:
“محمود أمين العالم” كاتب مصري يساري وناقد أدبي كبير.. ولد في حي الدرب الأحمر في القاهرة عام 1922.. درس الفلسفة في جامعة فؤاد الأول، (جامعة القاهرة)، وقد أنضم في فترة شبابه إلى “الحزب الشيوعي المصري”، ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراة، وقد التحق بالعمل في مجلة (روزاليوسف)، وفصل من عمله في 1954 مع عدد من الصحافيين اليساريين والشيوعيين، واعتقل مرات عديدة في وقت حكم “جمال عبدالناصر” و”أنور السادات”، سافر إلى باريس في فترة حكم “السادات”، حيث عمل مدرساً للفكر العربي المعاصر في إحدى الجامعات بباريس.
حياته..
في حوار مع “محمود أمين العالم”، نشر في صحيفة (الاتحاد الاشتراكي) المغربية، يقول عن حياته: “أنا صعيدي، مصري، عربي، أممي. أنا من سوهاج، من الصعيد، من الجنوب العنيد الصعب. أنا الآن في السبعين من عمري، وهذه السبعين سنة، قضيت 50 منها في خضم الحياة السياسية والثقافية، وفي البحث عن طريق لبلدنا مصر وللأمة العربية. قضيت حياتي كلها بالقاهرة، في حي شعبي هو حي درب الأحمر، (حي الأزهر). دراستي الإبتدائية كانت بمدرسة القيربية، ثم بمدرسة النحاسين التي كان يدرس معي فيها الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان يسبقني بثلاث سنوات. ثم مدرسة الحلمية الثانوية، ثم دخلت الجامعة (قسم الفلسفة). في الحقيقة، فمنذ البداية لم أكن طالباً منتظماً، لأنني كنت أعمل في أعمال عديدة، مثلاَ اشتغلت حارساً للمخازن في وزارة المعارف، ثم أمين مخزن في كلية الآداب. ثم بعد حصولي على الإجازة في الفلسفة، أشتغلت كمترجم وكمنظم محاضرات، فأمين قسم الجغرافيا. وبعد ذلك، حين حصلت على الماجستير في فلسفة العلوم عينت مدرساً مساعداً. لكن بسبب رسالة جامعية، وقع لي تحول هام وجذري في حياتي. فأنا كنت مثالياً لدرجة كبيرة، (هيجيلي، برغسوني، كانطي).. وكنت أحاول أن أبرهن على الأساس المثالي الذاتي للفيزياء المعاصرة. لكن وأنا في المراحل الأخيرة لبحثي، أي فترة القرن 19، فترة (بيرغسون) بإنكلترا و(دوهايم) في فرنسا و(ماخ) في ألمانيا، أكتشفت كتاباً حول (المادية الجدلية) لرجل اسمه (إليش لينين)، فقلت في نفسي: لأطلع عليه لتكوين صورة شاملة عن الموضوع. فإذا بهذا الكتاب يهز كياني بالكامل. وبدلاً من أن أنهي بحثي بعد ثلاثة أشهر، أمتد الأمر لثلاث سنوات كاملة. وتغيرت الرسالة بكاملها من بحث حول: (المصادفة في الفيزياء الحديثة) إلى: (المصادفة الموضعية). هكذا، بعد أن وجدت أن الماركسية هي المنهج الصحيح للتفكير، غيرت الرسالة، ثم بعد إقتناعي بأنها المنهج الصحيح للنضال، أنضممت إلى الحركة الشيوعية المصرية، ولأنني أتخذت هذه المواقف جميعها، فقد فصلت من الجامعة. فكانت تلك بداية لحياة مليئة بالأحداث والحركة”.
