مصطلح الدكتاتورية مذموم عادة، حيث إن الدكتاتورية عادة تعني الاستئثار بالسلطة وفرض الارادات على افراد الشعوب رغماً عنهم، ولكن في الحقيقة قدر معين من الدكتاتورية هو في الغالب امر مطلوب لتحقيق افضل السبل في قيادة الدولة
فالديمقراطية المطلقة فيها من المساوئ بقدر الدكتاتورية المطلقة، والشعب العراقي - لسوء الحظ - جرب النوعين، فالدكتاتورية المطلقة في عهد صدام البائد أسفرت عن قتل وتعذيب وترويع البلاد، وادخالها في حروب اهلكت الحرث والنسل و سببت بانهيار البنى التحتية والاقتصاد وكل شيء، كل هذا بسبب التفرد في صناعة القرار دون خوف من العواقب، وهو ما حصل بالفعل. و ما زلنا لغاية اليوم نعيش بتأثير تلك السنين العجاف.
من جانب آخر الديمقراطية المطلقة، و هو ما عكسه دستور البلاد الحالي، يجعل أمر البلاد مفرقا نتيجة لتعدد الاراء والاهواء وبالتالي يؤدي إلى شل كامل لاي توجه اصلاحي او محاولة لاتخاذ القرار الصحيح ناهيك عن عدم امكانية تحميل مسؤولية الفشل الناتج عن هذه الفوضى لاي طرف من الاطراف الحاكمة، ببساطة لان الكل مشتركين في السلطة
و كما يعبرالمثل العراقي الشائع - السفينة اذا كثرت ملاليحها تغرك - وهذا بالضبط ما يحصل اليوم، كثرة "الملاليح" تجعل جميع مفاصل الدولة مشلولة، فجميع الاطراف المشاركة في الحكومة بامكانها (متاح لها) العمل من اجل المصلحة الشخصية او الفئوية الضيقة، ولكن اي محاولة لتنفيذ استراتيجية اصلاحية معينة، او مشروع مهم، او محاولة تحسين مجال معين من مجالات البلد، او تنفيذ خطة استثمارية ببساطة تفشل او تتلكأ او تنتهي حتى قبل ان تبدأ، لان اي شخص متنفذ (سواء في الحكومة الاتحادية او الحكومات المحلية او مسؤولي الدوائر او حتى المواطنين) بامكانهم وضع العصي في دواليب العمل.
ما نحتاجه اليوم هو دستور يؤمن للبلاد نظام رئاسي (او شبه رئاسي) ديمقراطي مركزي، يستطيع من خلاله رئيس الدولة - الذي يصل للسلطة عن طريق الانتخابات المباشرة كما في النظام الرئاسي، او عبر تعيين كتلته التي فازت في الانتخابات ولو بفارق صوت واحد) من تشكيل حكومته بنفسه دون تدخل احد، ويستطيع ان يستخدم صلاحياته كاملة في ادارة البلاد بالصورة المثلى وتنفيذ سياستها الداخلية والخارجية بافضل صورة وهو ما معمول به في الدول المتقدمة
هذا بالطبع لا ينافي مبدأ الفصل بين السلطات، فالسلطة القضائية في كل الدول المتطورة مفصولة ولها اليد العليا ولا سلطان عليها سوى القانون نفسه، و البرلمان او مجلس النواب وظيفته تشريع القوانين و الرقابة على اداء الحكومة (وربما حتى الدعوة لانتخابات مبكرة) ولكن عدا ذلك، فرئيس الحكومة مطلق اليد ضمن القوانين فيما يعمل، و هو يخشى من الفشل في ارضاء المواطنين لان هذا يسبب عدم انتخابه لولاية ثانية في ظل النظام الديمقراطي الحقيقي.
ما نقترحه هنا هو "الدكتاتورية المقيدة" وليس المطلقة، و ما نعتقده هو إن هذه هي انجح طريقة في ادارة الدولة و هذا ما تعكسه تجارب العالم المتقدم، ولكن يبقى خطر الانزلاق نحو "الدكتاتورية المطلقة" امرا محتملا دائما، الانزلاق نحو الدكتاتورية المطلقة امر يجب اتخاذ كل التدابير الوقائية لمنع حدوثه و هذه التدابير تشمل:
- العناية بكتابة الدستور بطريقة ذكية، وتجميد بعض فقراته من التعديل التي يتسبب تعديلها بالتحول للنظام الدكتاتوري المطلق، على سبيل المثال فقرة تحديد عدد ولايات الرئيس المنتخب
- اعطاء الاستقلالية الكاملة للقضاء في محاسبة الجميع - حتى الرئيس - في حال خرق القوانين، واعطائه سلطة نقض قرارات رئيس الدولة في حال تعارضها مع القوانين.
- توعية الشعب بمخاطر الانزلاق نحو الدكتاتورية المطلقة، وإن الديمقراطية (او امكانية تغيير الحكام) هي نعمة يجب ان يحافظ عليها مهما كلفه الامر، وإن رئيس الدولة هو مجرد موظف بل إن جميع السياسيين هم مجرد موظفين يعملون لصالح المواطنين، ولا بأس بزرع هذه الفكرة في الاذهان منذ المرحلة الابتدائية في المدارس
- جعل العقيدة للجيش والقوات المسلحة قائمة على الولاء للوطن فقط وليس للاشخاص
- منح الحرية الكاملة للصحافة والاعلام بموجب الدستور، واعتبار حرية التعبير عن الرأي - بالخصوص في نقد الحكومة واشخاصها- امرا مقدسا
- إنشاء مؤسسة مهمتها رسم او تحديد السياسة "العامة" للدولة حسب متغيرات الظروف مشكلة من خبراء يتم تعيينها بواسطة مجلس النواب او يتم انتخابها مباشرة من الشعب وفق الية معينة، بحيث إن رئيس الدولة يتحكم فقط في التفاصيل التي تؤدي إلى تنفيذ هذه السياسة العامة ولا يستطيع ان يحيد عنها والا يتسبب ذلك في اجراء انتخابات مبكرة.
- إناطة القرارات المهمة في الدولة مثل بدء حرب او تشكيل المؤسسات او اعتماد استراتيجية طويلة الامد بموافقة مجلس النواب بعد اقتراح الحكومة
- هذه النقاط وربما غيرها اذا نفذت بالشكل الصحيح قد تحد او تمنع كليا احتمال الانزلاق نحو الدكتاتورية في النظام الرئاسي او شبه الرئاسي، ويبقى الشعب هو الحامي الاول لديمقراطيته اذا كان واعيا كفاية.