرائها كانوا يولون تنويع القوافي اهمية بالغة. وربما يكون هذا وراء نجاح الشعر الحر واخفاق الشعر المرسل الذي تخلى عن القافية.
ولم يبتعد (البياتي) عن الوزن العربي في أي قصيدة من قصائده على الرغم من دعوته الى القضاء عليه. ومن الغريب حقاً ان الوزن الشعري الموروث بقي مسيطراً عليه، فهو يربط بين الوزن ونمط التقنية التي يعتمدها البحر في شكل القصيدة من جهة، وبين التجربة الشعورية من جهة اخرى. ففي قصيدته (وردة الثلج) يعتمد على ايقاع سريع يتناسب مع الفضاء الحركي الذي منحه بحر القصيدة وهو (الرمل)، واعتمد ايضاً على التدوير، وان كان جزئياً إلاّ انه منح القصيدة جواً من القدرات الحركية الجديدة.
مما تقدم ، نفهم ان موسيقى الشعر الحر ليست رتيبة، وان الشعر الحر ليس خروجاً على اصوله، فهو شعر موزون ومقفى وان تنوعت قوافيه على وفق منهجية التجديد الذي تتطلبه حضارتنا وثقافتنا، وقصيدة الشعر الحر لم تحطم الشكل القديم، وانما قامت بتعديله على وفق قانون التطور والتغيير، وان الشكل القديم لم يتسع لتجاربهم الجديدة مما تحتم الامر على وحدة البيت ان تتحطم.
مفهوم الحداثة في المستوى الدلالي
تمرد رواد الشعر الحر على المضمون التقليدي في الشعر العربي، تمرداً سياسياً واجتماعياً وفكرياً وميتافيزيقياً. وجاء تمردهم هذا، بعد أن فتحوا عقولهم ووجد ناتهم الى تجارب العالم الغربي القديم والحديث، مما طبع شعرهم بطابع الرؤى الفلسفية والعالمية. وكان (لاليوت) اثر واضح في شاعرية الرواد، اذ اعطى لمضمونها الشعري أرضية تتحرك عليها وخلفية تصدر عنها.
قبل ان نتحدث عن مفهوم حداثتهم في المستوى الدلالي، أرى انه يتحتم علينا ان نلقي نظرة عامة على طبيعية المفهوم الشعري في مراحل ابداعهم الشعري المختلفة، والتعرف على غاية الشعر عند كل شاعر من شعراء الشعر الحر، لان مفهوم الشعر وغايته، ودور الشاعر، عند شعراء الشعر الحر يتغيران من مرحلة الى اخرى، وهذا التغيير والتحول لم يقتصر على شاعر دون سواه، وانما ينطبق بوجه عام على رواد الشعر الحر. وهذا التحول ، غالباً مايكون متصلاً بتقلب ظروف الحياة من حولهم.
قسم معظم الباحثين مراحل ابداع (السياب) للشعر على ثلاثة مراحل: الاولى وهي المرحلة الرومانسية، ومفهوم الشعر في هذه المرحلة هو مفهوم ذاتي، والشعر توأم الحب، وقد وحّد (السياب) بينهما توحيداً شاملاً، وعدّ القلب هو مصدر إلهام الشعر. ودور الشاعر هنا دور الخالق والمبدع. والمرحلة الثانية هي مرحلة التزامه بالواقعية الجديدة، ومفهوم الشعر، هنا يصبح اكثر شمولية من الفردية، والشعر هو الفن الذي يعبر عن واقع الامة، ليكون شعراً صادقاً في تعبيره، وان تعبيره عن افكار العصر ومضامينه هو إفصاح عن فهمه للدور المهم الذي يجب ان يشغله الشعر، إذ إن الشعر في هذا العصر، لا يزال له خطره، وان الشاعر لايزال كما كان منذ القديم نبياً بين الناس، يرشدهم ويهديهم، ويقوّم ما اعوج من طباعهم واذواقهم. وقد ادرك (السياب) ان المضمون الذي لايمثل حقائق العصر لايمنح الشاعر وجوداً مؤثراً، وهذا ما أكّده حين رأى ان شعره "بناء فني جديد واتجاه واقعي جديد، جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية وادب الابراج العاجية.
