معاهدة المدينة
هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكَّة إلى المدينة المنوَّرة شمالًا بعد اضطهاد دام ثلاثة عشر عامًا متَّصلة، ذاق المسلمون فيها صنوف الألم والعذاب والضيم، وكانت المدينة المنوَّرة (يثرب وقتئذٍ) بمثابة الملجأ الآمن، والمسكن الهادئ الذي ابتغى المهاجرون وعلى رأسهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه الاستقرار والأمن.
على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما كاد يحطُّ رحاله في هذه المدينة الجديدة إلَّا ووجدها تتكوَّن من عناصر متفاوتة، وانتماءات مختلفة، وطوائف شتَّى، وتاريخ مشوب بالتوتُّرات والحروب القديمة، وكانت هذه العناصر كما يلي: الأوس المسلمون (وهم بطون)، الخزرج المسلمون (وهم بطون)، يهود (طوائف: بنو عوف، بنو جشم، بنو ساعدة، بنو ثعلبة، بنو النجار، بنو الحارث، بنو الشطيبة، فضلًا عن اليهود الأصليِّين: قريظة والنضير وقينقاع وغيرهم..)، والأوس الكافرون (بطون)، والخزرج الكافرون (بطون)، والموالي، بالإضافة إلى المهاجرين القادمين من مكَّة، ثُمَّ علاقة المدينة بالمدن والقبائل المحيطة بها.
هذا التنوُّع العقدي والثقافي والعرقي الذي واجهه النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان من الطبيعي أن يضعه أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: إمَّا التعارف على ما اتَّفقوا عليه، واشتركوا فيه بينهم؛ ليضمنوا عيشًا مشتركًا هادئًا. وإمَّا التصادم والتناحر، وفرض السيطرة بالقوَّة والدم، وكلُّنا يعلم العواقب المترتِّبَة على الحروب والصراعات.
على أنَّ أخلاق النبوَّة والإسلام جعلت النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يتردَّد في أن يسلك سبيل التعارف والاتفاق من أجل تحقيق المصلحة المشتركة التي يبتغيها الجميع، وهي تحقيق المواطنة والتعايش، مع الإقرار بهذا التنوُّع العقدي والثقافي والعرقي، فكان ممَّا لا مفرَّ منه أن يضع "دستور الدولة بالمدينة".
لقد رسمت "وثيقة المدينة" وأضرابها من المواثيق والعهود التي وقَّعها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده المعالمَ الرئيسة لكيفيَّة التعامل والتعاقد والشراكة والتكامل والتعارف والتوافق مع الشركاء في الوطن الواحد، وهو اعترافٌ صريحٌ مباشرٌ بإقرار التنوُّع العقدي والفكري والقومي والعرقي في الإسلام، ودليلٌ قويٌّ على الفضاء الواسع للقيم الإسلاميَّة وإنسانيَّتها، وهو فضاءٌ لا يحدُّه الزمان والمكان، ومن هنا تأتي أهميَّة هذه الوثيقة[1].
ولذلك قال كثيرٌ من علماء القانون الدولي، وفلاسفة الفكر العالمي: إنَّ هذه الوثيقة نقلت الإنسانيَّة من الإطار السياسي الضيِّق، ومن دولة العشيرة والقبيلة، ومن الدولة القوميَّة والمذهبيَّة إلى الدولة الإنسانيَّة العالميَّة، التي تضمُّ شعوب الأرض على اختلاف أصولهم العرقيَّة، وانتماءاتهم القوميَّة، وعقائدهم الدينيَّة، واستطاعت بنجاح أن تُحَقِّقَ مبدأ التعارف والعيش المشترك[2].
وقبل الوقوف مع الوثيقة، وتأمُّل كافَّة الجوانب المتعلِّقَة بها، التي هي نموذج لِمَا نسعى إليه في الكتاب، نذكرها فيما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
1- هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ (رَسُولِ اللهِ) صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ يَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ.
2- إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ.
3- الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
4- وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
5- وَبَنُو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
6- وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
7- وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
8- وبَنُو النَّجَّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
9- وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
10- وَبَنُو النَّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
11- وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.
12- وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ.
13- وَأَنْ لَا يُحَالِفُ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ.
14- وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ أَيْدِيهمْ عَلَى كُلِّ مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إِثْمًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ فَسَادًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ.
15- لَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا يَنْصَرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ.
16- وَإِنَّ ذِمَّةَ اللهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنَّ الْمُؤمِنِينَ بَعْضَهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ.
17- وإنَّه مَنْ تَبِعَنَا مِنَ يَهُودِ فَإِنَّ لَهُ الْنَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرٍ عَلَيْهِمْ.
18- وإنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدَلٍ بَيْنَهُمْ.
19- وَإِنَّ كُلَّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
20- وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَبِيءُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ.
21- وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هُدًى وَأَقْوَمِهِ.
22- وإنَّه لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ.
23- وَإِنَّه مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ قُوِّدَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا قِيَام عَلَيْهِ.
24- وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَآمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا أَوْ يُئْوِيَهُ، وإنَّ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ.
25- وَإِنَّهُ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
26- وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ.
27- وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مِعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.
28- وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
29- وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
30- وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
31- وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
32- وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ.
33- وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ.
34- وَإِنَّ جَفْنَةَ بَطْنٍ مِنْ ثَعْلَبَة كَأَنْفُسِهِمْ.
35- وَإِنَّ لِبَنِي الشَّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ.
36- وَإِنَّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَة كَأَنْفُسِهِمْ.
37- وَإِنَّ بِطَانَةَ يَهُودٍ كَأَنْفُسِهِمْ.
38- وَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
39- وَإِنَّهُ لَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٌ، وَإِنَّه مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَإِنَّ اللهَ عَلَى أَبَرِّ مِنْ هَذَا.
40- وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ.
41- وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
42- وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ.
43- وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ.
44- وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ.
45- وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ.
46- وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.
47- وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِم.
48- وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا.
49- وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ اللهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ.
50- وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا.
51- وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ.
52- وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، وَإِنَّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إلَّا مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ.
53- عَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الَّذِي قِبَلَهُمْ.
54- وَإِنَّ يَهُودَ الْأَوْسِ مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مَعَ الْبِرِّ الْمَحْضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّ اللهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ.
55- وَإِنَّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ أَوْ آثِمٍ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، وَإِنَّ اللهَ جَارٌ لِمَنْ بَرَّ وَاتَّقَى، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم[3].
إنَّ التأمُّل في هذه الوثيقة بعينٍ فاحصةٍ باحثةٍ عمَّا يُمكن أن نستخلصه ونخرج به من نتيجةٍ وفائدة، يلفت نظرنا إلى أنَّها ترنو إلى إقامة مجتمعٍ مثالي لا يجحد التنوُّع ولا يُنكره، بل يسعى إلى الإحاطة به، والاستفادة منه، وهو مع هذا يُقِيم مبادئ التعارف والتعايش واقعًا فعَّالًا بين مختلف الانتماءات والطوائف والعقائد، لا كلامًا على الورق بلا فائدةٍ أو نتيجة.
ولذلك لم يتجاهل النبيُّ صلى الله عليه وسلم السمات والمميِّزات الخاصَّة لكلِّ فئةٍ من هؤلاء، كما أنَّه حرص على إقامة المشتركات بين مَنْ كانوا أعداء متناحرين يقتل بعضهم بعضًا، ويتربَّص بعضهم بعضًا، وفي هذا من الإشارات والفوائد ما يُستخلص منه أنَّ البشر قادرون على الاجتماع حول المشتركات التي تُقَرِّبهم، وتجعلهم متعارفين متعايشين، إذا اتفقوا على ذلك بصيغٍ توافقيَّةٍ تُراعي السمات والمميِّزات لكلٍّ منهم.