ويواصل: “حين فصلت، أشتغلت مدرساً للغات: عربية، فرنسية، إنكليزية، في بعض المدارس الحرة، وكذا في بعض المنازل، إلى أن دخلت مجلة (روزاليوسف) سنة 1955 كصحافي، كنت حينها محرراً سياسياً وثقافياً. في تلك الفترة، أتصل بي السادات، وكان ذلك أول لقاء بيننا، (بالمناسبة التقيته طيلة حياتي ثلاث مرات لاغير، وكانت دائماً لقاءات عاصفة). في لقائنا ذاك دعاني للمشاركة في جريدة أسست اسمها (التحرير)، وذلك قبل العدوان الثلاثي مباشرة. لكن اكتشفت أن الخطة كانت أن أستبعد من (روزاليوسف). فجاء عدوان 56، ثم الوحدة مع سوريا سنة 1957، وكنا كشيوعيين مصريين مع هذه الوحدة، لكن مع تسجيلنا لبعض النقائص فيها، خاصة موقفنا من أجل الديمقراطية. وأذكر أننا أصدرنا حينها بياناً عرف باسم بيان (فريد وسيد).. فريد هو أنا، وسيد هو عبدالعظيم أنيس.. البيان يؤيد الوحدة ويؤكدها، لكن كان يدعو إلى تعميقها جماهيرياً. لكن في 1 – 1 – 1959، كنا جميعاً في السجون متهمين بمعاداة القومية العربية، ولم يكن الأمر سجناً في الحقيقة، فقد نقلنا من الإسكندرية إلى الواحات، إلى (أبو زعبل)، إلى معتقل (القلعة)، فكانت فترة للي رقبتنا الإيديولوجية. مر السجن، فخرجنا سنة 1964. وكانت حقيقة تجربة خصبة، حيث جمعنا السجن بالإخوان المسلمين وبعتاة المجرمين، الذين كان البعض منهم على قدر كبير من الإنسانية، بعد خروجي من السجن، عينت محرراً أدبياً في مجلة (المصور)، ثم نقلت إلى منصب رئيس إدارة مجلس هيئة الكتاب، ثم رئيس إدارة المسرح، ثم رئيس إدارة جريدة (أخبار اليوم). وخلال هذه الفترة، التقيت الرئيس جمال عبدالناصر؛ الذي سألني إن كنت أحس بالمرارة، فكان جوابي أن الإحساس بالمرارة كان في إفتقاد إمكانية تقديم خدمة لبلدنا. فرشحني لحزب سري كان داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، وكان يسمى (طليعة الإشتراكيين)، وقد أقامه عبدالناصر كقوة عصب توجيهية داخل الاتحاد على طريقة التجربة اليوغسلافية. فتم إختياري عضواً في هذه الطليعة، لكنني كنت دائماً عضواً مشاغباً، وكنت أكتب باستمرار لجمال عبدالناصر إنتقادات عديدة، ففوجئت به يوماً يعينني في الأمانة العامة لهذه الطليعة، كنا حوالي خمسة، ستة أعضاء ولم يكن بيننا السادات في هذه الأمانة. (…) كان علي أن أنخرط في حركية التاريخ”.
كتابة الشعر..
يقول “محمود أمين العالم”، في نفس الحوار: “ثم عندي عيب آخر هو الشعر، فأنا لي ديواني شعر، وعندي أربعة آخرين لن أنشرها. الديوان الأول اسمه: (أغنية إنسان)، والثاني عنوانه: (قراءة لجدران زنزانة)، لأنه حين دخولي زنزانة بسجن القلعة وجدت حائطها مليئاً بكتابات من سبقني. فجلست وقلت لنفسي: “الإنسان مكتوب على الحائط”، فبدأت أقرأ الجدران بقصد وإصرار، فكانت النتيجة قصيدة كبيرة، هي التي أسميت بها ديواني. وأنا هنا أحب أن أؤكد أنني لست شاعراً جيداً. فأنا شاعر أقرب إلى الفقيه، منه إلى الشعراء، فهو شعر فقهاء إن جاز التعبير. لكن القصة الطريفة التي وقعت لي هي صدور ديواني الأول. ذهبت عند بائع للجرائد كنت آخذ من عنده جرائد الصباح، وكان يعرفني، فقال لي ملوحاً بديواني: “ديوانك أهوه يا أستاذ محمود.. ديوان إيه يا أستاذ، احنا موش عاوزين منك ديوان شعر، إحنا عاوزين منك كتاب ضد الحكومة”. فهم إذاً لا يريدون أن تكون لي حياة شخصية، بل يطالبونني بموقف عملي، وهو شيء جميل، لكنه كذلك يترك في النفس إحساساً من نوع خاص. لذا فالشعر ركن خفي في حياتي. إذاً، فبين العلم والثقافة والسياسة والشعر أعيش هذا التناقض”.