ويجعل (السياب) نفسه من دعاة الادب الواقعي قائلاً: "انني من دعاة الأدب الواقعي او الملتزم أو سمّه ما شئت ، فإنّ ما تدعوه وردة يبقى وردة وان سميناه باسم آخر كما يقول شكسبير". ولكن اية واقعية يؤمن بها (السياب)؟ ان الواقعية التي يؤمن بها (السياب) هي الواقعية التي تحدث عنها (ستيفن سبندر) في محاضرته (الواقعية الجديدة والفن)، وهي واقعية تمكن الشاعر من تحليل مجتمعه تحليلاً يحوي اكبر قدر ممكن من الحقائق. وهي واقعية تنبع من نفس الشاعر، واقعية لها الدور في توثيق العلاقة بين الشاعر والمجتمع، وقد بين (السياب) ذلك حين قال: "أنا من المؤمنين بأن على الفنان ديناً يجب أن يؤديه لهذا المجتمع البائس الذي يعيش فيه ولكنني لا أرتضي ان نجعل الفنان –وبخاصة الشاعر- عبداً لهذه النظرية والشاعر إذا كان صادقاً في التعبير عن الحياة في كل نواحيها، فلابدّ من أن يعبّر عن آلام المجتمع وآماله ، دون أن يدفعه أحد الى هذا، كما أنه من الناحية الاخرى يعبر عن الآمه هو وأحاسيسه الخاصة التي هي في أعمق أغوارها أحاسيس الاكثرية من أفراد هذا المجتمع" ولم يكتف (السياب) بدعوته التنظيريه فقط، فنراه يطبقها في قصيدته المشهورة (انشودة المطر)، التي استطاع بوساطتها ان يرصد تمزقات الواقع العربي، وصراع المفاهيم القاطنة في الوجدان العربي، وصور الشاعر فيها معاناة الجيل وسوداوية المرحلة واحلام المستقبل. ف(السياب) في مرحلته الثانية شاعر ملتزم على مستوى الوجود والواقعية.
ومرحلته الثالثة كانت مرحلة ارتداد الى الذات، واستنكر الشاعر لكل ما جاء من شعره الملتزم، ورأى انه من الافضل عليه ان يكتب ما يجيش في نفسه، وان يكون مفهوم الشعر وغايته ذاتيين، وبعيدين عن الالتزام، وعبر (السياب) عن ذلك فقال:
لقد سئم الشعر الذي كان يكتبُ
كما ملَّ اعماق السماء المذنبُ
فأدمى وأدمعا:
حروب وطوفان، بيوتُ تدمرُ
وما كان فيها من حياةٍ تصدعّا.
وبدأت (نازك الملائكة) رومانسية في عاشقة الليل، ومفهوم الشعر عندها مفهوم متصلاً بالذات الباطنية حيناً، وباللاشعور حيناً آخر، والشاعر يعبر عن حالاته بفنه واحلامه معاً. وعبرت الشاعرة عن الشعر عندها بأنه مغامرة باطنية حدسية مطلقة. ولكن رومانسيتها هذه، لم تعزلها عن انطلاقها نحو الواقع الانساني الصاخب، واذا عدنا الى شعرها بعد مرحلة عاشقة الليل، نجد ان مفهوم الشعر عندها اصبح مفهوماً انسانياً، والشاعر ولد ليراقب مجرى الحياة، لانه أصدق صوت معبر عن الانسان والآمه واحزانه.
لم تكن الشاعرة انطوائية طوال حياتها، أو تعيش في البروج العاجية، وانما هي شاعرة صورت واقع الحياة ومآسي الحروب وصور المجتمع، ولهذا وضعها معظم الباحثين في ضمن لائحة الشعراء القوميين العرب، ومن هؤلاء الباحثين (س . موريه) و(عبد الرضا علي) و(احمد مطلوب)، وهذا ما يجعلنا نقول عنها بانها شاعرة ذات نزعة وطنية وقومية.