***
يُقَرِّر البند رقم (1) "إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ"، أُمَّةٌ تربط بين أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتَّحد شعورهم وتتَّحد أفكارهم وتتَّحد قبلتهم ووجهتهم، ولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كلِّه على بقيَّة الناس "مِنْ دُونِ النَّاسِ"، فهذه الروابط تقتصر على المسلمين، ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء[4].
ومن اللافت أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يضع هذا البند في قمَّة الوثيقة وعلى رأسها، ذلك أنَّ العقيدة التي استطاعت أن تجمع هؤلاء المتفاوتين تحت ظلالها هي المشترك الأسمى الذي قد يتخلَّى الإنسان في سبيل التمسُّك به، والتحصُّل عليه، على عوامل عدَّة كالأرض كما فعل المهاجرون؛ فقد هاجروا من مكَّة -حيث الوطن والأهل والعوامل الثقافيَّة والتاريخيَّة- إلى المدينة حيث المشترك الأسمى "العقيدة".
وحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على تنفيذ هذا البند على اليهود أنفسهم، فكما أنَّ للمسلمين مشتركهم الأسمى الذي يربطهم ويُقَوِّي من الصلات والروابط، ومن ثَمَّ التعارف بينهم، فكذلك حرص على عدم المساس بعقيدة اليهود؛ ذلك أنَّ كلَّ إنسانٍ يملك الحريَّة التامَّة في اعتناق ما يراه مناسبًا له من رؤًى وتصوُّرات ومعتقدات؛ ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم في البند رقم (27): "لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ"، وهكذا أيقن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ المساس أو التصادم بالدين لا يخدم ما يصبو إليه من التعارف والتعايش بين الأطياف المختلفة في المجتمع الائتلافي الجديد؛ ذلك أنَّ العقيدة هي أهمُّ المكونات للهويَّة الفرديَّة والجماعيَّة، وإنَّه من الصعب أن يتخلَّى الإنسان عن هويَّته، لا سيَّما إذا حدث ذلك بالقهر والظلم.
بل، وأكثر من ذلك؛ فإنَّ عظمة الإسلام ومعرفته الراسخة بآليَّات التواصل والتقارب بين الناس والشعوب قد جعلت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقِرُّ المشرك على شركه؛ شريطة ألَّا يُهَدِّد أمن المجتمع؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم في البند رقم (22) من الوثيقة: "وإنَّه لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ". وبهذا لم يحُلِ الإسلام بين الفرد ومعتقده أيًّا كان هذا المعتقد؛ إيمانًا منه بأنَّ الحريَّة فطرةٌ إنسانيَّة، وغريزةٌ لا يُمكن أن تُستأصل بالقوَّة والعنف؛ فضلًا عن كونها مشتركًا عامًّا بين جميع البشر، ولكنَّ هذا لا يمنع أن ينضبط الجميع بانتماءات الدولة، فلا يجوز لهم بحالٍ أن يتعاونوا مع أعدائها.
ويلفت نظرنا في الوثيقة أنَّها رسَّخت بكلِّ وضوحٍ مبدأ التعايش المشترك من خلال تطبيق فكرة المواطنة كما تُحَدِّدها المواثيق الحديثة؛ فقد أشارت دائرة المعارف البريطانيَّة إلى أنَّ المواطنة هي "علاقةٌ بين فردٍ ودولة، كما يُحَدِّدها قانون تلك الدولة، وبما تتضمَّنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة"، وتُؤَكِّد أن "المواطنة تدلُّ ضمنًا على مرتبةٍ من الحريَّة وما يصحبها من مسئوليَّات"[5]، وطبقًا لوثيقة المدينة؛ فإنَّ المواطنة لم تُحصر في المسلمين وحدهم -وهم عشائر وقبائل وبطون متفاوتة– بل امتدَّت لتشمل اليهود والمشركين، وهذا يعني أنَّ اختلاف الدين ليس -بمقتضى بنود الوثيقة- سببًا للحرمان من مبدأ المواطنة والتعايش، كما كان ذلك مطبَّقًا في الدول التي عاصرت الدولة الإسلاميَّة في بدء تكوينها، وهذه نتيجةٌ تُحْسَب للشريعة الإسلاميَّة المتفرِّدة.
