"رأيت المرأة كالقيثارة بين يدي رجل لا يحسن الضرب عليها فتسمعه أنغامًا لا ترضيه" تشبيه وفكرة ومعنى سطره جبران خليل الجبران في قطعة أدبية بعنوان "رؤيا" ونشرت ضمن كتاب "دمعة وابتسامة" قد تمر عيناك على جملة كهذه، وقد تتوقف عندها لثوان، أو تركض عيناك مبتعدة عنها دون أن تعي منها كثيرًا، لكنها أثارتني وشغلتني طويلاً، وكأن جبران قد صور فيها أشياء كثيرة وربط بينها ربطًا رائعًا، وصور الواقع بأبسط وأصدق ما يكون.
ففي عبارة جبران وحيث تراءت له العلاقات والمعاني في الرؤيا جاء الرجل والمرأة ليعبران عن سر المشكلة الدائمة والقائمة بينهما، تقول الكتب الإجتماعية أن المشكلة بين الرجل والمرأة لن تحل إلا إذا اقتنع الاثنان بأنهما حقًا مختلفان، فلا يطلب الرجل من المرأة ما يقدمه الرجل للرجل، ولا تطلب هي مثل ما تمنح المراة للمرأة، وهذه حقًا مشكلة، إلا أن جبران صور ما هو أدق من ذلك، إنها العلاقة التي تحل المشكلة أو تعقدها، إن علاقة الرجل بالمرأة كالعازف مع القيثارة، إن لم يكن عازفًا ذو خبرة وحس أخذ يضرب على القيثارة إما بعنف زائد أو بلطف مبالغ فيه، فتأتي ألحانه عنيفة مزعجة، أو متراخية مملة باردة لا دفء فيها ولا حس تنبض به، وإن لم يفقه من العزف مبادءه وأصوله جاءت ألحانه أبعد ما يكون عما تستعذبه الأذن وتنفعل به العاطفة ويرق له القلب وتجيبه المدامع، ونحن نرى أمهر الموسيقين وقد توحدوا مع آلاتهم فصاروا شيئًا واحدًا، حتى أنك لتعجب كيف جاء ذاك اللحن من آلة، وإن أنت فصلت بين العازف وآلته ومنحت كل واحد منهما شريكًا آخر اختلت الألحان فلا العازف هو العازف، ولا الآلة هي الآلة.
ولم يعني جبران الآلة في كونها صماء، فلم تكن المرأة في فكر جبران صماء مطلقًا، كانت دومًا ملهمة وشاعرة، وحين تعيش بين كتابات جبران تجد المراة دومًا صديقة وحبيبة وفية، وترى الطبيعة في عينيه تجسدت كالمرأة ، وتراه يصفها ويغازلها ويلاطفها ويعشقها، فما أبعد جبران عن وصف المراة بالآلة الصماء، وإنما أراد من وصفه العلاقة التي تجعل الرجل قائدًا للعلاقات، فالمرأة بطبعها لن تطلب الرجل، فهو يبدأ بالتحية، وقد يبدأ بالنظرة، وقد يصرح هو بالحب بداية، وعليها أن تمنحه الإشارة ليتقدم أكثر، فإن كان فطنًا شاعرًا عرف ما تعني إشارتها بالعين أو الشفتين او اللسان أو اليد، وإن كان دون ذلك تاه في بحر لجي من الحيرة، فيظنها مرة تكرهه، ومرة تزدريه، ومرة لا تبادله حبًا بحب، ومرة متكبرة متغطرسة، ومرة باردة كالثلج، وظنها مرة عاشقة له، ومرة تدعوه، ومرة تمنعه... وهكذا حتى يضيع العمر ويغرق حتى أذنيه وتنساه السعادة ويودعه الحب.
وإن فطن لإشاراتها اقترب أكثر وتبادلا ما تبادلا من الحديث، وإن وجدت شعلة الحب بينهما فعليه أن يبدأ للمرة الثانية، إنه المقاتل الذي يحمل سيفه ويتقدم الصفوف، وعليه ألا يتنازل عن شجاعته، ولأجل هذا تقدره المرأة، كلما كان قائدًا حازمًا كلما كان أكثر قربًا، ومع ذلك فهو عازف يعرف كيف يحاكي قيثارته، فتارة يهز الأوتار هزًا خفيفًا فتستجيب له باعثة لحنًا عذبًا تستكين له الروح وتهدًا، وتارة يزيد من ضرباته فتصدر الألحان أكثر قوة تدب في عروقه القوة والنشاط والعزيمة، وتارة يشد أكثر فأكثر فتصير الألحان كالعواصف تهدم جدران الجليد إن قامت وتزيلها بلحظة، ثم يعود فيهدًا وتعود الألحان من جديد.
إن العازف لا يشد على أوتار قيثارته فيمزقها، ولا يحملها ليخرسها، ولا يقذف بها فيحطمها، إنه يمسكها بلطف، ويعتني بها لأنها سر سعادته ومبعث راحته ودليل براعته، وهو بدون قيثارته كالأبكم لا يقدر على شيء، بداخله الكثير من الأفكار والأقوال والعواطف الجياشة ولا يحسن التعبير عنها لافنتقاده ألة التعبير، هكذا تحل مشكلة الرجل والمرأة، وهكذا يكونا متلازمين ، وهكذا يصبحان غير متنافسين، فلا العازف يغار من قيثارته ويحطمها لأنها تصدر ألحانًا جميلة تفوقه بروعتها، ولا القيثارة تهرب لغير العازف الذي يحسن الضرب عليها ، ولا تعانده أو تجرعه الياس لأنها ستصمت أبدًا بدونه، وهكذا الرجل والمرأة إن أحسن كل منهما لعب دوره في الحياة.
وآخر القول كبدايته: "رأيت المرأة كالقيثارة بين يدي رجل لا يحسن الضرب عليها فتسمعه أنغامًا لا ترضيه"