ومفهوم (البياتي) للشعر يكاد يكون مفهوماً متنامياً خلال مراحله الشعرية. فقد بدأ ذا رؤى رومانسية، إلا ان الحس الجماعي كان غالباً على شعره، ومن خلال معايشة تجربته الشعرية نجد ان الرؤى الشعرية قد زادت كثافة وتعقيداً، من ديوان الى اخر، والشعر عنده اصبح بمثابة عملية الارتطام بهذا العالم، وان كتابته هي نوع من المعادل لوجود الانسان الذي يفنى في كل لحظة. وبهذا التنامي يجعل (البياتي) غاية الشعر، انسانية، ويأسى على الانزلاق بالرومانسية، ويحدد وظيفة الشعر وفعاليته في الواقع، لانه يرى ان الشعر الحق هو الذي يلتزم بالواقع الانساني بكل تناقضاته وصيرورة قضاياه. ومن هنا نراه يثور على دعاة الفن للفن ويصفهم بالمتسولين. لانهم لا يصورون الحقيقة، ولذلك ذهب يحقق قضيته من خلال شعره لمواجهة الظلم الاجتماعي، والذل الكوني الذي يواجهه الانسان رغبتاً منه في تحقيق العدالة على الارض. وايجاد حلٍ لمشكلة الموت التي يواجها الثوري.
ودور الشاعر في ظل مفهوم (البياتي) للشعر، أشبه بدور العراف والنبي، ولايكرر دروساً لقنها مثل المعلم، وانما يخلق ويتنبأ ويستشرف البقاع، ويحاول ايجاد نظام خاص للفوضى الابدية التي يعيشها الانسان من اجل أن يعبر عن المستقبل. بمعنى ان للشاعر رسالة ونبوءة خاصة به، ومن ثم لايمكن لاي شاعر أن يضع وصية يمكن يستخدمها الشعراء الاخرون علامة للهداية. ومن هنا نستطيع ان نقول ان (البياتي) شاعر واقعي، ولكنه منحاز الى قضية سياسية، تمكن من رفعها من المستوى الفكري العام الى المستوى الشعري الخاص.
ومن خلال معرفتنا بمفهوم الشعر وغايته عند كل مرحلة من مراحل ابداع شعراء الشعر الحر، نرى انهم قد وفقوا بين المفهوم والغاية في الجانب التنظيري، وعبروا عنه اصدق تعبير شعراً، في كل مرحلة، وبذلك يمكن القول ان الشعر الحر ولد رومانسياً لكن الواقعية هي التي وصلته الى مرحلة النضج والبلوغ.
اما الحديث عن مفهوم حداثة شعراء الشعر الحر في المستوى الدلالي، فاننا نجده يختلف عن حديثنا عن مفهوم شعراء المدارس التي سبقتها في مستوياتها الدلالية. لأننا نجد ان المعبر عنه/ المضمون نفسه يختلف من مرحلة الى اخرى عند كل شاعر من الرواد، بمعنى ان الاختلاف والتباين يظهر عند الشاعر الواحد في كل مرحلة كان له في كل منها موقف فكري يلتزم بمضامينه ويعبر عنها في شعره. وإذا تتبعنا مراحل شاعرية رواد الشعر الحر، يتضح لنا مفهوم حداثتهم في المستوى الدلالي عند كل فرد منهم.
كان مضمون الشعر في مرحلة (السياب) الاولى مضموناً يطفح بالرومانسية المملوءة بعواطف الحب الثائر إذ كان يكفي أن تلمس حسناء كتف شاعرنا في إحدى باحات الكلية.. تسأله في حياء عن موضوع المحاضرة التالية.. أو تتريث الى جواره وتحدثه قليلاً.. حتى تتحول داخل القصيدة الى شقيقة روح . ومضمونه هنا يصب حول قضية اساس هي الحب، وقد جعل (السياب) من ديوانه (اساطير) صدى لهذه القضية، غير أنه غشاها بالغموض الفني ، الذي نعده مظهراً من مظاهر حداثة شعره. ولذلك كان مضمونه الاول يفصح عن احداث حياته وانعكاسه لمسيرته الذاتية. وهذا ما جعل شعره غالباً ما يرتبط بعواطفه، بمعنى انه يربط الشعر بعالمه الداخلي، والشعر الحق عنده هو الذي يؤثر في النفس، عن طريق عاطفة الشاعر. وقد اكد (السياب) على دور العاطفة في نتاج أي شاعر، ولشدّة تأكيده اهميتها، نراه يجعل القصائد التي تصدر من عاطفة قصائده خالية من التكلف، ويقول عن قصيدة (ذات الرقي) لخالد الشواف: "كانت جميلة منطلقة من عاطفة فخلت من التكلف. ان كل كلمة في قصيدتك تهنئة من ربة الشعر لك ذلك انك أرضيت عاطفتك بها ثم عدت فأرضيت عاطفة غيرك فالعاطفة اذاً هي نجاح الشاعر، و(السياب) لايريد من الشاعر ان يصوغ الحقائق الجاهزة شعراً، لانه بذلك يقتل دور العاطفة وما تؤديه في وجدان المتلقي.