ولهذا؛ فقد حدَّدت الوثيقة طبيعة الشعب الذي يحمل جنسيَّة المدينة المنوَّرة؛ فهو شعبٌ مكوَّنٌ من أصحاب الانتماء العقدي كالمسلمين واليهود، وأصحاب الانتماء العرقي كالأوس والخزرج والمهاجرين، وأصحاب الانتماء القومي وهم أهل المدينة جميعهم، وأصحاب الانتماء الجغرافي ونقصد الحجازيِّين المدنيِّين ومواليهم وأحلافهم داخل الرقعة الجغرافيَّة التي حدَّدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهي يثرب: ما بين الحرَّتين (الشرقيَّة والغربيَّة) وما بين الجبلين (عير وثور)، وهذا التنوُّع أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وعَمِل بمقتضاه بعبقريَّةٍ لافتة، ونجحت هذه التنوُّعات في تكوين مجتمعٍ متجانس[6].
وكما ضمنت الوثيقة لجميع الموقِّعين عليها الحريَّة في الاعتقاد والأفعال والأقوال، فإنَّها راعت ما قد يترتَّب على هذه الحريَّة من أمورٍ سلبيَّةٍ تُوجب العقاب والمحاسبة، وكان الضابط في إنزال العقوبة على الجاني ملتزمًا بمبادئ العدل والقسط؛ فالعدل هو الخُلق الأساسي الذي تضمنته الوثيقة في أكثر من موضع منها؛ حرصًا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ترسيخه في المجتمع الجديد، لا فرق في ذلك بين المؤمنين أو غيرهم، وأكَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على المسئوليَّة الفرديَّة لا الجماعيَّة إلَّا إذا دعت الضرورة والواقعة لذلك، ففي البند رقم (14) يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ أَيْدِيهمْ عَلَى كُلِّ مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إِثْمًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ فَسَادًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ". والأمر ذاته بالنسبة إلى اليهود كما في الفقرة الثانية من البند رقم (27)؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: "يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مِعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ". وقوله صلى الله عليه وسلم في البند رقم (33): "وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ". وقوله صلى الله عليه وسلم في البندين رقم (43)، (44) للتدليل على المسئوليَّة الفرديَّة، والعدل المتوخَّى من وراء ذلك: "إنَّه لا يأثم امرؤ بحليفه وإنَّ النصر للمظلوم". وهكذا يُرَسِّخ النبيُّ صلى الله عليه وسلم العدل -وهو خُلق إنسانيُّ أساسي- كأساسٍ للعيش المشترك، وكضمانةٍ وصمامٍ للأمان لاستمراريَّة هذا العيش.
ونجد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يُمَانع من أن ينصَّ في الوثيقة على معاملة اليهود المحالفين للمسلمين بالمعروف والعدل، وعدم التحريض عليهم وإيذائهم، فهذا يُعَبِّر عن ثبات القيم الأخلاقيَّة في السياسة الإسلاميَّة، وإنَّها لا تعرف الكيل بمكيالين، وهو ما يُقَرِّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في البند رقم (17) بقوله: "إنَّه مَنْ تَبِعَنَا مِنَ يَهُودِ فَإِنَّ لَهُ الْنَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرٍ عَلَيْهِمْ". ولا شكَّ أنَّ مثل هذه التصرُّفات الراقية لتُعِينُ بكلِّ قوَّةٍ على إيجاد عيشٍ مشتركٍ يحيا الجميع في ظلاله بأمانٍ وهدوء.
وقد حرصت الوثيقة على أمرٍ في غاية الأهميَّة، ووسيلةٍ لا ريب في أثرها الكبير في التقارب والتعارف، ونقصد بذلك المساواة، فلا يُمكن تحقيق عيشٍ هانئٍ وادعٍ إلَّا بتحقيق المساواة بين الناس، دون الإخلال بالمميِّزات الخاصَّة، والفروق الفرديَّة التي وُهبت لكلٍّ منهم، وهذا عدلٌ في التعامل مع كافَّة الطوائف، وهكذا نجدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول في البند رقم (16): "إِنَّ ذِمَّةَ اللهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنَّ الْمُؤمِنِينَ بَعْضَهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ". وقوله في البند رقم (20): "إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَبِيءُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ".
