من الذاكرة “صاحب الضويري” في ذكراه الحادية عشر 1996
مرت الحياة العراقية في تسعينيات القرن الماضي بظروف بالغة الصعوبة ، حيث تداعيات الحروب الهمجية وماخلفته من آثار نفسية خطيرة ، اضافة الى ماكنة الحصار التي كانت تفتك بأرواح وثروات العراقيين ، والتي القت بظلالها المعتمة على العديد من مظاهر الحياة العامة ، الاّ ان تلك الظروف الصعبة لم تنل من ارادة المخلصين لرسالة الثقافة من ادباء” الديوانية” ومثقفيها في محاولاتهم النبيلة وسعيهم المخلص لاضاءة مساءات المدينة بعدد من الفعاليات الثقافية المهمة والجريئة ، التي كانت بمثابة مواجهة حقيقية لماكنة السلطة الاعلامية الرامية الى تسطيح الوعي واشاعة التعبوية الفارغة في مفاصل الثقافة العراقية .
ففي عام 1996 وبعد مرور احد عشر عاما على رحيل الشاعر (صاحب الضويري 1947 ــ 1985) تدارس عدد من ادباء “الديوانية” ـ أبرزهم الشاعرين علي الشباني وكزار حنتوش وكاتب السطورــ امكانية اقامة استذكار كبيرله ، لما لهذا الشاعر الراحل من تجربة مميزة ومكانة مضيئة في خارطة الشعر الشعبي العراقي ، وهو ماتحقق فعلا في صيف ذلك العام ، حيث شهدت قاعة المكتبة العامة في المدينة حضوراً كبيراً لافتا للنظر ، كشف عن حاجة الجمهور لمساحة من الضوء تنيرعتمة ايامه ، وكذلك منزلة هذا الشاعر وارثه الشعري لدى اهل المدينة ومثقفيها ، تناوب على تقديم الامسية الشاعر “علي الشباني ” وكاتب السطور الذي جاء في دراسته المستفيضة عن تجربة “الضويري” ( ان اهم مايميز تجربة الشاعر الضويري هي انها ولدت تجربة ناضجة ورصينة ، على عكس التجارب الابداعية التي عادة ماتولد متعثرة ، لاتكتمل وتستقيم الا بعد شوط من الجهد والمران والمثابرة وهذا ماجسدته قصيدة ” متعوب ” التي تعد من بواكير شعره حيث نلمس عناصر النضج والاكتمال مجسدة في قوة وتكامل بناؤها الفني اضافة لخصوصية مفردتها :
بدت بيّه بلاوي اتعارج الحيل واهو ياحيل ظل وبيه اماطل
لون وكتي اجاني امشرعب الخيل ارد أضحك وأكولن وكتي جاهل
كما نكتشف هذه الهوية الشعرية في معظم قصائده المبكرة ، حيث عنصر الدهشة الذي يسود ويستوقفك في مفاصل كثيرة من تلك القصائد :
آنه ذاك الباعك ومارد شراك سلمك بيد الوكت وسنينه
آنه عزرايين لو رادك لكاك ومنهو ضم روحه على عزرايينه
آنه كارط ملحتك عارف هواك آنه عارف هرشك بيا طينه
آنه دمعي واللبن والليل ذاك تالي حسوة ماي ماتطينة )
ثم تناول الشاعر ” علي الشباني ” جانبا من ارث “الضويري ” الشعري وهوماكتبه الشاعرفي حقلي “الابوذية” و”الموال” مشيرًا الى انه استطاع في الابوذية بث همومه ومعاناته بصور فائقة في تعبيرها وجمال مفردتها فجاءت شكواه مثيرة للاعجاب والتعاطف رغم مافيها من يأس وخيبة
روحي الضيم الي عليها شجرهه
وبروك شما ارد اعتنهه شجرهه
الدنية شما يبس خضّر شجرهه
وأنه ماظن يخضّر عود اليه
وفي مكان آخر ــ والحيث للشباني ــ يميل الشاعر الى تقديم شخصيته للآخربشكلها الطبيعي ، دون مواربة او تعقيد ويقترب كثيرا من الحديث اليومي المشاع ولكن تبقى خصوصية المفردة وصياغة الصورة الشعرية هما مايميزان شعرية “الضويري” :
عدل والراد عدلي سكراني
وشري والراد ودي سكر اني
وحياتك عيب خمري سكراني
لجن هاي الليالي الماهي ليه