وبعد مرحلة (أساطير) التي تمثلت بالذاتية، والتي تحول عنها (السياب) الى مرحلة اخرى وهي مرحلة الاشتراكيه وانتمائه للحزب الشيوعي العراقي قبل عام 1958، اخذ مضمونه الشعري يفصح عن اهم القضايا الحضارية والانسانية، وقد تمثلت هذه المرحلة بحالة من الصراع بين الايمان بالانسان ودوره في الحياة، وبين إلغاء دوره وقتل انسانيته.
ولما كان (السياب) احد اطراف هذا الصراع، لجأ الى اسلوب يعدّه وسيلة فضلى لتصوير الواقع المتأزم، وحين ادرك فقدان الروح، واضمحلال الانسان والثقافة قام بتوحيد نفسه، فكرياً، وفنياً مع جذوره الثقافية. وعبر بشكل رائع عن إيقاع الحياة والموت في العصر الحديث الذي يعيشه العرب وهذا الاسلوب هو استخدام الرموز والاساطير القديمة العربية والغربية في مضمونه الجديد، غير ان هذا الاستخدام لم يكن هروباً من الواقع ومشاكله، بل على العكس ، كان محاولة منه لتوحيد هذا الواقع مع الاسطورة، وتوحيد الاسطورة مع الواقع.
جعل (السياب) من الاسطورة منهجاً جديداً، وعنصراً فاعلاً من عناصر قصيدة الحداثة، ودعا الى إدخالها في الشعر الحديث، وقد اشار الى ذلك، عندما القى كلمة في إحدى امسيات مجلة شعر، فقال: "هناك مظهر مهم من مظاهر الشعر الحديث: هو اللجوء الى الخرافة والاسطورة، الى الرمز، ولم تكن الحاجة الى الرمز، الى الاسطورة، امس مما هي عليه اليو. فنحن نعيش في عالم لاشعر فيه، اعني ان القيم التي تسودة قيم لاشعرية، والكلمة العليا فيه للمادة لا للروح وراحت الاشياء التي كان بوسع الشاعر ان يقولها أو يحولها الى جزء من نفسه، تتحطم واحداً فواحداً، أو تنسحب الى هامش الحياة. اذن فالتعبير المباشر عن اللاشعر لن يكون شعراً. فماذا يفعل الشاعر اذن؟ عاد الى الاساطير، الى الخرافات، التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءاً من هذا العالم، عاد اليها ليستعملها رموزاً، وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد وبذلك نفهم ان الحديث عن استخدام الاسطورة في الشعر لم يكن ملفتاً للنظر قبل تيار الشعر الحر، واهتمام (السياب) بها يعود الى رغبته في خلق عالم يرمز لعام الوجود الحقيقي.
ان مفهوم (السياب) للاسطورة مفهوم واسع، لايقف عند حدود القالب التعبيري، وانما هو اساس مضمونه الشعري الذي ينظم قصائده، بمعنى انها صورة من صور التقمص بين ذات الشاعر والحضارات والثقافات التي اوصى اليها الانسان خلال العصر. وقد استخرج منها الشاعر ابعاداً واقعية عكسها على واقعة الذي يعيش فيه. ومن ابرز قصائده التي استطاع ان يوحد فيها بين ذاته وبين تجربة الواقع المعايش قصيدته (انشودة المطر) التي رفعت تجربته من ذاتيتها الى تجربة كونية شاملة، بمعنى ان الشعر عنده اصبح اكثر التزاماً بقضايا الانسان والحضارة الكونية.