النقد..
يقول الكاتب “فخري صالح”، عن نقد “محمود أمين العالم”: “تبدو مساهمة محمود أمين العالم في نقد السرد في كتابيه (ثلاثية الرفض والهزيمة) 1985، و(أربعون عاماً من النقد التطبيقي) 1994، مشغولة بإعادة النظر في بعض المفاهيم التي حكمت ما يسمى في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، “النقد الواقعي”، إنطلاقاً من بعض التصورات الماركسية للفن ووظيفته وعلاقته بالواقع. وعلى رغم أن “العالم”، بما أثاره كتابه (في الثقافة المصرية) 1955، والذي أشترك في كتابته مع الراحل “عبدالعظيم أنيس”، ينتمي إلى تيار في النقد الواقعي يلح على مضمون الكتابة، مهملاً شكل هذه الكتابة، أو بالأحرى بحثها داخل الشكل عما يغني تجربتها التعبيرية، إلا أنه في كتاباته النقدية، خلال سنوات عمره الأخيرة، يتنبه إلى أن الشكل في الفن ليس شكلاً خالصاً، بل هو جزء من المعنى لا يمكن النظر إليه بصفته وعاء يحتوي المعنى داخله. ويمكننا أن نعثر في كتابه (أربعون عاماً من النقد التطبيقي: البنية والدلالة في القصة والرواية العربية المعاصرة)؛ على أشكال من الممارسة النقدية تتراوح بين القراءة المضمونية الخالصة، والقراءة التي تنتقل من الحديث عن المضمون إلى الحديث عن الشكل، ثم تعود إلى التشديد على مضامين العمل ووظيفة النص في الواقع، وعلاقة ذلك كله بالطبقة الاجتماعية والنضال من أجل تحقيق العدالة. لكن البارز في الكتاب الذي يجمع كتابات “محمود أمين العالم”، التي تنتمي إلى مراحل زمنية مختلفة، هو التفاوت الصارخ بين مستويات التحليل بين الكتابات التي تنتمي إلى الخمسينيات والكتابات التي تنتمي إلى الثمانينيات على سبيل المثال. ولعل مقارنة ما كتبه عن “يحيى الطاهر عبدالله” و”حيدر حيدر” و”صنع الله إبراهيم” و”إبراهيم أصلان”، بما كتبه عن “يوسف إدريس” و”حنا مينا” و”غسان كنفاني” و”غادة السمان” و”سهيل إدريس”؛ توضح كيف تطور فهم “محمود أمين العالم” للعمل الأدبي وعلاقة الشكل بالمضمون من خلال إطلاعه أثناء وجوده في فرنسا خلال حقبة السبعينيات على التيارات النقدية الجديدة ونظريات السرد، التي كانت في ذلك الوقت في أوج إزدهارها في الحياة الثقافية الباريسية، وقد ظهر أثر هذا الإطلاع في ما كتبه من نقد للروايات المصرية والعربية، ولكنه كان بارزاً أكثر في كتابه الذي كرسه لدراسة ثلاث من روايات “صنع الله إبراهيم” وعنونه إستناداً إلى عدد الروايات التي تناولها بالدرس والنقد بـ(ثلاثية الرفض والهزيمة)”.
