في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بلغ غرور الماديين الى حد عجيب, حسبوا ان الحقائق المطلقة التي يخضع لها الناس هي الاحكام التي تصدرها دور التشريح ومراصد الكواكب ومعامل الطبيعة والمختبرات العلمية, وأنه ليس في الدار غير المادة واثارها ديار.
لكن الفلسفة المادية افاقت من غرورها في طلائع القرن العشرين, وجاءت المعاول العلمية من النقد الصحيح على ما بنوه في القرنين فهدمت ما اشادوه وفرقت ما جمعوه وحسبوه حقائق, وعرفوا أن ما نسجوه من الافكار اقرب الى الوهم والخيال منها الى الحقائق.
فلا تجد اذن للمذهب المادي اصالة وقُدُم, وانما انعقدت نطفة نظامه الفلسفي في اوليات القرن الثامن عشر, ثم لم يمكث حتى تزعزع صرحه العلمي الفلسفي فجأة بشدة وظهر عليها التناقص والتهافت بصورة واضحة.
نعم, تدعي المادية حتى اليوم بالاقدمة والاصالة, حتى اصبحت تدعي أن المخترعين والمستكشفين ومؤسسي العلوم مادييون, حتى يستغوي بذلك السواد الاعظم, وغدا يُعرف ارسطو (ذلك الحكيم الالهي ) ممن يتراوح بين المادية والسفسطة والشيخ الاعظم ابن سينا ماديا! بل انهم زعموا ان اليونايين من المالطيين من اولهم الى سقراط كلهم من اتباع المذهب المادي!
وقد عرّف (بوخنر) الالماني ـ من اعلام الماديين في القرن التاسع عشر ـ جماعة كبيرة من العلماء الذين صرفوا برهة اعمارهم في العلوم الطبيعية, ماديين واسلافا للمسلك المادي, غافلا عن أن كون الرجل عالما طبيعيا غير كونه ماديا غير مؤمن بالعالم الروحاني, فان كون الرجل طبيعيا يرجع الى انه كان باحثا عن العلوم الطبيعية تجاه الرياضي الذي يبحث عن خواص الاعداد, والسوفسطائي الذي ينكر الحقائق الخارجية الطبيعية, او يرجع معناه الى أن الرجل كان من المتخصصين في العلوم الطبيعية ومتوغلا فيها يوم كان علم الطبيعة في دور السذاجة والبداءة.
واليك اسماء من ذكرهم الكاتب الالماني اسلافا لمنهجه مع ذكر بعض ارائهم:
1. كاليس: زعم ان المادة الاولية هي الماء, فبتكاثفه وجدت الارض, وبتمدده تولد الهواء والنار.
2. انكزيماندر (انكسمند روس): يرى ان مادة المواد هي الهيولى المبهمة واللا نهاية المطلقة, اي الحالة غير المحدودة التي يخرج ويعود اليها كل كائن.
3. هراكليت (هرقليطوس): يعتقد ان النار هي المادة الاولى.
4. هراكليت (هرقليطوس): يعتقد أنّ النار هي المادّة الأُولى.
5ـ امبيدو كل (أبناذقلس): يذهب إلى أنّ أصـل المادّة الماء والتراب والهواء والنار مجتمعة.
6ـ ديمو كريت (ذيمقراطيس) : يرى أنّ المادّة تتألّف من ذوات صغيرة جدّاً.
إنّ هؤلاء ومن لفّ لفّهم من المتوغّلين في البحث عن مظاهر الطبيعة، وهم الذين يعتبرهم المادي أسلافاً لنفسه، اغتراراً بتعليلهم الحوادث الطبيعية بعللها ومظاهرها بحقائقها، وتوغلّهم في كشف الروابط الموجودة في النظام الطبيعي، لكنّه فاته أنّ الإيمان بالنواميس والعلل المادية لا يلازم الإلحاد والإنكار، وإلاّ يلزم أن يكون كلّ الإلهيين من الأغارقة والإسلاميين من الملاحدة بل الأنبياء العظام والصلحاء من أوليائهم كلّهم من الملاحدة.