ان مضمون (السياب) في هذه المرحلة يعتمد اعتماداً كبيراً على اساطير البعث والولادة والتجدد، وقد بلغ البعث اوجه في قصائده (المسيح بعد الصلب) و(النهر والموت)، التي حقق (السياب) فيها الرمز الاسطوري عن طريق تهديم جسر الموت، قضيته التي كان يعاني منها، والعبور الى ولادة جديدة. ونفهم ان الغاية الاساس من استخدامه لهذه الاساطير هو تجسيد حالته النفسية التي كانت تحس باضطهاد غريب في المجتمع. ومن اكثر الرموز والاساطير دوراناً في شعره، رمز المسيح، الذي يمثل خاصية متشابهة مع (السياب)، ولقد افاد منه الشاعر اكثر من ثلاثين مرة في ديوانه (انشودة المطر) متخذاً منه رمزاً للشاعر الذي يضحي بنفسه في سبيل احياء مجتمعه. ويتخذ (السياب) من اسطورة السيد المسيح وسيلة ليتوحد معها، كما في قصيدته (العودة لجيكور) التي بناها على استعارات استمدها من العهد الجديد، واستعارات اخرى استمدها من الصور الاسلامية ، وقد استطاع ان يوفق "توفيقاً بيناً بين الجانب الذاتي وبين الجانب الموضوعي. ولكن نجاح (السياب) في هذا الجانب لم ينجو من الاتهام والعيوب، كالتي وجهها (انس داود) الية، حينما قال: "كما نجد الأسطورة، وتلك أخطر ظواهرها، تقتحم أجواء القصيدة فتشذ عن روحها العام، وتنبو عن طبيعة نسيجها الشعري وتحاول أن تكون استعراضاً لثقافة الشاعر أو تأكيداً مفتعلاً لعصرية شعره وحداثة أدواته الفنية فتسقط في دائرة الرفض، وتنبذ كل مادة زائفة، وفي شعر (السياب) كثيراً ما نشاهد هذه الظاهرة، لأنه قد حاول أن يعتمد اعتماداً كبيراً على الاسطورة. ان اتهام (انس داود) للسياب، يظهر لنا وكأنه يتناسى الدوافع التي كانت تقف وراء استخدام (السياب) وشعراء الحداثة للاساطير. ومن جملة هذه الدوافع:
1. الدوافع التي تخص الحياة في المجتمع الحديث، والتي احدثت تحولاً خطيراً في كل ميادين الحياة، ومنها الشعر على وجه الخصوص.
2. الدوافع الفنية، وتتمثل في ضعف تأثير الجرس الصوتي للكلمات وشدة أسر التراكيب اللفظية، ودفع هذا العامل شعراء الحداثة الى ايجاد وسائل التكنيك الحديثة من "مجاز ورمز واسطورة إي الى التصوير المنظور لا الى التصوير المسموع.
3. رغبة الشاعر الحديث بالعودة باللغة الى دلالتها الهيروغليفية التصويرية الأولى. لان عالم الاساطير هو عالم بدائي له علاقة وثيقة ببدائية وصيرورة اللغة. ان الدوافع السابقة كانت سبباً لمحاولة الشعراء للتنويع والتجديد في جو القصيدة، وجعلها اكثر قدرة على الجمع بين الذات والموضوع الخاص والعام. وبعد هذه الدوافع نستطيع ان نقول ان (السياب) باعتماده على المصادر الميثولوجية والدينية والتاريخية، قد اغنى معنى القصيدة الحديثة، اعني انه استطاع ان يخلق مضموناً اكثر حداثة وتنوعاً للقصيدة العربية.
وتعبر (نازك الملائكة) في مضمونها الاول عن همومها الشخصية، جاعلة من تجاربها الحقيقية التي عاشتها وتلذذت بها محور القصيدة. ومن أبرز القضايا التي تجلت في سيل هذا المضمون مسألة الحب، وقد مارسته الشاعرة في ديوانها (عاشقة الليل)، الذي يمثل بداية مضمونها الذاتي، وبداية حبها، وفي قصيدة (بعد عام) على وجه التحديد. والحقيقة ان حب (نازك) لا يمكن ان نضع له حداً معيناً، لأنها من خلال بحثها عن المحب الحقيقي لا تستطيع من مشاعرها الا ان تكون شاعرة متزنة، لان الحرية المكبوتة لاتستطيع ان تصنع تصوراً حقيقياً لكل قيمة حقيقية.
عُرفت الشاعرة في مرحلتها الشعرية الاولى برومانسيتها المتشائمة، وكانت تنظر الى الموت على أنه مأساة الوجود، إذ قالت: "كان من مشاعري إذ ذاك التشاؤم والخوف من الموت. وكان هذا التشاؤم سبباً منطقياً للجوء الشاعرة الى الاحساس بالضياع والغربة. وقالت عنها (خالدة سعيد): "الاخرون عنها اغراب، العالم حولها غريب في سائر قصائدها، نمر بها وحيدة، تغني مشاعرها فقط. والحقيقة ان طبيعة الشاعرة هي التي جعلتها تعاني من الاحساس بالغربة التي ذكرتها (خالدة سعيد). وذكر (عبد الله المهنا) انواع الاغتراب التي عانت منها (نازك)، وهي:
1. اغتراب اجتماعي: ويتمثل بموقفها المتعارض من العرف والتقاليد الاجتماعية.