ويضيف، ” فخري صالح”: “يتحرر “العالم” في نقده الثمانيني والتسعيني، قليلاً، من النزعة التعليمية التي سادت نقده في الخمسينيات ومنتصف الستينيات. وهو يؤمّن في قراءاته المتأخرة بحرية الكاتب في أن يأخذ نصه الوجهة التي يريد، وإن كان لا يستطيع أن يتحرر بصورة تامة من وظيفة الناقد – الموجه الذي يعترض على فكر الكاتب وطريقة نظره إلى الأمور في نصه الروائي أو القصصي. في (ثلاثية الرفض والهزيمة: دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله ابراهيم: تلك الرائحة، نجمة أغسطس، اللجنة)؛ يقدم “محمود أمين العالم” نقداً صحيحاً للمعالجات البنيوية، أو ما يدعوه هو بالهيكلية، في حقل دراسة النصوص الأدبية. وأظن أن إصطفاءه لأعمال ثلاثة من منظّري الأدب، هم: “هنري ميشونيك” و”ميخائيل باختين” و”يوري لوتمان”، ذو دلالة واضحة على ميله للمنهج الاجتماعي في دراسة الأدب، أو على الأصح على تفضيله المنهج الذي يهتم بوظيفة الأدب ودراسة علائقه بالمجتمع ووسط الإنتاج. إن مقدمته تغفل تيارات عدة داخل البنيوية، بل تتناسى مساهمات أساسية فيها، هي في الحقيقة محاولات لإيجاد صيغة وسيطة بين القراءة الداخلية للنص وقراءة علائق النص بوسط إنتاجه، وتندرج في هذا الإطار مساهمات “بيير ماشيري” و”غوليا كريستيفا” و”تيري ايغلتون” و”فردريك غيمسون”. وعلى رغم هذا الإغفال، فإن بحث “العالم” عما يسميه “الصيغة السعيدة بين الإهتمام في الشكل والإهتمام بالمضمون”؛ هو نتيجة أساسية لوعيه بالإشكالية التي تسيطر على أفق تطور النظرية الأدبية المعاصرة وتنوء بثقلها على الممارسات النقدية في العالم المعاصر. المهم في هذا السياق هو الكيفية التي يوفق بها “محمود أمين العالم” بين سبره الغوري لأعماق النص وعمله على إستخلاص دلالات اجتماعية للنص من دون التقيد بحرفية النظرية الأدبية التي يدعو إلى نسيانها عند العمل على تحليل النص”.
ويقول عنه الكاتب، “جهاد فاضل”: “محمود أمين العالم يتابع عمله في إطار النقد ليصبح ناقداً أدبياً كبيراً وخطيراً له منهجه، وذلك لأنه من القليلين الذين يملكون نظرية متكاملة في المعرفة تجمع بين النقد والإبداع الفني والدراسة الأدبية والفكر والسياسة والثقافة. كان “محمود أمين العالم” يرى أن المعمار الفني في العمل الأدبي يصبح جميلاً جمالاً أدبياً عندما يتحقق فيه الإتساق والتآزر بين الصورة والمادة، أي بين المضمون الأدبي الذي هو عبارة عن أحداث داخل العمل الأدبي، وبين المواقف والوقائع الاجتماعية المعيشة”.
المثقف والسلطة..
عبر حوار مع “محمود أمين العالم”، أجراه “سراج محمد”، لصالح موقع (الحوار المتمدن)، يعبر عن رأيه في العلاقة بين المثقف والسلطة، يقول: “المثقف والسلطة في حالة صراع دائم، وأي مصالحة تعنى نهاية المثقف. أو دخوله في أروقة التبعية والطاعة العمياء، لأن السلطة بالطبع لا يمكن أن تقبل الإنصياع له. وينشأ هذا الصراع من إختلاف الرؤى، فرؤية المثقف هي رؤية مستقبلية أو هي استراتيجية عكس السلطة التي تكون رؤيتها آنية، فهي تسعى للبحث عن مشروعيتها من خلال تثبيت الواقع وتكريسه. وهي في هذا الطريق تسعى إلى كسب المثقف إلى جانبها، لذا لزم أن نفرق بين سلطة الثقافة وثقافة السلطة. الأولى ما يسعى المثقف إلى تأكيدها، والأخرى ما تتضمنه السلطة داخلها من مثقفين يعبـرون عن وجهة نظرها سواء عن إقتناع أو لمجرد النفاق والإنتفاع. والمثقف الحقيقي ينبغي أن يكون مستقلاً عن السلطة وغير معبـر عنها، لكنه في ذات الوقت يمكن أن يعمل داخلها ويكون مختلفاً عنها، حتى في الحدود التي تمنحها له ـ أو على الأقل لا يكون في رؤيته للعالم أو في سلوكه الفكري والعام متناقضاً مع ما يؤمن به، أو تابعاً لما تمليه عليه السلطة”.
