الفروق الفئوية في الذكاء
قورنت فئات متماثلة البنية، أي يفترض أن تكون ذات أصل وراثي واحد، في الذكاء، فلم تمكّن الفروق العقلية القائمة بين فئة وأخرى من اتخاذ أي حكم قاطع بصدد تأثر الذكاء بكل من الوراثة والبيئة.
وبتعبير آخر، لم يكن بالإمكان في مثل تلك المقارنات عزل العامل البيئي عن العامل الوراثي. وبنتيجة ذلك تعذر تحقيق الهدف الذي يتمثل في تحديد دور العامل البيئي في الذكاء.
أما مقارنة الفئات المختلفة البنية وذات الأصول الوراثية المتباينة، والتي تهدف الى تحديد دور العامل الوراثي في الذكاء، فتمكن بدرجة ما، من عزل العامل الوراثي عن العامل البيئي. وعلى أي حال لا بد للدراسة العلمية الصحيحة من أن تتجاوز الحدود الفئوية، وأن تميز الفروق داخل الفئة من الفروق القائمة بين فئة وأخرى. ومن المفيد والممكن معاً عدّ الفروق داخل الفئة الواحدة دليلاً جيداً لأثر العامل البيئي خاصة، وأن للفئة الواحدة أصلاً وراثياً يفترض أن يكون واحداً.
أثر المكانة الاجتماعية والاقتصادية في الذكاء
تتفق نتائج كل الدراسات على ان الذكاء يرتبط إيجابياً بالمكانة الاجتماعية والاقتصادية للفرد. تقاس المكانة الاجتماعية والاقتصادية بمجموعة إجراءات تشمل مستوى التحصيل الدراسي للوالدين ودخلهم. وبهدف كشف دور المكانة الاجتماعية والاقتصادية في الذكاء حددت معاملات الذكاء ومدى ترابطها بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي عند مختلف الفئات العرقية للسكان. تبين أن معامل الذكاء يترابط مع المستوى الاجتماعي والاقتصادي لأطفال ما قبل المدرسة السود بمقدار 0.24 وللبيض بمقدار 0.33 ولم يتخط معامل الترابط بين الذكاء والمستوى الاجتماعي والاقتصادي للأمريكيين الهنود درجة الصفر. وأجريت دراسات أخرى بهدف مقارنة متوسطات معاملات الذكاء للبيض وللسود من كل الطبقات الاجتماعية، فتوصلت الى تأكيد وجود فروق بين معاملات ذكاء مختلف الطبقات. إلا أن تلك الفروق لم تكن على درجة كبيرة من الوضوح. والأمر في جملته مشابه لمعاملات الترابط السابقة، إذ تدل تلك المعاملات على وجود ترابط ملموس بين الذكاء والمستوى الاجتماعي الاقتصادي لكن نسبة الترابط لم تتعد الجذر التربيعي للرقم 0.35 والرقم 0.30 أي أن تلك النسبة تراوحت حول الخمسين بالمئة ولم تتجاوزها. يبدو أن السبب في ذلك يرجع الى ضرورة توفر قدر محدد من الذكاء للنجاح الاقتصادي في المجتمع. وهذا القدر من الذكاء يكون مسؤولاً عن ترابط المستوى الاجتماعي والاقتصادي بمعامل الذكاء.
الفروق العرقية في الذكاء
قدمت في أواخر الستينات محاولة لايضاح الفروق بين السود والبيض في الذكاء غير أن تلك المحاولة استندت الى فرضية متحيزة لصالح البيض فتدنت نقط السود عن المتوسط كثيراً، فاقترح جنسن (1969) أن السبب قد يرجع الى الوراثة أكثر من رجوعه للمحيط، وجمع قدراً كبيراً من الأدلة الاحصائية تدعم فرضيته، ولكن الفرضية أثارت قدراً كبيراً من الجدل.
أشرنا من قبل الى عجز معامل الذكاء عن قياس المساهمات الوراثية في الذكاء عند الفئات المختلفة، ولعل ذلك هو الخطأ الأساسي في نقاش جنسن. كتب لونتين في هذا الصدد: "إذا كانت لفئتين درجة وراثية رفيعة بصدد صفة ما، وكان بين الفئتين متوسط فرقي، فهل يكون الفرق وراثياً بمجمله؟ ثمة احتمال أن الفئتين تختلفان وراثياً بسبب تاريخ سابق من الانتقاء التفريقي لنمط وراثي يثبت التباين النوعي. والاحتمال الآخر هو أن الفئتين قد تختلفان نوعياً بسبب أحداث تاريخية ترجع الى التعيين النوعي دون انتقاء تفريقي. وثالث الاحتمالات هو أن تكون الفئتان متشابهتين لكنهما تعيشان في أوساط يختلف بعضها عن الآخر ببعض العوامل الحرجة المحددة. تحدث كل تلك الحالات في الطبيعة وقد تتكرر ولا يمكن إلصاق احتمال قبلي بها. (لونتين، 1976، ص 109).