كما أكَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الوثيقة على أنَّ الملكيَّة مكفولة ومحترمة للجميع؛ فهي من المشتركات العامَّة -كما بيَّنَّا في النظريَّة- ولا يجوز الاعتداء عليها أو التصرُّف فيها إلَّا بعد إذن أصحابها والقائمين عليها؛ إذ إنَّها فطرةٌ إنسانيَّةٌ مترسِّخَةٌ في الوجدان، وصبغة يتمايز بها أفراد المجتمع عن بعضهم، والحقُّ أنَّه لا يخلو مجتمعٌ من هذه الملكيَّات الخاصَّة، بل يُمكن القول: إنَّ الملكيَّات الخاصَّة قد سبقت إقامة المجتمعات الإنسانيَّة المنظَّمة؛ ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في البند رقم (48): "إِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا". حرصًا منه على أنَّ احترام هذه الحُرُم ممَّا يُزيد فرص التعايش والتوافق بين الناس جميعًا.
ثُمَّ كانت هناك آليَّة ووسيلة في غاية الأهميَّة حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على إبرازها وكتابتها وتوضيحها والسعي إلى تطبيقها، حتى يتسنَّى استكمال عمليَّة التعارف والتعايش المنوطة بتلك الوثيقة، ونقصد حلَّ جميع المشاكل العالقة بين المتعاونين الجدد -أعداء الأمس- التي يأتي على رأسها دفع ديات القتلى (وهي عمليَّة التعاقل)، وفكُّ الأسارى (افتداء العاني)، ولا شَكَّ أنَّ لهذه المبادرة الإنسانيَّة الأثر العظيم في إمكانيَّة البدء والتلاقي على صفحةٍ بيضاء ناصعة، يُمْحَى فيها التاريخ المشترك الأسود بكلِّ سهولةٍ ويُسر، لا فرق في ذلك بين المهاجرين والأنصار، ونجد هذا التحليل في البنود من (3) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ". إلى البند رقم (11) وهو قوله: "وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأُولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ". وقد ذُكر الشرط عينه على بني عوف وبني الحارث بن الخزرج، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت، فضلًا عن المهاجرين من قريش وبني الأوس.
وقد قُيِّد ضمان تحقيق هذا الشرط بخُلقٍ أساسيٍّ يتعارفه الجميع ويُقِرُّونه وهو العدل والقسط المبتغى من وراء الشرط، ولعلَّ ذكاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم يتَّضح بجلاء في هذه البنود (من 3 إلى 11)؛ فالقضيَّة المراد الانتهاء منها نهائيًّا تتمثَّل في التصارع القبلي والتاريخ السيِّئ بين قبائل الأوس والخزرج، فضلًا عن بطونهما ومواليهما وحلفائهما، فلقد اشتهرت بينهم أيَّام (حروب طاحنة) قبل مقدم النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهم: كيوم بُعاث وسُمير وغيرها من الأيَّام التي تناحروا وتقاتلوا فيها؛ ولذلك فضمانةٌ لتحقيق مبدأ السلم والعيش المشترك كان من الطبيعي أن تزول أذيال الماضي ومآسيه من خلال حلول عمليَّة تُرضي جميع الأطراف، وكان ذلك من خلال عمليَّة اجتماعيَّة تُعَدُّ من عادات وتقاليد العرب في جاهليَّتهم ثُمَّ إسلامهم، تمثَّلت في العقل وفداء الأسارى، ويُمكن أن يُقاس على هذا الأمر أنَّ كلَّ حلٍّ اجتماعيٍّ أو بالأحرى كلَّ عادةٍ أو تقليدٍ يُؤَدِّي إلى التصالح والتعايش بين المتخاصمين لا بُدَّ من الأخذ به، والاعتماد عليه؛ وبذلك لم يتجاهل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عادات وتقاليد المدينة، بل استثمرها فيما يُؤَدِّي إلى التعارف والتعايش.
