أيّها النّاس : " حلّوا عنّا " !
أحياناً نُصابُ بعقم الكتابة، فيصبحُ القلم عاجزاً عن الكلام عجزَ عجوزٍ في الثمانين عن إنجاب طفل ! ثمّ فجأةً تخطرُ لنا فكرة، فنشعر في تلك اللحظة بما شعر به أرخميدس عندما صرخ قائلاً : وجدتها ، وهو مستلقٍ في البانيو ! وبما شعر به نيوتن حين وقعتْ التّفاحة على مقربة منه، فسأل نفسه : لماذا يسقط التفاح بدل أن يطير ؟! من الجيّد أنّ أحد قاطني هذا الكوكب قرر أخيراً أن يُفكّر بعقله بدل أن يُفكّر بمعدته ! ومن المخزي أننا استغرقنا كلّ هذا الوقت لنعرف لماذا يسقط التّفاح بدل أن يطير !
كان تفكيرُ أرخميدس مُنصبّاً على مشكلته الشّخصيّة، فقد كلّفه الإمبراطور هيرون معرفة إن كان تاجه الجديد من الذّهب الخالص أم أنّ الصّائغ قد خدعه، فعندما يُركّز النّاس على شؤونهم الخاصة ويدعون النّاس وشأنهم يُبدعون ! ونيوتن على ما يبدو لم يكن مهتماً بما تناوله جيرانه على الغداء، ولا من أين حصل أخوه على ثمن عربته الجديدة التي تجرّها الخيول ، فعندما نتوقف عن النّظر لما في أيدي الآخرين يصبحُ لدينا وقت للتفكير بما في أيدينا !
أحياناً لا نريدُ من الآخرين سوى أن يدعوننا وشأننا، ولكنهم لا يسمحون لنا بمثل هذا الترف ! هناك أشخاص لا يأتيهم النوم إلا إذا تفقّدوا صور الآخرين الشّخصيّة وحالاتهم في الواتسآب، كأنّ أحدهم عمر بن الخطاب لا يقر له جفن حتى يطمئنّ على رعيّته ! وليته يريد أن يطمئن بقدر ما يريد أن يخرج " سيغموند فرويد " الكامن فيه ويحللك تحليلاً نفسياً معتوهاً !
عندما نضع جملةً عن الحُبّ فهذا لا يعني أننا في حالة هيام !
وعندما نضع جملةً عن الغدر فهذا لا يعني أننا قد تلقينا طعنة للتو !
وعندما نضع جملةً عن قيام الليل فهذا لا يعني أننا أمضينا الليلة على سجادة الصلاة !
وعندما نضع جملةً عن صلاة الجماعة فهذا لا يعني أننا نحملُ مفاتيح المسجد !
يحدثُ أن يقرأ الإنسان جملةً فتعجبه فيقتبسها، الأمرُ لا يعدو كونه استعذابُ كلامٍ لا أكثر ! ثمّ إنّ الكلام حمّال أوجه، وجملة ك " داوها بالتي كانت هي الداءُ " أعمق من رغبة في الذّهاب إلى حانة لاحتساء الخمر كما كان يفعل أبو نوّاس !
والنّاسُ لا يكتفون بمحاسبتك على ما تنشر، وإنما يحاسبونك على ما لا تنشر أيضاً ! اطمئنوا فنحن بخيرٍ لا شغل الله لكم بالاً !
عندما لا نُصوّر طعامنا في الفيسبوك فهذا لا يعني أننا لا نأكل !
وعندما لا نُصوّر زوجاتنا ونحن نعانقهنّ فهذا لا يعني أننا لا نعانقهنّ !
وعندما لا نُصوّر أنفسنا ونحن نسجد فهذا لا يعني أننا لا نصلي !
وعندما لا نُصوّر بطاقات علامات أولادنا فهذا لا يعني أنهم راسبون !
وعندما لا نُصوّر أنفسنا على أسِرّة المستشفيات فهذا لا يعني أننا لا نمرض !
وعندما لا نُصوّر أنفسنا في الرّحلات والنّزهات فهذا لا يعني أننا أقفلنا بيوتنا على أنفسنا وابتلعنا المفاتيح !
وعندما لا نُصوّر اجتماعاتنا العائلية فهذا لا يعني أننا عائلة شتت الله شملها !
وعندما لا نُصوّر أنفسنا ونحن نُقبّل أيدي أمهاتنا فهذا لا يعني أننا عاقون !
وعندما لا نُصوّر الكتب التي نقرأها فهذا لا يعني أننا جهلة لا نقرأ !
حتى عندما لا نخبركم أننا خرجنا للتو من الحمّام فهذا لا يعني أننا عفنون ولا نستحم !
كلّ ما في الأمر أننا نرى أن عيش اللحظات أجمل من توثيقها، وأنّ حياتنا لنا لا لكم ، فحلّوا عنّا !
أدهم شرقاوي