(1) |
أتسكعُ تحتَ أضواءِ المصابيحِ |
وفي جيوبي عناوين مبللةٌ |
حانةٌ تطردني إلى حانةٍ |
وامرأةٌ تشهيني بأخرى |
أعضُّ النهودَ الطازجةَ |
أعضُّ الكتبَ |
أعضُّ الشوارعَ |
هذا الفمُ لا بدَّ أن يلتهمَ شيئاً |
هذه الشفاه لا بدَّ أن تنطبقَ على كأسٍ |
أو ثغرٍ |
أو حجر |
لمْ يجوعني الله ولا الحقولُ |
بل جوعتني الشعاراتُ |
والمناجلُ التي سبقتني إلى السنابلِ |
أخرجُ من ضوضائي إلى ضوضاءِ الأرصفةِ |
أنا ضجرٌ بما يكفي لأن أرمي حياتي |
لأيةِ عابرةِ سبيلٍ |
وأمضي طليقاً |
ضجراً من الذكرياتِ والأصدقاءِ والكآبةِ |
ضجراً أو يائساً |
كباخرةٍ مثقوبةٍ على الجرفِ |
لا تستطيعُ الإقلاعَ أو الغرق |
تشرين ثاني 1993 عدن |
* |
(2) |
كتبي تحتَ رأسي |
ويدي على مقبضِ الحقيبةِ |
السهول التي حلمنا بها لمْ تمنحنا سوى الوحولِ |
والكتب التي سطرناها لمْ تمنحنا سوى الفاقةِ والسياطِ |
أقدامي امحتْ من التسكعِ على أرصفةِ الورقِ |
وأغنياتي تكسّرتْ مع أقداحِ الباراتِ |
ودموعي معلّقةٌ كالفوانيسِ على نوافذِ السجونِ الضيقةِ |
أفردُ خيوطَ الحبرِ المتشابكةَ من كرةِ صوفِ رأسي |
وأنثرها في الشوارعِ |
سطراً سطراً، |
حتى تنتهي أوراقي |
وأنام |
آذار 1996 دمشق |
* |
(3) |
سأحزمُ حقائبي |
ودموعي |
وقصائدي |
وأرحلُ عن هذه البلادِ |
ولو زحفتُ بأسناني |
لا تطلقوا الدموعَ ورائي ولا الزغاريدَ |
أريد أن أذهبَ |
دون أن أرى من نوافذِ السفنِ والقطاراتِ |
مناديلكم الملوحةَ. |
أستروحُ الهواءَ في الأنفاقِ |
منكسراً أمامَ مرايا المحلاتِ |
كبطاقاتِ البريدِ التي لا تذهبُ لأحدٍ |
لنحمل قبورنَا وأطفالنَا |
لنحمل تأوهاتِنا وأحلامنَا ونمضي |
قبل أن يسرقَوها |
ويبيعوها لنا في الوطنِ: حقولاً من لافتاتٍ |
وفي المنافي: وطناً بالتقسيط |
هذه الأرضُ |
لمْ تعدْ تصلحُ لشيءٍ |
هذه الأرضُ |
كلما طفحتْ فيها مجاري الدمِ والنفطِ |
طفحَ الانتهازيون |
أرضنا التي نتقيَّأُها في الحانات |
ونتركها كاللذاتِ الخاسرةِ |
على أسرةِ القحابِ |
أرضنا التي ينتزعونها منا |
كالجلودِ والاعترافاتِ |
في غرفِ التحقيقِ |
ويلصقونها على اكفنا، لتصفّقَ |
أمامَ نوافذِ الحكامِ |
أيةُ بلادٍ هذه |
ومع ذلك |
ما أن نرحلَ عنها بضعَ خطواتٍ |
حتى نتكسرَ من الحنين |
على أولِ رصيفِ منفى يصادفنا |
ونهرعُ إلى صناديقِ البريدِ |
نحضنها ونبكي |
كانون ثاني 1996 الخرطوم |
* |
(4) |
حياتنا التي تشبه الضراط المتقطع في مرحاض عام |
حياتنا التي لمْ يؤرخها أحد |
حياتنا ناياتنا المبحوحةُ في الريحِ |
أو نشيجنا في العلبِ |
حياتنا المستهلكةُ في الأضابير |
والمشرورةُ فوق حبالِ غسيلِ الحروبِ |
ترى أين أوَّلي بها الآن |
حين تستيقظُ فجأةً |
في آخرةِ الليلِ |
وتظلُّ تعوي في شوارعِ العالم |
15/7/1999 ليلاً - قناة دوفر Dover بحر المانش |
* |
(5) |
أضعُ يدي على خريطةِ العالمِ |