تقوم الحجة الأساسية في مناقشة جنسن، في أن اتجاه الفرق الملاحظ بين البيض والسود يكشف فرقاً نوعياً عميقاً. ولكن ليس لمسلمة جنسن هذه ما يسوغها حتى ولو تأكد وجود فروق لا يستهان بها بين السود والبيض في الصبغيات المؤثرة في معامل الذكاء. بالإضافة الى ذلك، فإن إزالة الفروق المحيطية لا يعني ببساطة تضييق الثغرة في التحصيل بين السود والبيض، وإنما قد يؤدي بسهولة الى تضييق الثغرة في الاتجاه الآخر، بحيث يتفوق السود على البيض في المتوسط. من جهة ثانية نجد منقشة جنسن خاطئة من وجهة نظر علم النفس. فالباحث يفترض أن معامل الذكاء قياس متساوي الصدق للفروق الوراثية الأصل سواء بين الفئات أو داخلها. إلا أن الروائز، وخاصة تلك التي استخدمها جنسن، تقيس الصفات المختلفة بين الفئات وليس داخلها. فروائز الثبات التي وضعها بياجه، مثلاً، تعطي تقويماً معقولاً للنمو المعرفي الإدراكي لأطفال من أوساط متماثلة. أما عندما يراز أطفال من أوساط متباينة، فإن أي فرق بين الفئات سوف يعكس النمو والوسط على السواء. بالإضافة الى ذلك لا بد من التسليم بتماثل الوسط لتحديد الفروق داخل الفئات. وعلى هذا الأساس يمكن عدّ معامل الذكاء قياساً معقولاً للفروق داخل الفئات، وذلك لتحديد أثر الوراثة والمحيط، عندما يمكن التسليم بثبات الوسط واستمراريته.
أنماط القابلية في الفئات العرقية
تقوّم روائز الذكاء مدى واسعاً من المهارات والقابليات، وتمكن نتيجة لذلك من رسم مشاخص توضح إنجاز الفرد في مختلف القياسات. يمكن في رائز فكسلر للأطفال مثلاً، مقارنة إنجاز الفرد العملي بإنجازه النظري، كما يمكن مقارنة نتائج الفرد في كل رائز فرعي بنظيرتها في بقية الروائز. يستخدم التحليل العاملي لتحديد أنماط القابليات مختلف الفئات ويساعد على اختبار الفرضية التي تدعي أن واحدة بعينها من مجموعات الروائز تتشبع بعامل عقلي واحدة يقاس بصيغ مختلفة. وتتسع الفرضية لتشمل كل الروائز أن رأى الباحث ضرورة لذلك. والمألوف أن يفترض الباحث عاملاً واحداً أو ذكاء عاماً تتشبع به كل الروائز التي تقيسه بصيغ مختلفة. كما أن بوسع الباحث افتراض عامل أو عدد من العوامل تتشبع بها مجموعات معينة من الروائز مثل روائز القدرات الطائفية والخاصة.
استخدم التحليل العاملي لاختبار ثبات البنية العاملية للذكاء في الفئات ذات الأصول العرقية المتباينة. تبين من إحدى الدراسات أن البنية العقلية واحدة عند الأطفال بين الخامسة والتاسعة بيضاً وسوداً على السواء. ولم تبتعد الدراسات الأخرى في نتائجها عن الخط العام الذي يؤكد وحدة البنية العقلية لكل فئات الناس على الرغم من أنها وجدت تبايناً طفيفاً في أنماط البنى العقلية لفئات من أصول عرقية مختلفة. والسؤال الذي يبقى معلقاً يتخطى مشكلة تشابه العوامل في مختلف الفئات متسائلاً عن بروز هذا العامل أو ذاك في هذه الفئة أو تلك. حاول أحد الباحثين الاجابة عن هذا السؤال . شمل مبحوثو تلاميذ السنة الأولى من صينيين ويهود وسود وبورتوريكيين، وتساوى عدد البنات مع عدد الصبيان في الدراسة وتوازنت العيننة في الأصل الاجتماعي الاقتصادي لكل طائفة عرقية. أعطي الصغار روائز قابلية عدلت لتلائم الخبرات الماضية لكل فئة ولتخفف من أثر انعدام خبرة الأولاد ف يالروائز ومن أثر التوافق بين الفاحص والمفحوص. وبنتيجة الدراسة وجدت فروق جدية في القابليات الأربع، المنطقية واللغوية والتذكرية والمكانية، بين مختلف الفئات كما وجدت علاقة قاطعة بين نقط المستوى الاجتماعي والاقتصادي وبين نقط الفئات المختلفة في القابليات الأربع. وتأكدت النتائج في دراسة أخرى. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين قد تحدى النتائج السابقة، إلا أننا نشعر بعدم أهمية التحدي والنتائج المترتبة عليه وذلك لصحة الدراسات الأصلية وسلامتها المنهجية.