2. اغتراب فكري: ويمثل معاناة الشاعرة من مأساة الوجود الانساني.
3. اغتراب نفسي: وقد انتاب هذا النوع من الاغتراب الشاعرة بالشعور بإن نفسها تتوق الى الانعتاق من هذا العالم.
4. اغتراب ابداعي: وتمثل بتجربتها الجديدة، بمعنى رغبتها في إحداث شكل جديد. ومن هنا ندرك ان (نازك) كانت مخلصة لذاتها، لانها اهتزت امام كل المعايير التقليدية، وهذا ما ولد مشاعر الغربة عندها.
وبهذا كانت (نازك) في مرحلتها الاولى، بعيدة كل البعد عن المضامين العامة، وهي ترى ان تصوير الحياة والواقع ليس من مهام الشاعر، وانما هو من عمل اناس مختصين لهم من الدراية والثقافة التي تنفعهم بهذا العمل(4). وجاء رأيها هذا في مرحلة مغرقة في تتبع شؤونها وحدها، وقد انشغلت (نازك) بتصوير ذاتها، اذ كانت معروفة في الدقّ الدائم على أوتار اليأس والميل الى التشاؤم، وإهمال الوجود الخارجي والانطواء على الذات انطواءً قريب الشبه بالمرض، لايعالج المشكلات بل يرفضها ويبتعد عنها ولذلك فهي ذهبت لمعالجة حالاتها الخاصة، ودعت الى معالجة الذات الباطنية وحالات اللاشعور، بعد ان وقف الشعر القديم على معالجة السلوك الخارجي للانسان، ولان النفس البشرية غامضة فالتعبير عنها يكون بشكل رمزي. والسبب يعود لان هذه الحالات لايمكن الافصاح عنها بالتعبير المباشر الذي يكون احياناً وسيلة محبطة عند التعبير عن الذات.
وبعد مرحلة رومانسيتها التي تمثلت في (عاشقة الليل) و(شظايا ورماد) اخذ مضمونها الشعري بعداً اكثر شمولية. وذلك يعود الى ايمانها بالفكر القومي، وكانت القومية عندها تعني "الحياة نفسها" ، وقد عبرت (نازك الملائكة) عن قوميتها، بصورة اكثر جلاء في محاضرة القتها في مؤتمر الادباء العرب الخامس، الذي عقد ببغداد في فبراير عام 1965، وكانت محاضرتها بعنوان (الأدب والغزو الغربي الفكري)، وكانت المحاضرة تنص على الأدب الغربي الذي غزا الفكر العربي، وقد عدّته الشاعرة اخطر انواع الغزو، لأنه يستهدف روح الأمة واصالتها، وغايته الاساس هو مسخ الهوية العربية، وشل نشاطها وموت نهضتها.
وكان للفكر القومي تأثير واضح في مضامين (نازك) الشعرية. اذ التزمت الشاعرة بقضاياه القومية، وبالانسان المعاصر على وجه الدقة، الذي اصبح موضوع قصيدتها الاول. وقد اشارت الشاعرة الى المضمون الانساني في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، وذلك عندما حاولت إيثار المضمون على الشكل في الشعر الحر. وقد برز مضمونها الأنساني في اشد صورها جلاء، عندما قامت الحرب الكونية الثانية، اذ انطلقت الشاعرة معبرة عن مشاعر الحزن بمطولة سمتها (مأساة الحياة وأغنية للانسان)، صورت الشاعرة فيها انهيار الانسانية ومآساتها. وقد صورت لنا (نازك الملائكة) انسانيتها فقالت: "فقد كنت احب السلام والمودة والصداقة والعواطف الانسانية، وحين لا أجد ذلك أخيب وأحزن أشد الحزن وأحس أن مُثلي العليا تتحطم على صخرة واقع قاس لا يرحم. ان رقة أحاسيس الشاعرة وإنسانيتها العميقة وحبها للبشرية جعلتها تتألم على مصير الانسان، وجعلت قصائدها ذات النزعة الانسانية تكثر في مرحلتها هذه. ولكن ما العوامل التي دفعت شاعرتنا ان تتميز عن غيرها من الشعراء بالنزعة الانسانية الحادة؟ من هذه العوامل:
1. الحرب الكونية الثانية، التي خيمت على العالم، فانطقت الشاعرة معبرة عن مصير الانسانية جمعاء.
