توقفت كثيرًا أمام حديث مشهور من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس:
1- شهادة أن لا إله الله، وأن محمداً رسول الله.
2- وإقام الصلاة.
3- وإيتاء الزكاة.
4- وصوم رمضان.
5- وحج البيت..»
ومع أن الحديث مشهور جدًا، ومتفق عليه، ويحفظه تقريبًا عامة المسلمين.. إلا أنه يحتاج إلى وقفة طويلة للتأمل، تعالوا بنا نفكر سويًّا...!
لقد اختار الله عز وجل من هذا البناء الضخم الكبير (الإسلام) خمسة أمور فقط جعلها أساسًا لكل هذا البناء، وكل شيء بعد هذه الأشياء الخمسة ينبني عليها، ولو أن ركنًا من هذه الأركان الخمسة -التي هي الأساس- سقط لسقط هذا البناء كله، وإلى هنا لا يوجد شيء يثير الدهشة أو الحيرة، لكن المحيّر حقًا هو أن يكون الحج أحد هذه الأعمدة التي ينبني عليها الإسلام...
لماذا الحج بالذات؟!
إنَّ الحج عبادة لا يكلَّف بها المسلم أو المسلمة إلا مرة واحدة في العمر كله، وفي حال الاستطاعة.. ومعنى ذلك أن من لا يستطيع الحج فلن يُفْرَضَ عليه أداؤه.. وبالتالي فإن ملايين المسلمين على مرّ العصور لم ولن يحجوا لعدم الاستطاعة سواءٌ كان لعدم الاستطاعة ماليًا أو معنويًّا..
وحتى من كُتب لهم الحج.. فالكثير الغالب منهم لن يحج إلا مرةً واحدة في عمره كله الذي قد يمتد ستين أو سبعين سنة! "أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين"، ومن ثَمَّ لا ينفق الإنسان خلال هذا العمر الطويل في هذه العبادة إلا أسبوعين أو ثلاثة.. أو حتى شهرًا أو اثنين.. كم يمثل ذلك من العمر كله؛ حتى يُجعَل الحج ركنًا من أركان الإسلام؟! فضلاً عمَّا نسمع عنه الآن من أنواع الحج السريع... التي يستطيع الحاج فيها أن ينهي كل المناسك في أسبوع واحد، ويقيم في أرقى وأفخم الفنادق، ويكون أقرب إلى الحرم من أهل مكة نفسها...
فلماذا -إذن- يختار الله عز وجل هذه العبادة العارضة في حياة المسلم ليجعلها أساسًا لهذا الدين، وركنًا من أركان الإسلام؟! مع أنه ليس مطلوبًا إلا مرة واحدة في العمر للمستطيع فقط، ومن لم يستطع فلن يؤديه أصلاً؟!
الأمر إذن – كما ذكرت - يحتاج إلى وقفة تدبر وتأمل؛ فلا بد أن هناك فوائد تتحقق في الحج تؤدي إلى تغيّر في حياة المسلم الذي أدّى هذه الفريضة، ولا بد أن الحج سيؤثر على حياة الإنسان بكاملها في الأرض؛ لأن هذه الزيارة العارضة لبيت الله الحرام ربما تكون سببًا في صلاح الفرد رجلاً كان أو امرأةً، ومن ثَمَّ يستطيع تطبيق بقية شرائع الإسلام، وبهذا يصلح الحج أن يكون ركنًا من الأركان التي ينبني عليها الإسلام... لكن!
إذا كان هذا الكلام صحيحًا في حقِّ من حج من الرجال والنساء، فما بال أولئك الذين لم يستطيعوا الحج لأي عذر من الأعذار، وهم ليسوا قلة؟..
لماذا جعل الله عز وجل الحج من أساسات الإسلام الرئيسية مع أن هناك طائفة كبيرة جدًا من المؤمنين لم يقوموا به مع كونهم مؤمنين وراغبين في الحج.. بل مشتاقين إليه؟!
من المؤكد -ولا شك- أن هناك فائدة ما تعود على الأمة كلها، سواءٌ منهم من يحج كل عام، أو من حجّ مرةً واحدة، أو من لم يحج مطلقًا.. وقد لا يحج في حياته كلها...