ونلحظ كذلك أنَّ الوثيقة قد رسَّخت مبدأً أخلاقيًّا كان لا بُدَّ منه في تقعيد التعايش المشترك، ونقصد بهذا الخُلق السامي: التكافل؛ فالتكافل يضمن وجود الحبِّ المترتِّب على التعارف الذي أكَّدته الوثيقة النبويَّة وسعت إلى تحقيقه؛ ففضلًا عن التعاقل وفداء الأسرى كما مَرَّ بنا، نجد النبيَّ صلى الله عليه وسلم في البند رقم (12) يُقَرِّرَ أن "الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ". والمـُفْرَح هو المثقل بالديون، وهذا الجانب الأخلاقي المشار إليه لا يجب بحالٍ أن نُنحيه جانبًا عند بحثنا عن القيم المشتركة، التي تجمع بين الشعوب وتُؤلِّف بينها، فكم من الدول الفقيرة في عالمنا اليوم ينظر إليها الأغنياء والأقوياء على أنَّها مناطق وبائيَّة يجب استئصالها والتخلُّص منها؟! وإنَّ هؤلاء لو استعاضوا بهذه الأفكار المشوَّهة الجانبَ الأخلاقي الذي يدعو إلى التكافل ورفع الإصر عن المعوز لكان خيرًا لهم، ولَزالت البغضاء والشحناء من قلوب الفقراء تجاههم.
وممَّا يلفت النظر -أيضًا- أنَّ البنود من (3 إلى 11) قد جاءت مُبقية للتشكيل القبلي كما هو، وكذلك البنود من (27 إلى 40)، وهذه الأخيرة إنَّما تناولت اليهود وتعاملت معهم وفقًا لارتباطاتهم القبليَّة لا الفرديَّة، وهذا دليلٌ على أنَّ غاية التعارف والتعايش المشترك قد أبقت التكوين الاجتماعي كما هو؛ فنظام القبيلة والعشيرة لم يكن شرًّا، ويُستفاد من هذا أنَّ التعارف والوسائل المفضية إليه لا يجب أن تهدم التنوُّعات الاجتماعيَّة أو الثقافيَّة للأمم والشعوب، بل تُبقيها كما هي؛ ما دامت لا تُؤَسِّس للصدام والتحارب.
كما أكَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قانونيَّة الدولة ودستوريَّتها، فهذه الوثيقة في ذاتها دليلٌ على سيادة القانون وأهميَّته الكبرى في التقارب والتعايش، فهو المشترك الذي استطاع أن يُقَرِّب بينهم بصورةٍ توافقيَّة، لم يَرَوْا مثلها من قبلُ عند أيِّ قبيلةٍ أو مدينة، أو حتى دولةٍ من الدول العظمى حينها كالفرس والروم، وأنَّه كان من المستحيل أن يجتمع هؤلاء المتنافرون القدامى حول المشتركات التي تجمعهم وتُؤلِّف بينهم إذا لم يُوجد هناك رباطٌ قويٌّ يُوَحِّدهم ويجمعهم على ما اتَّفَقُوا عليه، وكان من العبقريَّة الإسلاميَّة أن "استطاعت الدولة الجديدة أن تجعل من المدينة -التي تضمُّ عددًا كبيرًا من الأحياء العربيَّة واليهوديَّة المختلفة المتنافرة، التي حكمتها الفوضى، وأنهكتها العصبيَّة القبليَّة- مدينة موحدة، وحَّدَت السكان جميعًا على اختلاف دياناتهم وخصائصهم وأعراقهم حول إعلان دستوري مركزي هو الأوَّل من نوعه في تاريخ الإنسانيَّة، يخضع له الجميع، تسهر على تنفيذه حكومةٌ مركزيَّة تملك السلطة العليا في المدينة، للحاكم فيها حقوقه ومسئوليَّاته، وللمواطنين حقوقهم ومسئوليَّاتهم، وللقانون كلمته وسيادته"[7].