2. طبيعة (نازك) النفسية، واحساسها المرهف ، اللذان جعلاها اكثر استعداداً لبروز هذه النزعة.
3. بيئة الشاعرة –بغداد- حيث كانت الروابط الانسانية في أوثق عراها.
4. شيوع افكار التحرر من العبودية، ودور الانسان في ممارسة الحياة.
5. اعجاب الشاعرة بشعراء المهجر، اللذين تجلت في شعرهم النزعة الانسانية بحقيقتها.
6. قراءة (نازك) المستمرة للشعر الوجداني، ولاسيما قصائد (توماس جري ووردزورث وشيلي وبايرون).
ومما تقدم، ندرك ان المضمون الشعري عند (نازك) قد تغير من الذاتية الخاصة الى التغني بالانسانية، وهذا التنوع والتحول جاء من التجارب الصادقة التي عاشتها الشاعرة في مجتمعها.
والمضمون الذي مثل مرحلة (البياتي) الاولى، هو المضمون الذاتي، بدأه (البياتي) مع بواكيره الاولى (ملائكة وشياطين). ولكن الذاتية التي اتبعها (البياتي) هي ذاتية محورة عن مواجد الذاتية الرومانسية التقليدية، لانه حاول زحزحة بعض المفاهيم السائدة في ذاتية الرومانسية التقليدية. وعلى الرغم من ان قصائد هذا الديوان هي قصائد حب كبيرة، استخدم الشاعر فيها الاسلوب الذاتي، إلا ان هدفه لم يكن هدفاً ذاتياً، وانما هو مضمون يعالج طرائق التعبير عن مأساة الوجود الانساني.
قدم (البياتي) رؤيته الذاتية من خلال إبراز مضمونها المرتبط بحركة الواقع، مما جعل افكاره الذاتية "تمارس تجربة العمق من خلال توحدها مع ذاتها اولاً وانكفائها نحو العالم ثانياً في محاولة... للاستمرار والتجدد. فالمضمون الذاتي عند (البياتي) يتسع على افاق واسعة، مما يمنح فرصة للمؤثرات الخارجية للتأثير المنعكس في هذه الذات، وقد حاول (البياتي) ان يعبر عن ذاته فقال: "بدأت اعالج الكلمة، محاولاً بها ان اعبر عن انفعالي بالعالم". بمعنى ان المضمون الذاتي عند (البياتي) خرج من حدوده الضيقة الى ذاتية الانسانية والوجود جمعاء.
وبعد مرحلة (ملائكة وشياطين) اخذ (البياتي) يعانق الفكر الماركسي، ويعبر عن المضامين السياسية والفكرية المتعلقة بهذا الفكر. وبالمرحلة نفسها اخذ يكتشف اسلوب الرمز المحوري والاسطورة، سبيلاً للتعبير عن مضامينه المتعلقة بالفكر الماركسي، وقد بدأ له ذلك في ديوانه (سفر الفقر والثورة) الذي مثل بداية التحول في تجربته الشعرية، حتى بلغ فيما بعد التعبير الاسطوري ذروته في ديوانه (الكتابة على الطين) الذي يمثل المعاناة من الموت الشامل، وخاصة قصيدته (قصائد حب الى عشتار)، اذ استلهم الشاعر رموزه واساطيره من اعماق لا وعي الشاعر الجماعي، والتقطت في صعودها الى الوعي خصائص صورية من اللاوعي في مستوياته الثلاثة الذاتي والوطني والقومي.