ليشهدوا منافع لهم
الحج يفيد الأمة كلها، ومن ثَمَّ فإن الله تعالى جعله ركنًا أساسيًا ينبني عليه الإسلام.. فما هي مقاصد الشريعة في الحج؟
ما هي الغاية من الحج؟
ما الفوائد المتحققة والآثار الناتجة عن الحج؟
تعالوا بنا نبحث جيدًا لنعرف لماذا اختار الله الحج ليكون من أعمدة الإسلام.. وجدت أن الله عز وجل يقول: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ؛ فَكُلُوا مِنْهَ، وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}..
في الحج إذن - كما قال الله عز وجل - "منافع"، وكلمة "منافع" كلمة شاملة عامة، لا أعتقد أنها يجب أن تُقصر على المنافع التجارية والمالية فقط؛ لأن بعض الدعاة والمفسرين يقصرون كلمة المنافع على التجارة، بمعنى أنك ذاهب للحج، ويمكن أن تساهم في إنعاش التجارة فتبيع وتشتري...
الحق أن قصر منافع الحج على التجارة فقط تحديد غير مقبول للنص، وفيه تقليل من معنى هذه الكلمة العامة الشاملة، وخاصة في هذا الزمان الذي نعيش فيه؛ فرزق المسلمين هناك من البترول في يوم أو يومين يعادل تجارة الحج كلها، ويتأكد هذا المعنى إذا أخذنا في الاعتبار أن المنفعة الحقيقية التي تعود من التجارة في الحج إنما هي للصين واليابان!!.. لأنهما من قام بإنتاج أغلب سلع التجارة التي تروج أيام الحج.. وليس المسلمون!
لا بد - إذن - أن نفكر في منافع الحج الرئيسية...
التذكير بيوم القيامة من منافع الحج
لا شك أن للحج منافع كثيرة لا يتَّسع المقام لتفصيلها في هذا المقام.. إلا أن أهم منفعة في الحج أنه يذكّر الأمة كلها -الحجاج وغير الحجاج- بيوم القيامة؛ فوجه الشبه كبير جدًا بين الحج ويوم القيامة؛ ذلك أن الحاج يمرّ بأكثر من موقف يذكره بيوم القيامة، ثم يعود فيحكي لكثير من الناس هذه المواقف، فيتذكر الناس جميعًا يوم القيامة.. ولن نجد في الأمة كلها أحدًا لا يعرف اثنين أو ثلاثة أو أكثر ممن حج وحكى له عن المواقف التي مرّ بها في حجه...
وقد وضع الله محبة الحج في قلوب كل المسلمين؛ فتجد أن غالبية المسلمين لديهم الحرص الشديد على أن يحجوا، وعلى أن يودعوا الحجاج عند سفرهم ويستقبلوهم عند عودتهم، ويزوروهم، ويسمعوا منهم؛ ليبقى موسم الحج موسمًا لتذكير الأمة كلها بهذه المنافع العظيمة.. وبيوم القيامة.
وقبل أن نتوقف أمام ملامح التشابه بين الحج ويوم القيامة ينبغي أن نقول: إن معظم الفساد والمعاصي التي تحدث في الأرض إنما تحدث بسبب نسيان يوم القيامة.. يوم الحساب الذي يُحاسَب فيه كل إنسان على ما قدَّم في دنياه، منذ أولى لحظات التكليف إلى لحظة الموت.. والله عز وجل يقول: {إن الذين يَضِلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد..} لماذا؟ قال الله تعالى: {..بما نسوا يوم الحساب}!
فنسيان يوم الحساب كارثة عظيمة، ومصيبة كبيرة، ولو تذكَّر الناس هذا اليوم لوُجِد الحل لكل المشاكل التي تعاني منها البشرية، ولذا كان أول ما ذكّر به النبي صلى الله عليه وسلم، يوم أن بدأ الدعوة في مكة، هو هذا اليوم.. قال صلى الله عليه وسلم: «والله لتموتُنّ كما تنامون، ولتبعثُنّ كما تستيقظون، ولتحاسبُنّ على ما تعملون، وإنها لجنّة أبدًا.. أو نار أبدًا..»
ذلك أن المرء إذا ظل متذكرًا ليوم القيامة لبقي في باله أن هنالك يومًا سوف يقدم فيه "كشف حساب" عن كل لحظة من لحظات عمره.. عن كل كلمة.. كل قرشٍ اكتسبه.. كل حركة، وكل سكَنة.. عن كل تعامل بينه وبين الناس.. وبينه وبين ربه سبحانه وتعالى..