وفي دراسة أخرى قورن أطفال السنة الرابعة الفقراء من أصول صينية وإيطالية وسود وبورتوريكيين. طلب الى الأولاد تصميم مكعبات، والتعرف على أجزاء شيء ما وفهمها، ونسخ الأشكال الهندسية، كما أعطيت لهم روائز في الطلاقة التعبيرية. تميز الصينيون في بناء المكعبات والتعرف على الأجزاء، وتميز البورتوريكيون في رائز الطلاقة اللغوية. وأجريت دراسات مقارنة بين السود والبيض في رائز فكسلر للأطفال، فتميز السود في الروائز اللفظية وتخلفوا في الروائز العملية، أما البيض الذين عيرت الروائز عليهم في الأصل فقد تساوى تحصيلهم في مجموعتي الروائز. تباين إنجاز أطفال الرابعة السود والبيض في رائز ستانفورد بينه، فارتفعت نقط السود في روائز الفهم والذاكرة ارتفاع نقط البيض في روائز الحكم والتفكير. وفي دراسة أخرى لأطفال الرابعة تم روز البيض والسود في ستة من العوامل هي الفهم اللغوي، والطلاقة الفكرية، والسرعة الإدراكية، والتفكير الصوري، ومدى الذاكرة، وذاكرة الصور، فلم يتفوق الأطفال البيض على السود إلا في روائز الفهم اللغوي. تشير الأدلة المنوه عنها الى تشابه البنية الفكرية للأطفال من مختلف الأصول العرقية، كما تشير في الوقت نفسه الى تباين مستوى الإنجاز من فئة لأخرى في هذا الرائز أو ذاك. ولا يمكن الاعتماد على الدراسات السابقة في معرفة أسباب التفوق في القابليات العقلية المختلفة أهي وراثية، أن ناجمة عن عوامل ثقافية اجتماعية صرف.
الفروق بين الجنسين
مما لا شك فيه أنهناك فروقاً كبيرة بين الصبيان والبنات في مرحلة ما قبل المدرسة تختلف أسبابها من صفة عقلية لأخرى. يبدو أن تلك الفروق ترجع الى عوامل حيوية واجتماعية متضافرة. أما منشأ تباين صفات الشخصية فربما يرجع بمعظمه الى الوسط الاجتماعي.
القدرات العقلية
يعتقد الكثيرون أن البنات أقدر على أداء المهمات اللفظية من الصبيان الذين يتفوقون عليهم في مهمات تقوم على الإدراك المكاني والفهم الميكانيكي. يؤكد ماكوبي وجاكلين اللذان جمعا وقائع ضخمة في هذا المجال، وجود فروق كبيرة في النمو اللغوي. فالبنات يبقين متفوقات على الصبيان حتى السنة الثالثة من العمر حيث يلحق الصبيان بهن وتستعيد البنات تفوقهن حوالي السنة الحادية عشرة. وفي دراسة أخرى أبدت الإناث، ومنذ سن مبكرة، تفوقاً واضحاً في القدرة اللغوية واستمر هذا التفوق مدى الحياة. وقد أوضحت الملاحظات على جميع الأطفال سواء في ذلك العاديون والنوابغ وضعاف العقول إن تكون نسبة الإصابات باضطرابات الكلام أو التأخير في القراءة أقل كثيراً عند البنات منها عند البنين. وقد أظهرت البنات تفوقاً مستمراً في روائز سرعة القراءة والألفاظ المتشاهبة والمتضادة وتكميل الجمل وإعادة ترتيبها. ربما عزي تفوق البنات في العديد من روائز الذكاء اللفظية الى القدر الكبير الذي تتضمنه في النواحي اللغوية واللفظية (انستازي، 1969، ص 605).
ليس ثمة ما يؤكد الافتراض القائل بتفوق الصبيان على البنات في قابلية إدراك المكان، إذ أن الحكم بتفوق أحد الجنسين على الآخر يصطدم بالعجز عن تحديد قابليات إدراك المكان ووسيلة قياسها. وعلى العموم، فعندما تبرز فروق الإداء في قابليات إدراك المكان بين الجنسين يتفوق الصبيان على البنات. ولقد أكد ماكوبي وجاكلين أن تفوق الصبيان على أندادهم البنات في القدرة المكانية يظهر في سن المراهقة ويستمر في سن الرشد حيث يثبت ويستقر. هذا وقد لوحظ، باستمرار، أن الذكور يمتازون دائماً في مختلف نواحي القدرة الميكانيكية. ويتفوق الذكور عادة في روائز لوحات الأشكال والصناديق المحيرة والمتاهات وروائز الحل والتركيب وغير ذلك من أنواع الروائز التي تدخل ضمن مكونات مقاييس الذكاء العملية. إلا أن الإناث أبدين تفوقاً واضحاً في اختبارات المهارة اليدوية والرشاقة والمهارة في استخدام الأصابع (أنستازي، 1969، ص 604).