كانت قضية (البياتي) الاولى في هذه المرحلة، الثورة، والتي تجلت في موقفه من الفقر ومواجهة الموت، ولذلك ذهب يدمج بينهما بصورة غير واعية، بمعنى انه حقق التوحد بين التجربة الذاتية والتجربة الانسانية التي تسكن وعيه. ورفض الاستسلام لهما، وجاء حلمه بالثورة والولادة سبيلا الى الانتصار، لانه يرى بأن "الشاعر لايرتبط بثورة عصره وبلاده فقط، وانما بثورات كل العصور وكل البلدان، لان روح الثورة تحل في الحياة، وتنتصر على الموت، وتحل في الاشياء فتمنحها الحياة ولذلك كانت افضل الاساطير لديه هي الاسطورة التي تعبر عن موقفه من الموت، وهي اسطورة الموت والانبعاث التي تحقق له الانتصار، واعادته الى جنة جديدة خالية من الموت وتلغي كل الفوارق الطبقية بين البشر، جنة يتساوى فيها الجميع . ان مضمون (البياتي) في مرحلته هذه مضمون "يجسد قيام الحضارات وموتها ثم بعثها من جديد في صورة مماثلة، وقد رسم (البياتي) ذلك في قصيدته (قصائد حب الى عشتار) فقال:
طفلة أنتِ وانثى واعدهْ
وُلدِتْ من زبدِ البحر من نار الشموس الخالدهْ
كلما ماتت بعصرٍ، بُعثتْ
قامتْ من الموت وعادت للظهور
عشتار هنا هي رمز البعث والولادة في هذه الحياة، وعدّها (البياتي) الثورة نفسها التي "ستحرق آثار الدمار وتبث الحياة في الطلول الدارسة، فتعود بابل الى شبابها بعد شيخوخة وموت". ولكن مامدى عمق ايمان شاعرنا بحصول الولادة –اعني قيام الثورة-؟ ان حصول الثورة اشبه بالبحث عن ابرة بين اكوام من القش، وقال عن ذلك.
أيها النور الشهيد
عبثاً تصرخ فالعالم في الاشياء والاحجار واللحم يموتْ
والصبايا والفراشات وبيت العنكبوتْ
والحضارات تموتْ
عبثاً تمسك خيط النور في كل العصورْ
باحثاً في كوم القش عن الإبرة، محموماً، طريدْ
وعلى الرغم من صعوبة الحصول على الابرة بين كوم القش، إلا ان هناك املاً وايماناً مسبقاً بظهورها، لأن الشاعر في اعماقه الذاتية والجماعية يؤمن بالثورة التي ستحرق الفقر والموت، وتبني عالماً سعيداً، فيقول:
فمتى يشتعل الانسان في الثورة والحب وفي دوامة
الخلق وأعصار الحريق
ان الاساطير التي افاد منها (البياتي) هي نفسها –او تكاد تكون متقاربة مع الاساطير- التي افاد منها (السياب) فيما سبق، لكن هناك ثمة مميزات تلتصق باساطير ورموز (البياتي) دون سواه من الشعراء العراقيين والعرب المعاصرين له. ومن هذه المميزات:
1. ان الاساطير التي افاد منها (البياتي)، وهي كثيرة، لايقف وجودها في شعره عند حالته الشخصية، بل انه يعمد التوسل اليها لتقديم كل ما يتوارد الى ذهنه من الافكار والمواقف، مما تتسع لمضامين الثورة والتمرد.
2. يكتفي (البياتي) بذكر حالة واحدة تتسع لمضمون القصيدة كلها، وخير مثال على ذلك قصيدته (العرب اللاجئون) التي استعان الشاعر برموز عدة، لكن اللاجئين كلهم لديه بصورة واحدة، وهي صورة السيد المسيح.
3. ان الاساطير والرموز التي افاد منها الشاعر في مضمونه الشعري غالباً ماتكون قابلة للتغيير والتحول، فاننا نرى (عشتار) كانت بطلة للدلالات الاسطورية في الخصب والنماء، ثم يحولها الشاعر الى (عائشة) في قصائد اخرى، والى (لارا)، و(خزامى) ايضاً، وذلك لانه يرى ان كافة الرموز وهي رموز المدن والأسماء تعني رموز مدن واسماء الماضي والمستقبل، وهي تؤلف دلالات الحلول الثوري.
ومما تقدم، نرى ان هدف (البياتي) من استخدامه للرموز والاساطير في مضمونه الشعري الجديد، هو إضاءة الواقع الاجتماعي، وايجاد العلاقات بين ماهو موقف قديم وموقف جديد. وبذلك نفهم ان الإفادة من الرموز والاساطير تعد من اقانيم حداثة رواد الشعر الحر، وبدونها لاتحيا قصائدهم المبنية على التنوع المثري.