فالحج صدمة كبرى تنبِّه الأمة كلها، توقظها من سباتها.. تذكِّرها بما كانت قد نسيته طويلاً.. وإذا تذكر المرء أنه محاسب، هل سيرتشي؟ هل سيظلم؟ هل سيسرق؟ هل سيعق والديه؟ هل سيتعدى على حقوق زوجته أو أولاده أو جيرانه.. أو حتى من لم يعرفهم؟؟ قطـعًا.. إن الإجـابة بالنفي، وهكذا ندرك أن صلاح الأرض في تذكُّر يوم الحساب..
{وَيـلٌ لِلْمُطَفِفِينَ* الذينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى الناسِ يَستَوفُون* وَإذَا كَالُوهُم أوْ وَزَنَوُهُم يُخْسِرُون* ألا يَظـُنُ أُولئكَ أنَهُم مَبْعُوثُون؟!* لِيَومٍ عَظِيمٍ؟!* يَوْمَ يَقُومُ النـاسُ لِربِ العَالَمِينَ}.. لو أدرك المطففون أنهم سيُحاسَبون لما طففوا.. ويجب أن ننتبه إلى أن التطفيف ليس في التجـارة والميزان المادي فحسب، كلا.. إن التطفيف قد يكون في علاقتك بزوجتك؛ فإذا كان لك حق أخذته بالكامل، أما إذا كان عليك الحق فأنت تُـخسر في الميزان.. وكذلك في علاقتك بأولادك.. وجيرانك.. وزملائك في العمل... حتى في علاقتنا بالله سبحانه وتعالى نطفف!! فإذا حدثت لنا مشكلة أسرعنا في اللجوء إلى الله، نرجوه، وندعوه، ونخشع في صلاتنا، ونُكثر من الصيام والصدقة والخضوع لله..{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.. فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ..} هذا هو يوم الحساب الذي لو تذكره الناس لما تعاملوا مع المولى عز وجل بهذه الطريقة: {ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}....
الحج إذن تذكرة قوية وعلنية وواضحة وصريحة لكل المسلمين أننا سنرجع يومًا إلى الله...
كيف يذكّرنا الحجّ بيوم الحساب؟
إننا نتذكّر يوم الحساب من أوّل خطوة نخطوها نحو الحج... فيحرص المسلم على جمع المال الذي يريد أن يؤدي به الحج من الحلال، ويدفع هذه المبالغ الكبيرة: عشرة آلاف أو خمسة عشر.. أو عشرين ألفًا! وأكثر من ذلك أحيانً، ومع هذا كله يدفع المسلم هذه المبالغ وهو في غاية السعادة والسرور!! لماذا؟ لأنه سيؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى.. ثم يسترضي كل من يعرفهم ، ويعتذر لمن أساء إليه، ويؤدي ما عليه من ديون، وكأنه بذلك يستعد تمامًا ليوم الحساب.. يجمع أهله.. فيوصيهم، وينصحهم، ويدلهم على ما يفعلونه أثناء غيابه... والناس يودِّعونه قبل سفره.. أفواج كبيرة تودع الحجاج.. تُذكره، وتُذكر الناس جميعًا أن هناك يومًا سيخرج المرء فيه بلا عودة!! {كل نفسٍ ذائقة الموت} ولكن أحدًا لن يرجع بعد موته.
حتى ملابس الحج بالنسبة للرجل تذكِّره.. وتذكِّر الناس جميعًا بيوم القيامة؛ ففوق ما فيها من شَبَهٍ بالكفن، ترى أن بعض جسد الحاج يتعرى؛ ينكشف كتف الحاج لكي يتذكر الناس جميعًا العُرْيَ التام يوم القيامة، وهذا يذكرنا بالصورة التي نكون عليها يوم الحساب... روى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.. يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: الأمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ».
وفي الحج يعيش الناس جوًّا أشبه ما يكون بيوم القيامة، الكلُّ يشعر بهذا المعنى، والأمة كلها تعيش هذه المعاني مع الحجيج، الناس جميعًا يتركون الدنيا وراء ظهورهم، ولا ينشغلون بغير الذكر والدعاء والاستغفار والتضرع إلى الله عز وجل، والناس جميعًا واقفون في زحام شديد، وفي مكان واحد، وهكذا يُحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، وينادي عليهم المنادي: هلمُّوا إلى ربكم.. هلُمُّوا إلى ربكم.. فيقوم الناس جميعًا لربّ العالمين: "يومئذٍ يتَّبِعون الداعي لا عوج له، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا".. كلّ الناس في الحج وقوف، وكل الناس يوم القيامة وقوف أيضًا: {وقِفُوهم.. إنهم مسئولون}! الناس في الحج في حرٍّ وعرق، وكذلك يوم القيامة يعرق الناس حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، كما في الحديث الصحيح، في البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعً، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ»!!