وفي ” الموالات ” لم يبتعد الشاعرعن اجواء قصائده الطافحة بالمرارة فجاءت هي الاخرى تحكي خيباته ، شاكياً فيها جور الايام وظلمها :
ابعيني شفت الفرح ذيب الحزن غطه
وهم العلينه سده الهم كربله غطه
وواحدنه مثل القلم بيد الذي غطه
جالسيف حرفة يظل يصرخ لما يبره
وللطيب كلبي وعلي مية سنه يبره
الماهو ثوبه الشرف منه الشرف يبره
والله لو بالشرف غط مية الف غطه
ثم جاءت شهادة الشاعر ” كزار حنتوش ” بحق “الضويري” مدهشة هي الاخرى لما فيها من جرأة في الاشارة الى تسلط الجهلة وذوي النفوذ والادعياء على شؤون الثقافة مشيرا فيها لمحاولات هؤلاء طمس ارث “الضويري” ومحاربته في سلسلة من الممارسات المؤذية والتي عجلت في نهايته كان في مقدمتها احالته على التقاعد ـ كان الشاعر يعمل في سلك الشرطة برتبة مقدم ــ بسبب اعدام شقيقه ـ ذو الميول اليسارية ـ ولأهمية هذه الشهادة في كونها وثيقة مهمة تكشف عن مواقف الشعراء من تلك الاحداث نورد نصها :
( ليس غريبا ان يحترق شاعر بمنزلة “صاحب الضويري” قبل الأوان في مدينة كهذه ، مدينة تعلي من شأن ذوي النفوذ ، واصحاب المحافظ المتخمة بالنقود والغجر واثرياء الحصار ، لقد أحال الادعياء الذين لايصل ارتفاعهم الى كعب حذاء “صاحب الضويري” حياته الى جحيما لايطاق وتكالب عليه حتى الذين يؤجرون اقفيتهم ، وضحك منه السفهاء والمقاولين الذين لم يكونوا في الواقع الا مراحيض متنقلة تتعطر بالكولونيا ، بثوا في دربه الشراك ، ونصبوا له الافخاخ في كل منعطف ، لكن دمه المضيء كالزيت كان ينير له الطريق ، وقلبه الذي لو بحثت بالمكرسكوب في خلاياه لما عثرت على مثقال ذرة من الخبث .
لكن من يعرف السفهاء والادعياء والغجر وذوي النفوذ … الخ ؟ ، من الذين تأنف جهنم في ان تسكنهم حجراتها ، وهاهو “صاحب الضويري ” الآن ملء السمع والبصر ونصيحة مني للأدعياء وأنصاف الشعراء والماكرين والمتاجرين بأقفيتهم والمتاجرين بأفكارهم في سوق الدغارة ان يكفوا عن الوقيعة بين الشعراء وزمنهم فما هم الا روث والشعراء نجوم ، اننا نستطيع ان نصنع مئة مقاول ، والف غجري ، وثلاثين الف كذاب ، ومليوم داعر ، لكننا نعجز عن صنع شاعر حقيقي واحد .. وما الشاعر الا قمر في سماء هذه المدينة ، لايراه الذين بقلوبهم مرض ، وشاءوا ام أبوا سيبقى الشعراء سادة هذه الدنيا ، لأنهم الأكثر نقاءً ، وشجاعة ، وأصالة ، طبعا لاأقصد من الشعراء هؤلاء الذين يتكاثرون كالضفادع في ايما بركة ، حتى لو كانت مبولة للحمير .. وعزاؤنا ان في المدينة الثقات امثال ثامر الحاج امين ، كريم هاتف ، سعد نجم السقا ، فهد عزيز لطيف ، علاء العميدي ، رعد ظاهر ، عباس كريم الساعدي ، حسين فليح ، غسان كايم ، سامي الفدعم ، ناجي جناح ، عباس هاشم ، عبدالكاظم البديري ، هادي ابو دية ، الرائد عزيز حمادي ، كفاح عبد الحمزة الشباني ، هؤلاء وغيرهم هم الذين اعطوا الشعراء حق قدرهم .
لتحل السكينة على روحك ياصاحب الضويري ياأخي في الشجاعة والألم والموت ، مجداً لك ، ولتبقى راية شعرك خفاقة على مر الاجيال) .
امتدت تلك الامسية الى ساعة متأخرة من المساء وكانت بحق حدثا ثقافيا فريدا اعاد الثقة في قدرة الثقافة على اشاعة الأمل واضاءة جانبا من عتمة تلك الايام .