أخيراً، لم يجد ماكوبي وجاكلين في مراجعتهما للفروق الجنسية في القابلية الكمية، والتفكير التحليلي والمنطق أي فرق بين الذكور والإناث إلا في المراهقة. وحتى في سن المراهقة فإن أكثر الدراسات تنفي قيام فروق جنسية كبيرة في القابليات المشار إليها. وكل ما يقال الآن هو التأكيد بنفي الفروق الجنسية في تلك القابليات في مرحلة ما قبل المدرسة.
صفات الشخصية
تشمل الفروق بين الجنسين كثيراً من جوانب السلوك وتعكس تبايناً واضحاً في صفات الشخصيتين الذكرية والأنثوية. لا شك أن التباين في صفات الشخصية بين الجنسين يرتبط ارتباطاً بالبيئة الاجتماعية. لذلك سندرس، بهدف الكشف عن الفروق الجنسية في صفات الشخصية، أثر تلك الفروق في استقلالية الإدراك واللعب والعدوانية.
وعرفت استقلالية الحقل الإدراكي بالميل لتوجيه الفرد لمحيطه المباشر في إطار دلائل تنبع من داخله، أما اتكالية الحقل الإدراكي فتعرف بالميل لاستخدام الدلائل الخارجية لتوجيه المحيط المباشر للفرد. يكون الطفل الذي ينتظر توجيهات اقرانه أو الراشدين ليؤدي عملاً ما اتكالي الإدراك، خلافاً لنظيره الذي يقوّم الموقف ويفعل ويقرر ما يراه ملائماً فهو استقلالي الإدراك. والاستقلالية والاتكالية، سمتان بارزتان في الشخصية البشرية تؤثران في الكثير من ضروب سلوك الفرد.
وضعت روائز النمط الإدراكي بالأصل للراشدين، إلا أن المحاولات الأخيرة توجهت نحو تصميم روائز لقياس تلك السمة لدى الأطفال، فوضعت روائز الأشكال المخفية لأطفال ما قبل المدرسة. تتطلب تلك الروائز من الطفل أن يجد شكلاص بسيطاً مخيفاً في شكل معقد. يفترض ان استقلالي النمط الإدراكي من الأطفال أقل ميلاً من اتكالي النمط الإدراكي للانزعاج من المهمة أو لتسليم ذواتهم للتضليل الإدراكي في الشكل المعقد. وجد، بنتيجة الروز، أن صبيان الرابعة الخامسة أميل الى استقلالية النمط الإرداكي من بنات تلك السن. ترجع الفروق المذكورة الى القوالب الفكرية السائدة والمحددة لدور الأنثى في المجتمع. يشير ميل بنات ما قبل المدرسة للاتكالية وصبيانها للاستقلالية الى أن السمة المذكورة نتاج ضرب من التعلم الشرطي المعزز.
كان أريكسون أول من لاحظ فروق الصبيان على البنات في مجال اللعب. أكد أريكسون ميل البنات للعب في الساحات الداخلية المكشوفة، إذ وضعن تصاميم تشاهب العرضات الداخلية للبيوت العربية المعروفة، أما الصبيان فكانت أبنيتهم قلاعاً وممرات متعرجة. وخاف الصبيان من تحطم قلاعهم، أما البنات فكن يخشين اجتياح الحرمة الداخلية لابنيتهن. تبدو الرمزية الجنسية في الفعاليات المشار اليها في غاية الوضوح. أما الشيء الغامض فهو أصل تلك الرمزية وسبب الفروق فيها. وفي محاولة للإجابة على هذا السؤال ، وتفسير الفروق القائمة بين الجنسين في مجال اللعب افترض بعض الباحثين خضوع اللعب عند الأطفال لإشراط اجتماعي معزز. فالمألوف أن تعطى البنات دمى وأشياء نسائية ويشجعن على اللعب بها، خلافاً للصبيان الذين توفر لهم مواد البناء والعربات والسيارات والمعاول والرفوش ويشجعون على اللعب بها. لم يلق التفسير المذكور قبولاً لدى غرامر وهوغان اللذين قدما رداً شاملاً ضد نظرية التعلم التي اقترحها أريكسون لتفسير تلك الفروق، وأكدا أن لعب الأطفال يعكس مواضيع أساسية ترتبط بفروق البنى العضوية بين الجنسين. ربما كان بعض الحقيقة في كل من التفسيرين، إذ ربما توجه اختيار الأهل لألعاب أطفالهم بإدراكهم للفروق في بناهم الجسمية. وليس تشجيع الوالدين لأطفالهم للعب بالأشياء الملائمة لأجسامهم، إلا خضوعاً لمبدأ إدراك الفروق الجسمية ولكنه خضوع يؤمن بالتعلم الاجتماعي الاشراطي المعزز.