وعن سلطة التراث ورأيه في القطيعة المعرفية مع الماضي، يقول “محمود أمين العالم”: “أنا لا أعترف بوجود ما يسمى بالقطيعة المعرفية، تلك الجملة التي قالها (باشلار) في علوم الطبيعة، ورفضت هذا المفهوم تماماً، لأنني أستطيع أن أبـرز ما هو مشترك بين أي مرحلتين. أنت تتكلم عن القطيعة المعرفية بشكلها العدمي، وهي مستحيلة الحدوث، لكني أعرفها كتجاوز لما هو قائم. وهذا التجاوز يحمل داخله ما هو قائم بالفعل، بل ويرتفع به إلى مستوى أعلى. وهو ما قاله (هيجل) في كلامه عن الأفكار ومراحلها، (من الموضوع إلى النقيض إلى المركب بينهما)، وبعضهم يظن أن هذا المركب هو مجموع الإثنين ـ الموضوع ونقيضه ـ لكنه على العكس هو ناتج الصراع بينهما. ولا يمكن للمثقف إذاً أن يكون فاعلاً إلا إذا أستوعب تراثه وتمثل هذا التراث في محاولة لتجاوزه، نحن نحتاج إلى المثقف الذي يرى الواقع رؤية موضوعية وتاريخية وسياقية، أي يرى الواقع برؤية محايدة، (موضوعية)، ومن خلال حركة التاريخ ـ لا كلحظة منفصلة ـ وفي إطار السياق العام أيضاً”.
اليسار..
عن رأيه في “اليسار” في وقت إجراء الحوار، وهل يمر بأزمة مثلاً، يقول “محمود أمين العالم”: “أشير بداية إلى أن اليسار لا ينطبق على الماركسية وحدها، كما أعتدنا التعامل معه، لكنه موجود كطريقة للتفكير في إتجاهات مختلفة، في التيار الديني مثلاً، نجد يساراً إسلامياً ـ أو ما شابه ذلك ـ على مختلف المراحل، من “القاضي عبدالجبار” الذي يفسر الأشياء بموضوعية وعقلانية برؤية علمانية تتكلم عن ما هو مباشر وواضح من الأسباب إلى محاولات حديثة لدى “محمد عبده” و”خالد محمد خالد” والشيخ “علي عبدالرازق” و”نصر حامد أبو زيد”، الذي أرى أنه خلاصة التراث الديني وأكثر من أستوعب هذا التراث. وهناك قومية أو “قومجية” كما أحب أن أسميها، تدعى وجود (أمة واحدة ذات رسالة واحدة)، وبشكل دمجي وتعسفي، لكن في مقابل ذلك توجد رؤية قومية ترتبط بالعصر بشكل عقلاني يمكن أن نعتبـرها قومية يسارية وموضوعية. الليبـرالية أيضاً منها الوطني، الذي لا يتبع النظام الرأسمالي العالمي ـ مباشرة ـ لكنها حريصة على البناء المجتمعي، وإلا ماذا نسمي “طلعت حرب” مثلاً، ولكن هذه الظاهرة بدأت تختفي وتنتهي لدى رجال المال ـ وليس رجال الأعمال ـ حيث أن أساس التوجه لديهم هو الكسب بعيداً عن أي مصلحة عامة. هكذا فإن هناك العديد من التيارات ذات الطابع العلمي والموضوعي للواقع ورؤيتها للتغيير جيدة، وهي بذلك تدخل في إطار مفهوم “اليسار”، أما إذا تكلمنا عن الرافد الرئيس لليسار ـ حسبما أعتقد ـ وهي “الماركسية”، فهي أفضل ما تعامل مع الواقع بعقلانية وبشكل نقدي. والفكر الماركسي يرى الواقع بروية “مادية جدلية”، وأنا أفضل أن أسميها الفكر “الإشتراكي العلمي”، ولا أنسبها إلى “ماركس”، فهي أكبر من أي شخص، لكونها في حالة تطور دائم ومستمر”.
ويواصل: “اليسار بكل هذه الفروع ـ وليس الماركسية فقط ـ في إشكال أو هي بالتحديد أزمة، فالقومية الموضوعية الآن تواجه مشاكل عديدة، والفكر الديني العقلاني يتراجع نتيجة لهذا القمع والمصادرة، والليبـرالية الوطنية تفقد خصوصيتها، وتتحول من ما يسمى بالتكيف الهيكلي مع النظام الرأسمالي العالمي. اليسار عامة في حالة أزمة وأعتقد أنه النهاية لهذه المشاكل لأنها نتيجة طبيعية للعولمة، تلك التي أفرزها الواقع العالمي، فهي إمتداد للرأسمالية التي نشأت على مبدأين أساسيين (التوسع والتنافس)”.
