قصة قصيرة عمى الالوان
مرت ثلاثون سنة ، وعبد الله الاسمر لم يلتق صديقه الدكتور نبيل . . . مرت السنون الثلاثون مثل حلم أثناء قيلولة الظهيرة ، وبقيت الذكريات تتجول في رأسيهما ، كلا منهما شق طريقه في معترك الحياة .
يجلس عبد الله الاسمر كعادته كل يوم في المقهى . يتناول فنجان قهوته ببطء ، يمسك بصحيفة الصباح يقرأ اهم اخبار البلاد والعباد ، يبدأ باخبار السياسة وينتهي بالوفيات . . . لكن هاجسا غريبا دفعه هذا اليوم للنهوض مبكرا من نومه . شعور غريب انتابه . وبدت الافكار تتوالى في رأسه مثل شريط سينمي سريع . خرج من البيت ليسير على غير ذي هدى ، متأبطا وحدته ، سار في الشارع المعاكس للمقهى ، وسط ابتهاج الحياة ، وازدحام الشارع بالمركبات ، وصخب البائعين والمتبضعين ، ولم يكن بوسعه ان يسير بتؤدة ، حيث بدا له المجهول مثل غول ينقض عليه . انه شارع طويل تحيط به اشجار اليوكالتوس من جانبيه . ونافورة في بدايته يزيد رذاذها من تخفيف حرارة الطقس . لكنه لم يأبه لجمال الشارع والسعادات التي يحتضنها المارة .
عاد الى الشارع الذي اعتاد ان يمر به كل صباح . حيث الطريق الى المقهى . ردد مع نفسه : ما هذا الفراغ القاتل؟؟ اقترب من المقهى وقرر ان يتناول فنجان قهوته ويقرأ صحيفة الصباح ليطلع على اخبار البلاد والعباد .
بعد ان وصل المقهى . وقف امام بوابتها ، تردد بالدخول . محدقا بالجالسين . ليختار المكان المناسب لجلوسه والذي كان يفضله ان يكون منعزلا . استغرب النادل من عدم دخوله ووقوفه . خرج ليقول له :
-- ايها الاسمر . . . ان رجلا جالسا داخل المقهى بانتظارك ،
اشار النادل له ، انه صديقه الذي لم يره منذ ثلاثين عاما ، انه الدكتور نبيل . . . تصافحا وتعانقا ، والشوق يلف روحيهما . جلسا امام المقهى ، قبالة الشارع العام . اعادا بعض ذكرياتهما . وما هي الا دقائق . واصوات مدوية . . هلع . . . الشارع يخلو من المركبات . . . خرج الزبائن من المقهى بلمحة بصر . لكن عبد الله الاسمر بقي متسمرا في مكانه . مما اضطر الدكتور نبيل ان يجلس معه غير مكترث لما يجري .
-- ماهذا الذي يحدث ؟؟
-- لا اعلم ، كثيرا ما يحدث هذا .
-- انها نار مشتعلة . انظر الى ألسنة النار يتطاير منها الشرر .
-- اجلس ياصاحبي . لا توجد نار . انها الحالة الهستيرية التي تنتاب الانسان فيتصور اشياء لا وجود لها .
--- ولكنها نار حقيقية ايها الاسمر !!!
وضع الاسمر يده فوق جبهته لتتضح له الرؤية . قال لصديقه الدكتور نبيل : انها سحابة سوداء . سوداء داكنة .
-- ولكنها ألسنة لهب . ألم ترها ؟؟
- انها سحابة سوداء . كما اقول لك . ألم تثق بكلامي ؟؟
-- يا عبد الله . . . ألم تر النار ؟؟
-- اقول لك : لم ار سوى اللون الاسود .
نهض الدكتور نبيل مذعورا . . . مد يده ليصافح صديقه عبد الله الاسمر ويدعوه لمراجعته في عيادته لاجراء الفحوصات لعينيه لانه مصاب بمرض ( color blidness) .