هناك فروق أخرى ترتبط بالفروق في لعب الجنسين وتتمثل بعدوانية كل من الصبيان والبنات. تظهر الفروق بين الجنسين في العدوانية باكراً في السنة الأولى ويبدي الصبيان نزعة للعدوان والاكتشاف أشد من نظيرتها لدى البنات. تتضح تلك الفروق وتشتد في مرحلة ما قبل المدرسة التي يهتم فيها الصبي بالأشياء خلافاً لاهتمام البنت الذي يدور حول الناس. تشير الدراسات المتعددة الى أن الصبيان يصرفون من وقتهم في العدوان ضعف الوقت الذي تصرفه البنات فيه، فإن اختلفت البنت مع أحد على أمر مالت الى الخضوع أو النزاع الكلامي ولا تحاول أن تتعارك من أجل ما تسميه حقها في الشيء، أما الصبيان فالعراك سبيلهم لإقرار منازعاتهم.
يتجلى التباين في صفات الشخصيتين الذكرية والأنثوية، أيضاً، في مجال التفاعل الاجتماعي. ففي مواقف المجابهة مع الوالدين أو أي شخص آخر، يسلك الصبيان والبنات بصورة جد مختلفة، فتبدو البنات خائفات مترددات وتبدين حركات في الوجه تنم عن التوجس في حين لا يبدي الصبيان خوفاً ملحوظاً في مثل تلك المواقف ويديرون رؤوسهم ووجوههم بعيداً عن مشهد المجابهة. إن التفاعل الاجتماعي لكل من الصبيان والبنات في غاية الاختلاف والتعقيد. يرجع هذا الاختلاف الى الاشراط الاجتماعي والقولبة الفكرية الاجتماعية والى فروق البنية الجسمية لدى الجنسين التي قد تؤدي الى استعداد العضوية للاستجابة لواحدة من الصيغ الاجتماعية دون الأخرى.
أخيراً ينمو وعي الطفل لدوره الجنسي وللقوالب الفكرية الاجتماعية حول الجنس بصورة جد مبكرة. ففي نهاية السنة الثالثة يعرف أغلب الصبيان والنبات المظاهر الرئيسة للقوالب الفكرية القبلية بصدد السلوك الجنسي. ويستطيع أطفال ما دون الثالثة التعرف على صور الثياب والدمى، والأدوات وتمييز ما يستخدمه الصبيان مما تستخدمه البنات.
- بنية الأسرة
تأخذ أنماط التفاعل بين الطفل ووالديه شكلها في بداية مرحلة ما قبل المدرسة ويكون لها أثر هام في نمو شخصية الناشئ. سوف نهتم هنا، بترتيب ولادة الطفل وبغيات الوالد، وذلك لأثرهما المؤكد والعميق في شخصية الطفل عندما يبلغ الرشد.
- ترتيب الولادة
تتوفر أدلة في غاية الأهمية تبين أن الأبن البكر يختلف بعدد من الصفات عن الطفل الأخير. ترتفع نقط البكر والوحيد في روائز التحصيل والذكاء عن نقط الطفل الأخير. وفي هذا الصدد نذكر أن كل الأمريكيين الذين استطاعوا الوصول الى القمر كانوا أبكار أسرهم. ولا يزال سبب تلك الظاهرة مجهولاً على الرغم مما قيل في إيضاحها. اختيرت في إحدى الدراسات ثلاث عينات ممن أخذوا رائز أهلية المعونة القومية. سحبت العينة الأولى عشوائياً من كل الذين أخذوا الرائز وسميت بالعينة المعيارية واختيرت العينة الثانية عشوائياً من المتفوقين في الرائز وشملت العينة الثالثة كل من أخذ الرائز نفسه في واحدة من السنوات الماضية. شمل الرائز خمسة مواضيع هي: استخدام اللغة والحساب والاجتماعيات ، والطبيعيات، المفردات. حصل الطفل البكر من العينات الثلاث المتحدر من أسرة صغيرة على أرفع النقط في حين حصل الولد الأخير المتحدر من أسرة كبيرة على أدنى النقط. وتفوق الابن البكر على كل الأولاد في المهارات الحسابية.