ولذلك فإنَّه خوفًا من الفرقة والتشتُّت وتجدُّد الصراعات والإحن القديمة أكَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على وجود مرجعيَّة كبرى يُلتجأ إليها وقت الأزمات والكوارث، تمثَّلت هذه المرجعيَّة في النبيِّ صلى الله عليه وسلم باعتباره القائد الأعلى للدولة الجديدة، قال صلى الله عليه وسلم في البند رقم (25): "وَإِنَّهُ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم". وجاء في البند رقم (38): "إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم". وهذا ما جعل كلَّ أحياء المدينة التي كانت تعيش في فُرقة كالجسد الواحد في الحُبِّ والمودَّة والقربى، حيث ينصُّ البند رقم (47) على أنَّ "الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِم". أيًّا كان هذا الجار: عربيًّا أم يهوديًّا أم غير ذلك، ومن هنا علمنا أنَّ للقانون دوره المهم، وضرورته الملِحَّة في تقارب الأمم والشعوب، خاصَّةً إذا فُعِّل هذا القانون، وحُرص على تطبيقه ومراقبته.
ونَبَّهت الوثيقة إلى أنَّ العيش المشترك الذي تُقِرُّه بنودها لا يُمكن أن يتحقَّق إلَّا في ظلِّ المحافظة والدفاع المشترك عن أرض المدينة؛ باعتبارها القاسم المشترك الذي يجتمع عليها كلُّ هذا الكم من التنوُّعات العقديَّة والثقافيَّة والعرقيَّة، وجاء هذا التنبيه والتحذير في البند رقم (46) الذي يقول: "إِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ". وفي البند رقم (51)، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ". وكذلك جاء في البند رقم (26): "إِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ". فالأرض إذًا مشتركٌ ثابت لا يُمكن الاعتداء عليه؛ ولهذا فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يجعل الحرب الدفاعيَّة عن الأرض حربًا عادلةً مشروعة، بل حتميَّة لا يجب النكوص أو التقاعس في سبيل تحصينها من كلِّ عدوٍّ غادر.
وبمناسبة الحرب العادلة، فإنَّ الوثيقة حذَّرت من قيام الحروب الغوغائيَّة التي تقوم لأسبابٍ تافهة، ووضعت لها قيودًا وعراقيل تلافيًا لحدوثها، ومنعت الأسباب المفضية إلى التصادم وفي مقدِّمتها الغدر؛ ففي البند رقم (39) يقول صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّهُ لَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٌ، وَإِنَّه مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَإِنَّ اللهَ عَلَى أَبَرِّ مِنْ هَذَا". فهذا البند يُعَدُّ استمرارًا للبند رقم (14) الذي جاء فيه: "وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ أَيْدِيهمْ عَلَى كُلِّ مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إِثْمًا أَوْ عُدْوَانًا أَوْ فَسَادًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ". والبند رقم (23) الذي جاء فيه: "وَإِنَّه مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ قُوِّدَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ (بِالْعَقْلِ)، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا قِيَام عَلَيْهِ". وهي بنود تتعلَّق بالبغي والفساد والغدر والقتل والثأر الجامح لأتفه الأسباب، فهو يُقَرِّر أنَّ حقَّ الثأر مرتبطٌ بالقتل فقط، أمَّا ما عدى ذلك من جروح فعلاجه هيِّنٌ لا يرقى إلى سفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل؛ لأنَّ دماء البشر أغلى من أن تُهدر ظلمًا نتيجة إرادةٍ ظالمةٍ وقوى متغطرسة، فالقضاء وحده هو الذي يُقَرِّر العقوبة ضدَّ الجاني؛ بحيث إنَّها لا تسري إلى الأقارب والعشيرة، والذي لا يلتزم بهذا القيد يكون قد أهلك نفسه وأهل بيته، وأصبح مهدور الدم إلَّا إذا كان مظلومًا[8]، والحقُّ أنَّ هذه الشروط أو البنود الوقائيَّة قد حافظت على سلامة وأمن المجتمع الجديد، وأنَّها لو اتُّخِذَتْ نموذجًا للسير على نهجه لكان ذلك خيرًا للبشريَّة كلِّها.