وما زعمه المادّي دليلاً لإلحادهم فهو من أفحش الأغلاط، إذ الأكابر من الإلهيين وأصاغرهم لا يختلفون قط في أنّ هنا مادة واحدة تنحل إليها البواقي، وأنّ لمظاهر الحياة عللاً طبيعية، وأنّ الحوادث والسوانح تنتهي إلى عوامل مادّية.
ضع يدك على المئات المؤلّفة من كتبهم تجدها مليئة بالبحث عن المادة الأُولى والعلل الطبيعية، ولكن ذلك لم يصدّهم من التألّه والإيمان بما ورائها.
على أنّ آراء تلك الطبقة التي عدّهم المادّي أسلافاً لنفسه في المباحث الإلهية ترد تلك المزاعم، فإنّ لـ«كاليس» و«انكسيمانوس» رأياً خاصاً في علم الباري ـ عزّ شأنه ـ خصّه أصحاب الفلسفة الإلهية بالبحث والتنقيح.
نعم، ناقض «بوخنر» قوله بما نقله عن «هراكليت» في نفس الإنسان من أنّها شعلة وهاجة تأججت من الأزلية الإلهية.
بلى، ناقض قوله في مكان آخر أيضاً حيث نقل عن «ابناذقلس» أنّه كان يرى الخلود لنفس الإنسان، بعد موت الإنسان حتى تصل إلى غاية معينة من الراحة والشوق والحب.
أجل، أبطل مدّعاه بما رواه عن «هراكليت» أنّه قال: إنّا نرى الأشياء ثابتة ولكنّها في الحقيقة في حالة الزوال والتجدّد ولا ثبات لها أصلاً، وأنّ العالم كالنار الشحناء تتأجج تارة وتنطفي أُخرى، وهي لعبة بعض الآلهة.
وليس يخفى على النابه أنّ تلك الكلمات رموز لحقائق لم تقصد ظواهرها، بل لهم في غايات، وقد نقل صدر المتألّهين في أواخر السفر الثالث كلمات من هؤلاء الأعلام ثم قال: إنّ كلماتهم كانت مشحونة بالألغاز والرموز، وأنّ النقلة قد نقلوها من غير تدبّر وتعمّق، وقد أرجع تلك الكلمات إلى القول بحدوث العالم وكونه متحرّكاً ومتغيّـراً بحركة جوهرية، وليس هنا أيّ دليل على كونهم مادّيين سوى وجوه أوعزنا إليها وقلنا: إنّ المادّي والإلهي في هاتيك الوجوه سواسية،
لأنّ الاعتقاد بمادة المواد، أو تعليل الحوادث بعلل طبيعية، أو الاعتقاد بأن نظام الوجود نظام وجوب وضرورة، أو الإذعان بأنّ الموجود الطبيعي ليس يوجد من كتم العدم، أو العناية بالتجارب والتدريب في تحقيق المسائل الطبيعية ... كل ذلك لا يختص بالمادّي بل هو عند المادّي والإلهي سواء.
والمادّي ـ لأجل بُعده عن المسائل الإلهية ونظامها الخاص ـ زعم أنّ تلك العقائد تنافي القول بالعوالم الروحانية، ومن جراء ذلك رمى كل من تفوّه بهذه المبادئ العلمية الطبيعية بالمادّية والإلحاد، وإن كان يصرّح بالإيمان بمبدأ غيبي وراء الأُفق المادّي.
وقد صار ذلك منشأ لأغلاط واشتباهات، حتى عمّت وسرت إلى كُتّاب تاريخ الفلسفة. نعم، قد صح عن «ذيمقراطيس» (ديمو كريت) و «ابيكور» وأتباعهما، إنكار تجرّد النفس وخلودها بعد الموت.
كتاب اصول الفلسفة, مع تصرف يسير
لمراجعة الجزء الاول,
اضغط هنا