يقترح شاختر في محاولة لتعليل ظاهرة التفوق التحصيلي عند الأولاد البكر نظرية المقارنة الاجتماعية. إنه يرى أن الولد البكر يقيس نفسه في إطار تحصيل والديه، فيغدو قوي النزعة للتحصيل المدرسي بسبب ضخامة الهوة بينه وبين والديه، الأمر الذي يدفعه لسد الثغرة واللحاق بهم. يرى باحثون آخرون أن الأهل يعاملون الولد البكر بصورة مختلفة عن الصغير، فيلقون ضغوطاً ثقيلة على البكر ويتوقعون منه الكثير. لهذا يبدي البكر سعياً دائماً للتحصيل. إلا أن شاختر، مع تأكيد التفوق الدراسي للأولاد الأبكار، كشف الكثير من سمات الشخصية الاتكالية لديهم، ووجد أن المترددين على العيادات النفسية كان أكثرهم من نوع الطفل الأول أو الوحيد وأقلهم من الأطفال المتأخرين الذين يفضلوان أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، وأن الأطفال المتأخرين في الترتيب أكثر ميلاً الى إدمان الخمور من المجموع العام للسكان، وأن الطيارين المقاتلين من الأطفال الأوائل أقل ممن عداهم شراسة في القتال. يضيف كيلي إن للترتيب الميلادي أثراً في تحديد نوع الراع على القوة عند الفرد،فالطفل الأول حين يصارع غيره على القوة لا يسلك سلوكاً من شأنه أن يؤدي الى خسارته لهم تماماً، على حين ان الطفل المتأخر يعنيه أن تكون له الغلبة، بصرف النظر عن نتائج الصراع في علاقته بالخصم.
أخيراً فإن البنات الأبكار اللواتي لهن أخوات أصغر منهن والصبيان الأبكار الذين لهم أخوة أصغر منهم يبدون درجة أقل من السعي الدائب للتحصيل والاتكالية التي تميز الأبناء الأبكار. ربما وجب على أي تعميم بصدد الولد البكر والأطفال المتأخرين في الترتيب الميلادي، أن يعدل ليأخذ بعين الاعتبار جنس الأشقاء في الأسرة، وفروق السن بينهم، وغير ذلك من العوامل. ففي الوقت نفسه الذي يبدي فيه غالبية الأطفال الأبكار التركيب الشاذ المكون من السعي الدائم للتحصيل والتعلق الشديد تبقى بقية الأشقاء والشقيقات في منأى عن تلك السمات وخاضعة لتأثيرات عديدة أخرى.
- غياب الوالد
درس غياب الوالد جيداً، لأنه افترض بأن وجود الوالد في البيت ضروري للنمو الطبيعي للأولاد وخاصة الصبيان منهم. وكما أشرنا سابقاً فإن الأثر الذي يتركه غياب الوالد عن البيت يتوقف على سن الطفل يوم يترك والده البيت، سواء أكان غياب الوالد دائماً أم مؤقتاً، وسواء رجع غيابه الى الطلاق أو الى الموت أو الى الاستقرار المالي للأسرة أو غيرها من الأسباب.
من الممتع في فحص بعض تلك العوامل مراجعة دراستين مقارنتين لأسر الملاحين في كل من النرويج وإيطاليا. أعطي الأولاد في كلا الدراستين دمى يلعبون بها، لتقويم سلوك الفحولة أو الأنوثة. واستجوبت الأمهات للغرض نفسه. أبدى أولاد البحارة النرويجيين الذين غاب والدهم عن البيت بالمقارنة بفئة ضابطة، تصرفات مفرطة في الفحولة وأنماط تعويضية، ومصاعب في التكيف مع الأقران. وذكرت الأمهات بأنهن أفرطن في وقاية الأولاد وأن لهن القليل من الاهتمامات خارج البيت. ولم تؤكد النتائج الت يحصلت من إعادة الدراسة على أبناء البحارة الإيطاليين نظيرتها لدى النرويجيين، فلم يختلف الصبيان في ذكورتهم عن الفئة الضابطة. وعلى النقيض من ذلك بدا أنا لنسوة اللواتي لم يغادر أزواجهن البيت قد أفرطن في وقاية أولادهن خلافاً للنسوة اللواتي غاب أزواجهن عن البيت. في كلا الحالين أرجع الباحثون سلوك الصبيان للأثر الذي يتركه غياب الوالد في الأم نفسها، وللسياق الاجتماعي لغياب الوالد وليس ليغاب الوالد بذاته، فالمجتمع الجنوي يخول المرأة قدراً كبيراً من الاستقلالية ويجعلها مسؤولة عن مالية الأسرة وإدراتها. إضافة لذلك فللأسرة الجنوية أسرة أعم تصل حتى الجد الثالث، وهذا ما يوسع نطاق العلاقات الاجتماعية لتلك الأسرة ويجعلها منفتحة. أما المرأة النرويجية فكانت أقل مسؤولية وأكثر اتكالية وأقل ميلاص من المرأة الايطالية للعمل خارج البيت. يعود السبب في ذلك الى أنه لم يكن للأسرة النرويجية أسرة أعم منها ولا أصدقاء كما هو الحال في الأسرة الجنوية. فمن المعقول للمرء أن يستنتج إذن، أن آثار غياب الوالد في الطفل يمكن التخفيف منها عن طريق الأم. ويتوقف الأمر على اتجاهات الأم وشخصيتها وسولكها.