وأحلمُ بالشوارعِ التي سأجوبها بقدمي الحافيتين |
والخصورِ التي سأطوقها بذراعي في الحدائقِ العامةِ |
والمكتباتِ التي سأستعيرُ منها الكتبَ ولن أعيدها |
والمخبرين الذين سأراوغهم من شارعٍ إلى شارعٍ |
منتشياً بالمطرِ والكركراتِ |
حتى أراهم فجأةً أمامي |
فأرفع إصبعي عن الخارطة خائفاً |
وأنامُ ممتلئاً بالقهر |
16/7/1999 حديقة الهايدبارك – لندن |
* |
(6) |
سأقذفُ جواربي إلى السماءِ |
تضامناً مع مَنْ لا يملكون الأحذيةَ |
وأمشي حافياً |
ألامسُ وحولَ الشوارعِ بباطنِ قدمي |
محدقاً في وجوهِ المتخمين وراءَ زجاجِ مكاتبهم |
آه.. |
لو كانتِ الأمعاءُ البشريةُ من زجاجٍ |
لرأينا كمْ سرقوا من رغيفنا |
أيها الربُّ |
إذا لمْ تستطعْ أن تملأَ هذه المعدةَ الجرباءَ |
التي تصفرُ فيها الريحُ والديدانُ |
فلماذا خلقتَ لي هذه الأضراسَ النهمة |
وإذا لمْ تبرعمْ على سريري جسداً املوداً |
فلماذا خلقتَ لي ذراعين من كبريت |
وإذا لمْ تمنحني وطناً آمناً |
فلماذا خلقتَ لي هذه الأقدامَ الجوّابةَ |
وإذا كنتَ ضجراً من شكواي |
فلماذا خلقتَ لي هذا الفمَ المندلقَ بالصراخِ |
ليلَ نهار |
آب 1999 براغ |
* |
(7) |
أين يداكَ؟ |
نسيتهما يلوحان للقطاراتِ الراحلةِ |
أين امرأتكَ؟ |
اختلفنا في أولِ متجرٍ دخلناهُ |
أين وطنكَ؟ |
ابتلعتهُ المجنـزرات |
أين سماؤكَ؟ |
لا أراها لكثرةِ الدخانِ واللافتاتِ |
أين حريتكَ؟ |
أنني لا أستطيعُ النطقَ بها من كثرةِ الارتجاف |
1996 مقهى الفينيق - عمان |
* |
(8) |
دموعي سوداء |
من فرطِ ما شربتْ عيوني |
من المحابرِ والزنازين |
خطواتي قصيرة |
من طولِ ما تعثرتْ بين السطورِ بأسلاكِ الرقيب |
أمدُّ برأسي من الكتاب |
وأتطلعُ إلى ما خلفتُ ورائي |
من شوارع مزدحمةٍ |
ونهودٍ متأوهةٍ |
ورغباتٍ مورقةٍ في الأسرّةِ |
وأعجبُ كيف مرّتِ السنواتُ |
وأنا مشدودٌ بخيوطِ الكلماتِ إلى ورقة |
تموز 1993 مهرجان جرش- عمان |
* |
(9) |
لا شمعة في يدي ولا حنين |
فكيف أرسمُ قلبي |
لا سنبلة أمامَ فمي فكيفَ أصفُ رائحةَ الشبعِ |
لا عطور في سريري فكيف أستدلُّ على جسد المرأة |
لنستمع إلى غناءِ الملاحين |
قبل أن يقلعوا بأحلامهم إلى عرضِ البحرِ وينسونا |
لنستمع إلى حوارِ الأجسادِ |
قبل أن ينطفئَ لهاثها على الأرائك |
أنا القيثارةُ مَنْ يعزفني |
أنا الدموعُ مَنْ يبكيني |
أنا الكلماتُ مَنْ .. يرددني |
أنا الثورةُ مَنْ يشعلني |
تشرين ثاني1993 صنعاء |
* |
(10) |
أكتبُ ويدي على النافذة |
تمسحُ الدموعَ عن وجنةِ السماء |
أكتبُ وقلبي في الحقيبةِ يصغي لصفيرِ القطارات |
أكتبُ وأصابعي مشتتة على مناضدِ المقاهي ورفوفِ المكتبات |
أكتبُ وعنقي مشدودٌ منذ بدءِ التاريخِ |
إلى حبلِ مشنقةٍ |
أكتبُ وأنا أحملُ ممحاتي دائماً |
لأقلِّ طرقةِ بابٍ |
وأضحكُ على نفسي بمرارةٍ |
حين لا أجد أحداً |
سوى الريح |
1991 بغداد |
* |
(11) |
كيف لي |