وحشية العولمة..
عن “العولمة”، يقول “محمود أمين العالم”: “بعدما سادت الرأسمالية العالمية وسيطرت وقمعت كل من يعاديها، جاءت العولمة التي هي أعلى صورة تستخدمها الرأسمالية العالمية ذات الطابع الإمبـريالي، بعد إنفراد هذا النظام بالعالم وأسواقه، وبعد تفكك التجربة الإشتراكية السوفييتية، أيضاً حدث ذلك في ظل الثورة المعلوماتية الهائلة التي نعيشها الآن، وما يتم من هيكلة العالم وتشكيله والهيمنة عليه، على الرغم من تعدد أنماط الرأسمالية، إلا أن العالم كله قد تهيكل في إطارها. وهناك ميزة هامة أيضاً، أن العالم قد توحد، لكنه توحد شراً، من خلال الهيمنة التي تقودها ثماني دول على الأكثر، فالهيمنة ليست أميركية خالصة، بل أنها لن تنتهي بنهاية أميركا ـ التي لابد تاريخياً من نهايتها ـ بل ستستمر “العولمة” كظاهرة موضوعية إلى أن يحدث تغييراً آخر لا نعرفه الآن. وعندما أتكلم عن أنماط الإنتاج التي تتحكم فيها العولمة وتحددها، فلا أعني الاقتصاد فحسب بل الإنتاج الفكري والسياسي والإعلامي والفني وغيره. فالعولمة هي محاولة تنشيط العالم بما يتفق مع الرأسمالية العالمية، من خلال أدوات عديدة منها حلف “الناتو” وأجهزة الأمم المتحدة وأجهزة الإعلام الكبرى وغيرها”.
ويضيف: “لكن أيضاً هناك صراع حاد بين هذه الدول، (صاحبة إختراع العولمة)، حول كل شيء، وذلك يرجعنا مرة أخرى إلى الطابع التنافسي للرأسمالية، وجوهر هذا الصراع اقتصادي، وإن إتخذ أشكالاً مختلفة. نهاية البشرية هذه العولمة هي الأشد خطراً على الحضارة الإنسانية، وعلى الرأسمالية نفسها ومن خلال العديد من المظاهر: “التلوث ـ الأزمة الأخلاقية ـ إنتشار الأمراض ـ روح الربحية المسيطرة ـ دعارة الأطفال ـ صناعة السلاح” التي تستخدمها أميركا لإدارة أزمتها، هذه العولمة خطر على البشرية ككل، فلا يوجد الآن شمال متحضر وجنوب متخلف لكن القضية موحدة، ولا أحد ضد العولمة لذاتها. لكننا ضد الهيمنة، والقضية هي كيف نحول العولمة من الشراسة وسيطرة روح الهيمنة إلى عولمة إنسانية، تستفيد من تعدد الخبـرات وأشكال التفكير، وتحترم الخصوصيات وتقوم على المشتركات الإنسانية وليس الهيمنة”.
ترك “محمود أمين العالم” عدة مؤلفات مهمة، ومنها: (الإنسان موقف)، (معارك فكرية)، (فلسفة المصادفة)، “طهربرث ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود)، (الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي)، (مفاهيم وقضايا إشكالية)، (الفكر العربي بين الخصوصية والكونية)، (مواقف نقدية من التراث)، (الإبداع أو الدلالة)، (من نقد الحاضر إلى إبداع المستقبل)، (الثقافة والثورة)، (تأملات في عالم نجيب محفوظ)، (الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر)، (البحث عن أوروبا)، (توفيق الحكيم مفكرًا وفنانًا)، (أربعون عامًا من النقد التطبيقي)، و(ثلاثية الرفض والهزيمة).
توفِّي “محمود أمين العالم”، في عام ٢٠٠٩، وقد تجاوز عمر الثمانين.
حوار مع محمود أمين اعالم
حوار آخر