الفروق الاجتماعية والثقافية
يخضع الأولاد في مرحلة المدرسة لعدد متباين من التأثيرات الاجتماعية والثقافية التي تؤدي دوراً كبيراً في تحديد أنماط تفكيرهم وسلوكهم. سوف نتناول في هذا القسم اللغة، وأنماط التعزيز، وأساليب التنشئة، على الرغم من أنه لا تتوفر لنا وقائع ذات جذور تجريبية عميقة وذلك بسبب عمومية العوالم الثقافية والاجتماعية.
الطبقة الاجتماعية والفروق في اللغة
يقوم بين علماء الاجتماع نزاع حول معاني فروق الطبقات الاجتماعي في اللغة. هناك أولاً الذين يدعون أن لأبناء الطبقة الدنيا مهارات لغوية مختلفة عن نظيرتها لدى أبناء بقية الطبقات. ويعتقد برنستين أن أبناء الطبقة الدنيا يتواصلون بمعونة رمزية محددة تنقلها الاشارات غير اللغوية، وذلك خلافاً لأبناء الطبقتين المتوسطة والعليا الذي يستخدمون رمزية متقدمة تمكن من نقل كل مضامين الحوار لغوياً. ويضيف برنستين أنا لفروق اللغوية تؤدي الى توجهات متباينة تشمل بقية جوانب الحياة، مثل التربية والعمل والعلاقات التبادلية وسواها. فاللغة برأيه تشكل التعامل الاجتماعي وتؤطره.
توصل الباحثون في الولايات المتحدة الذين اقتفوا خطوات برنستين في بريطانيا الى النتائج ذاتها. سئلت أمهات الطبقتين الدنيا والوسطى عدداً من الأسئلة مثل "دعينا نتصور أن أبنك على وشك دخول المدرسة أول مرة فكيف تعتقدين أنه يتوجب عليك إعداده لذلك؟ من الإجابات:
أذهب أولاً وأعاين مدرسته وسوف أتحدث عن البناء ثم نرى المدرسة، وأخبره بأنه سوف يقابل أطفالاً جدداً يمكن أن يكونوا أصدقاءه، وأنه يمكن أن يلعب معهم ويعمل. وسأوضح له أن المعلم سيكون صديقاً له، وسيساعده ويوجهه في المدرسة وأن عليه أن يطيع المعلم الذي سيكون كأمه في غيابتها.
حسناً، سأخبره أنه ذاهب للمدرسة وأن عليه أن يجلس ويهتم بالمعلم وأن يكون صبياً طيباً، وسأريه كيف يسلك عندما يعطونه الحليب وكيف يفترض أن يأخذ الماصة وإلا يضع شيئاً على الأرض عندما ينتهي (هس، 1968، ص 96).
واضح أن الأم الثانية التي تتحدر من الطبقة الدنيا تحدثت في إطار الأوامر العامة في حين أن الأم الأولى المتحدرة من الطبقة الوسطى قد تحدثت في إطار التعليمات الإيضاحية حول قواعد المدرسة وضرورة إطاعتها. وحين سئلت الأمهات أن يسندن الى أولادهن بعض المهام مثل فرز الأشياء بحسب لونها، مالت أمهات الطبقة المتوسطة لإعطاء بناتهن إيضاحات كاملة، خلافاً لأمهات الطبقة الدنيا اللواتي ملن للقول بمنتهى البساطة "ضع هذا هنا أو هذا هناك" دون أي إيضاح آخر. وخلص الباحث الى القول:
… بأن المجال الإدراكي للبيئات الاجتماعية المختلفة يهيئ لتوجيه السلوك بالأوامر وليس بالالتفات الى المميزات الفردية لموقف معين، وهو مجال لا تتوسط السلوك فيه أية دلائل لغوية توفر الفرص لاستخدام اللغة كأداة لترميز الأشياء وتصنيفها وترتيبها، أو لتعديل المثيرات الخارجية. بالإضافة الى ذلك يفتقر الوسط الإدراكي للبيئات الاجتماعية المتخلفة الى تعليم يربط الحوادث الواحد بالآخر، والحاضر بالمستقبل. والحرمان في البيئة الاجتماعية يتجلى، أو ما يتجلى، بالحرمان من المعاني وذلك في العلاقات الادراكية المبكرة بين الأم والطفل (هس 1968، ص 103).