أن أتخلّصَ من مخاوفي |
رباه |
وعيوني مسمرةٌ إلى بساطيلِ الشرطةِ |
لا إلى السماءِ |
وبطاقتي الشخصية معي |
وأنا في سريرِ النومِ |
خشيةَ أنْ يوقفني مخبرٌ في الأحلام |
24/7/1999 امستردام |
* |
(12) |
تحتَ سلالمِ أيامي المتآكلةِ |
أجلسُ أمام دواتي اليابسةِ |
أخططُ لمجرى قصيدتي أو حياتي |
ثم أديرُ وجهي باتجاهِ الشوارع |
ناسياً كلَّ شيءٍ |
أريدُ أن أهرعَ لأولِ عمودٍ أعانقهُ وأبكي |
أريدُ أن أتسكعَ تحتَ السحب العابرة |
حتى تغسل آثارَ دموعي |
أريد أن أغفو على أيِّ حجرٍ أو مصطبةٍ أو كتاب |
دونَ أن يدققَ في وجهي مخبرٌ |
أو متطفلةٌ عابرةٌ |
أعطوني شيئاً من الحريةِ |
لأغمس أصابعي فيها |
وألحسها كطفلٍ جائعٍ |
أنا شاعرٌ جوّاب |
يدي في جيوبي |
ووسادتي الأرصفة |
وطني القصيدة |
ودموعي تفهرسُ التأريخَ |
أشبخُ السنواتِ والطرقاتِ |
بعجالة مَنْ أضاعَ نصفَ عمرِهِ |
في خنادقِ الحروبِ الخاسرةِ والزنازين |
مَنْ يغطيني من البردِ واللهاثِ ولسعاتِ العيون |
وحيداً، أبتلعُ الضجرَ والوشلَ من الكؤوسِ المنسيّةِ على الطاولاتِ |
وأحتكُّ بأردافِ الفتياتِ الممتلئةِ في مواقفِ الباصاتِ |
لي المقاعدُ الفارغةُ |
والسفنُ التي لا ينتظرها أحد |
لا خبز لي ولا وطن ولا مزاج |
وفي الليل |
أخلعُ أصابعي |
وأدفنها تحتَ وسادتي |
خشيةَ أن أقطعها بأسناني |
واحدةً بعدَ واحدة |
من الجوعِ |
أو الندمِ |
تشرين أول1996 بيروت |
* |
(13) |
أيها القلبُ الضال |
يا مَنْ خرجتَ حافياً ذاتَ يومٍ |
مع المطرِ والسياطِ وأوراقِ الخريفِ |
ولمْ تعدْ لي |
سأبحثُ عنكَ |
في حقائبِ الفتياتِ اللامعةِ والمواخيرِ ومحطاتِ القطاراتِ |
حافياً أمرُّ في طرقاتِ طفولتي |
وعلى فمي تتراكمُ دموعُ الكتب والغبار |
أجمعُ بقايا الصحفِ والغيوم الحزينة وصور الممثلات العارية |
وأدلقُ وشلَ القناني الفارغةِ في جوفي |
أجمعُ أعقابَ السجائر المطلية بالأحمر |
وأظلُّ أحلمُ بما تركتهُ الشفاهُ الأنيقةُ من زفراتٍ |
القصائدُ تتعفنُ في جيوبي |
ولا أجد مَنْ ينشرها |
الدموعُ تتيبسُ على شفتي |
ولا أجد مَنْ يمسحها |
راكلاً حياتي بقدمي من شارعٍ إلى شارعٍ |
مثلما يركلُ الطفلُ كرتَهُ الصغيرةَ ضجراً منها |
وأنا... |
أتأملُ وجهي في المرايا المتعاكسة |
وأعجبُ |
كيف هرمتُ |
بهذه العجالة |
7/1/2000 أوسلو |
* |
(14) |
سأجلسُ على بابِ الوطنِ محدودبَ الظهرِ |
كأغنيةٍ حزينةٍ تنبعثُ من حقلٍ فارغٍ |
يغطيني الثلجُ وأوراقُ الشجرِ اليابسة |
أنظرُ إلى أسرابِ العائدين من منافيهم كالطيورِ المتعبةِ |
أمسحُ عن أجفانهم الثلوجَ والغربةَ |
إنهم يعودون... |
لكن مَنْ يعيد لهم ما ضيعوهُ |
من رملٍ وأحلامٍ وسنوات |
أقلعتُ في أولِ قطارٍ إلى المنفى |
وأنا أفكرُ بالعودة |
شاختْ سكةُ الحديدِ |
وتهرأتِ العجلاتُ |
وامحتْ ثيابي من الغسيلِ |
وأنا ما زلتُ مسافراً في الريحِ |
أتطايرُ بحنيني في قاراتِ العالم |