كما حدَّدت الوثيقة العدوَّ المشترك، وهي الفئة الباغية الداعية إلى الشرِّ، واللاهثة خلف استئصال قيم الخير والعدل التي حملها النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، هذا العدوُّ المشترك يتمثَّل في قريش؛ فقد جاء في الفقرة الثانية من البند رقم (22) أن "لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ". لأنَّ إجارة المال القرشي هو عونٌ مباشرٌ أو غير مباشرٍ على المؤمنين في المدينة المنوَّرة، وقد جاء التحذير بصورةٍ مباشرةٍ في البند رقم (50) بقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا". وبهذا حَدَّدت الوثيقة بكلِّ وضوح ماهية العدوِّ المشترك، وضوابط التعامل معه.
كما حرصت الوثيقة على تحديد الهويَّة الإسلاميَّة والدينيَّة للدولة الجديدة، في المؤمنين بالإسلام (العقيدة)، والقاطنين في المدينة (الأرض)، وقد تعاملت الوثيقة مع هذين المستويين بكلِّ وضوح، وصرَّحت على محاربة كلِّ مَنْ يتجرَّأ على هذين المشتركين المهمَّين، كما في البندين رقم (41)، (42)؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ". وفي البند رقم (51) حيث الدفاع عن الأرض كما مرَّ بنا آنفًا، وفي البند رقم (52) حيث الدفاع المستميت عن الدين؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم مخاطبًا الجانبين المسلم واليهودي: "إِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، وَإِنَّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إلَّا مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ".
وبعدُ، فإنَّ وثيقة المدينة تحتاج إلى دراسةٍ متخصِّصَةٍ لاستقصاء الجوانب المتعلِّقَة بالمشتركات الإنسانيَّة، وما أكثرها فيها، وقد حاولنا في هذه الصفحات القليلة أن نُنَبِّه على أهميَّة هذه الوثيقة، لكن لا شكَّ أنَّ الأمر يحتاج إلى دراسة أعمق؛ فهي من أقدم الوثائق الدستوريَّة في العالم، وقد استطاعت أن تُحَقِّقَ التعايش المشترك بين طوائف كانت متباعدةً كلَّ التباعد، متناحرةً كلَّ التناحر؛ وخاصَّةً أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حرص على تفعيلها وتطبيقها منذ اليوم الأوَّل من كتابتها، فكان ذلك دليلًا على دقَّتها وواقعيَّتها وأمانتها في التعامل مع جميع الأطياف في المدينة المنورة.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] أحمد قائد الشعيبي: وثيقة المدينة، المضمون والدلالة، مقدمة الأستاذ عمر عبيد حسنة، ص28، 29.
[2] كامل سلامة الدقس: دولة الرسول r من التكوين إلى التمكين، ص403، 404.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 1/502-505، وابن سيد الناس: عيون الأثر في فنون المغازي والسير 1/260-262، وابن كثير: السيرة النبوية 2/321-323، والمباركفوري: الرحيق المختوم، ص176، ومحمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص57-64، وأكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص119-122، وإبراهيم العلي: صحيح السيرة النبوية، ص145-148.
[4] أكرم العمري: المجتمع المدني، ص129.
[5] دائرة المعارف البريطانية 3/332.
[6] حدَّد النبي صلى الله عليه وسلم حُرم المدينة الأربعة في أكثر من حديث؛ منها ما قاله r: "مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ". وقوله r: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ..". البخاري: كتاب أبواب فضائل المدينة، باب لابتي المدينة (1774)، ومسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة (1370).
[7] محمد الطالبي: دستور المدينة، مقال في مجلة الهداية التونسية، نقلًا عن أحمد قائد الشعيبي، ص79.
[8] أحمد قائد الشعيبي: وثيقة المدينة ص135، 136.