لقيت وجهة نظر برنستين وأنصاره التي ترى أن الفروق الطبقية ذات تأثير حاسم في النمو اللغوي للطفل اعتراضاً كبيراً من بعض علماء النفس. يعتقد هؤلاء العلماء أن لغة أبناء الطبقة الدناي السود والبيض على السواء ليست محدودة بل مختلفة. من جهة ثانية أبدى متحدثو الإنكليزية السود الدرجة ذاتها من الغنى والتنوع اللغوي الذي أبداه أندادهم البيض. ومن الصعب على الباحث تعميم نتائج بعض الروائز اللغوية التي تظهر تفوق أبناء الطبقة العليا في هذا المجال على أساس أن أبناء الطبقة الدنيا، السود منهم خاصة، يصابون بالإحباط السلوكي في الموقف الروزي. أما في الشارع أو في المواقف المريحة أو مع الأصدقاء فإن السوديعبرون عن مختزن لغوي ضخم، وتختلف التراكيب اللغوية والمفردات لديهم عن نظيرتها لدى أبناء الطبقة المتوسطة، غير أن لغتهم تبقى شأن لغة أندادهم معقدة في بنيتها وحافلة في مفرداتها.
ثمة دراسات عديدة تدعم الموقف الرافض لوجهة نظر برنستين وأتباعه. وكما لاحظنا من قبل، فإن العديد من الدراسات التي أجريت على أطفال ما قبل المدرسة من الطبقة الدنيا المعرضين لما أسماه برنستين بالحرمان الثقافي واللغوي قد أجريت في ظروف تشجيعية، كان الصغار فيها على ألفة بالفاحص وبالموقف الروزي عامة وقد وجد أن معامل ذكاء هؤلاء قد تحسن عما كان عليه سابقاً. لا بد إذن من أن يؤخذ الموقف الروزي بعين الاعتبار عن دتقويم الفروق الطبقية في اللغة لأطفال ما قبل المدرسة.
الفروق الاجتماعية والثقافية في أنماط التعزيز
يؤكد علماء النفس المعاصرون أن هناك فروقاً كبيرة في أنماط التعزيز والعقاب التي تمارسها الفئات الاجتماعية المختلفة. قامت فيشباخ (1973، ص 107) وأعوانها بدراسة شاملة لهذا الموضوع فطلبت من مجموعة من الأمهات من فئات اجتماعية مختلفة تعليم أبنائهن حل سلسلة من الألغاز. قيس التعزيز بتعداد العبارات الايجابية والسلبية التي تطلقها الأم خلال فترة الشرح دون أن تحسب العبارات الحيادية. شملت الملاحظات الايجابية عبارات مثل: "هذا صواب" ، "نعم"، و "جيد"، أما الملاحظات السلبية فشملت عبارات مثل: "ليس كذلك" ، و "هذا خطأ"، و "لا أرى ذلك".
أظهرت دراسة فيشباخ وأعوانها أن أمهات الطبقة الوسطى البيض أكثرن من استخدام عبارات التعزيز الايجابي بالمقارنة مع أندادهن من أمهات الطبقة الوسطى السود. أما الأمهات من الطبقة الدنيا السود والبيض فقد استخدمن القدر نفسه من عبارات التعزيز الايجابي. وقد استخدمت الأمهات السود من الطبقة الدنيا عبارات تعزيز سلبي أكثر من جميع الفئات. عمدت فيشباخ من أجل التحقق من صحة نتائج الدراسة الى سؤال أطفل مرحلة ما قبل المدرسة لتلك الأمهات أن يعلموا طفلاً أصغر منهم كيف يحل لغزاً بسيطاً، فحصلت الباحثة على النتائج نفسها.
تعتقد فيشباخ أن الأهل في الطبقة الدنيا يعانون، بسبب وضعهم المالي من الحرمان والمرض والضغوط العامة أكثر من الأهل في الطبقة المتوسطة. فأهل الطبقة الدنيا الذين يجهدون لتأمين لقمة العيش يتعرضون لضغوط يومية ومطالب لا تحل بالأهل في الطبقة المتوسطة. ونحن نتوقع، في ظل تلك الشروط، أن يكون الأهل في الطبقة الدنيا أقل تسامحاً وأكثر انتقاداً لأخطاء أولادهم من غيرهم، فالشروط الاقتصادية التي تعانيها الأسر في الطبقة الدنيا قد تدفع الأسر لاستخدام المزيد من التعزيز السلبي وذلك خلافاً لأسر الطبقة المتوسطة والعليا.