مثل أوراقِ الرسائلِ الممزقةِ |
دموعي مكسّرةٌ في الباراتِ |
وأصابعي ضائعةٌ على مناضدِ المقاهي |
تكتبُ رسائلَ الحنينِ |
لأصدقائي الذين لا أملكُ عناوينهم |
أنامُ على سطوحِ الشاحناتِ |
وعيوني المغرورقةُ باتجاهِ الوطنِ البعيد |
كطائرٍ لا يدري على أيِّ غصنٍ يحطُّ |
لكنني دون أن أتطلعَ من نافذةِ القطارِ العابرِ سهوب وطني |
أعرفُ ما يمرُّ بي |
من أنهارٍ |
وزنازين |
ونخيلٍ |
وقرى. أحفظها عن ظهرِ قلب |
سأرتمي، في أحضانِ أولِ كومةِ عشبٍ تلوحُ لي من حقولِ بلادي |
وأمرّغُ فمي بأوحالها وتوتها وشعاراتها الكاذبةِ |
لكنني |
لن أطرقَ البابَ يا أمي |
إنهم وراء الجدران ينـتظرونني بنصالهم اللامعة |
لا تنتظري رسائلي |
إنهم يفتشون بين الفوارز والنقاطِ عن كلِّ كلمةٍ أو نأمةٍ |
فاجلسي أمامَ النافذة |
واصغي في الليلِ إلى الريح |
ستسمعين نجوى روحي |
1998 مالمو |
* |
(15) |
خطوطُ يدي امحت من التشبّثِ بالريحِ والأسلاك |
ومن العاداتِ السرّيةِ |
مع نساء لا أعرفهن |
التقطتهنَّ بسنّارةِ أحلامي من الشارع |
وهذه الشروخ، التي ترينها ليستْ سطوراً |
بل آثار المساطر التي انهالتْ على كفي |
وهذه الندوب، عضات أصابعي |
من الندم والغضب والارتجاف |
فلا تبحثي عن طالعي في راحتي |
- ياسيدتي العرافة - |
ما دمتُ مرهوناً بهذا الشرقِ |
فمستقبلي في راحات الحكام |
20/3/1990 كورنيش النيل- القاهرة |
* |
(16) |
لا أعرفُ متى سأسقطُ على رصيفِ قصائدي |
مكوّماً بطلقةٍ |
أو مثقوباً من الجوعِ |
أو بطعنة صديق |
يمرُّ الحكامُ والأحزابُ والعاهراتُ |
ولا يد تعتُّ بياقتي وتنهضني من الركامِ |
لا عنق يستديرُ نحوي |
ليرى كيفَ يشخبُ دمي كساقيةٍ على الرصيفِ |
لا مشيعين يحملونني متأففين إلى المقبرة |
الأقدامُ تدوسني أو تعبرني |
وتمضي |
الفتياتُ يشحنَ بأنظارهن |
وهن يمضغن سندويشاتهن ونكاتهن المدرسية البذيئة |
ومئذنةُ الجامعِ الكبير |
تصاعدُ تسابيحها - ليلَ نهار - |
دون أن تلتفت لجعيري |
……. |
لا أعرفُ على أيِّ رصيفِ منفى |
ستسّاقطُ أقدامي ورموشي من الانتظار |
لا أعرفُ أيَّ أظافرٍ نتنةٍ ستمتدُ إلى جيوبي |
وتسلبني قصائدي |
ومحبرتي وأحلامي |
في وضحِ النهار |
لا أعرفُ على أيِّ سريرِ فندقٍ أو مستشفى |
سأستيقظ |
لأجد وسادتي خاليةً... |
ودموعي باردةً |
ووطني بعيد |
لا أعرفُ في أيِّ منعطفِ جملةٍ أو وردةٍ |
سيسدد أحدهم طعنتَهُ المرتبكةَ العميقةَ |
إلى ظهري |
من أجلِ قصيدةٍ كتبتها ذاتَ يومٍ |
أشتمُ فيها الطغاة والطراطير |
ومع ذلك سأواصلُ طوافي وقهقهاتي وشتائمي |
عابراً وليس لي غير الأرصفةِ والسعالِ الطويلِ |
ليس لي غير الحبرِ والسلالمِ والأمطارِ |
سائراً مثلَ جندي وحيدٍ |
يجرُّ بين الأنقاضِ حياتَهُ الجريحةَ |
لا أريدُ أوسمةً ولا طبولاً ولا جرائدَ |
أريدُ أن أضعَ جبيني الساخنَ |
على طينِ أنهارِ بلادي |
وأموت حالماً كالأشجار |