فالأمر إذن ليس ساعة أو ساعتين.. لا.. الأمر شاق وطويل...
وإذا كان الحج هو العبادة الوحيدة التي يفرّغ لها المسلم أيامًا متتالية، فكذلك يوم القيامة يوم طويل: {إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرًا}.. وكما جاء في بعض التفسيرات أن اليوم القمطرير هو اليوم الطويل، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "مائة سنة" أي أن يوم القيامة يساوي مائة سنة، وقال كعب: بل ثلاثمائة سنة، وقال غيرهم: خمسين ألف سنة!! والمؤكد أنه يوم طويل وعسير وصعب؛ فهو يحتاج إلى استعداد واهتمام كبيرين...
ومما يذكّر بيوم القيامة من مناسك الحج أيضًا السعي بين الصفا والمروة، ذهابًا وإيابًا، فيتذكر الناس السعي والحركة يوم القيامة: {يوم يَخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصب يُوفضون}، ويتذكر الناس عند سعيهم بين الصفا والمروة سعيَهُم يوم القيامة بين الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله عز وجل؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام، فيردهم إلى نوح عليه السلام، فيردهم إلى إبراهيم عليه السلام، فيردهم إلى موسى عليه السلام، فيردهم إلى عيسى عليه السلام، فيردهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم...
وزيارة الحجاج لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وإن لم تكن من مناسك الحج- هي أيضًا تُذكِّرك بأن الله عز وجل سيجمعك يومًا ما مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، تسلّم عليه وعلى أصحابه... كما أن صلاتك في الروضة الشريفة (وهي من رياض الجنة) تضعك في هذا الجوّ الرائع الذي يُخْرِجُك من جوّ الدنيا تمامًّا، ويجعلك تعيش في جوّ الآخرة...
إن كل من يحج بيت الله الحرام يشعر بكل هذه المعاني.. بل ويقصّها على كل من يلقى من الأهل والأحباب، ومهما بلغ الجهد والتعب وبذل المال في هذه الرحلة العظيمة، إلا أن الجميع يتمنى لو عاد مرة أخرى للحج.. لو عاد مرة أخرى للبيت الحرام.. لو عاد مرة أخرى لعرفات... يتمنى لو عاد مرة أخرى لزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم...
تعيش الأمة كلها هذه المعاني العظيمة التي تُذكِّر بيوم القيامة في كل عام مرة، لتتذكر يوم القيامة الذي ستعيشه بحقيقته بعد ذلك...
وإذا عاشت الأمة وتذكرت يوم القيامة على هذا النحو.. كيف سيكون حالها؟ وكيف سيكون وضعها بين الأمم؟
بعد كل ما رأينا من العلاقة بين الحج ويوم القيامة نستطيع أن نفهم ونتدبر لماذا بدأ الله تعالى سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}..
ليس في القرآن شيءٌ عشوائيٌ على الإطلاق؛ فكل كلمة.. وكل حرف نزل بحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}...
ولقد كنت أعجب كثيرًا عندما أقرأ سورة الحج وأتساءل: لماذا بدأ الله عز وجل سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة بدلاً من التذكير بأهمية الحج؟! لكن بعد تدبر هذا المعنى العظيم -وهو أن الله عز وجل جعل الحج تذكيرًا للناس بيوم القيامة- تلاشى هذا العجب...
فليس الهدف من الحج -إذن- إرهاق الناس وتكليفهم فوق طاقتهم: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ}.. ولكن الهدف هو تحقيق المنفعة للناس في الدنيا والآخرة.
لو تذكرنا يوم القيامة ستصبح حياتنا كلها آمنة ومستقرة بل وحياة الأرض كلها، وسوف يتحقق لنا الخير في الآخرة...
نسأل الله عز وجل أن يتقبل من الحجاج حجَّهم.. وأن يكتب الحج لمن لم يحج.. وأن يفقِّهنا جميعًا في سننه.. وأن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
د. راغب السرجاني