بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
1 ـ مولده
وُلد الإمام عليُّ بنُ موسى الرِّضا (عليه السّلام) في الحادي عشر من شهر ذي القعدة ، يوم الخميس أو يوم الجمعة ، بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومئة ، بعد وفاة جدّه الصّادق (عليه السّلام) بأيّام قليلة ، وكان الإمامُ الصّادق (عليه السّلام) يتمنّى إدراكه .
فقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) أنّه قال : (( سمعتُ أبي جعفرَ بنَ محمّد (عليهما السّلام) غير مرّة يقول لي : إنّ عالمَ آلِ محمّدٍ (عليه السّلام) لَفِي صُلبِكَ ، وليتني أدركتُهُ ؛ فإنَّهُ سميُّ أميرِ المؤمنين (عليه السّلام) )) .
أمّا أبوه فهو الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ، وأمّا اُمّه فهي اُمُّ ولد يُقال لها : اُمّ البنين ، واسمها نجمة ، ويُقال : تكتم . اشترتها حميدة المُصفّاة اُمُّ الإمام موسى (عليه السّلام) ، وكانت من أفضل النِّساء في عقلها ودينها ، وإعظامها لمولاتها .
وروي أنّ حميدة رأت في المنام رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لها : (( يا حميدة ، هبي نجمةً لابنكِ موسى ؛ فإنّهُ سيُولد له منها خيرُ أهلِ الأرضِ )) . فوهبتها له ، فلمّا ولدت له الرِّضا (عليه السّلام) سمّاها الطَّاهرة .
وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن نجمة اُمِّ الإمام الرِّضا (عليه السّلام) تقول : لمّا حملتُ بابني عليٍّ لم أشعر بثقل الحمل ، وكنتُ أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً من بطني ، فيفزعني ذلك ويهولني ، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً , فلمّا وضعتُهُ وقع على الأرض واضعاً يده على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء , يُحرّك شفتيه كأنّه يتكلّم ، فدخل إليّ أبوه موسى بن جعفر (عليه السّلام) فقال لي : (( هنيئاً لكِ يا نجمة كرامة ربِّك )) .
فناولته إيّاه في خرقة بيضاء ، فأذّن في اُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ودعا بماء الفراتِ فحنّكه به ، ثم ردّه إليَّ وقال : (( خُذيه ؛ فإنَّهُ بقيّةُ اللهِ في أرضِهِ )).
وروي عن البزنطي قال : قلتُ لأبي جعفر (عليه السّلام) : إنَّ قوماً من مخالفيكم يزعمون أنّ أباك (عليه السّلام) إنّما سمّاه المأمونُ الرِّضا ؛ لما رضيه لولاية عهده .
فقال (عليه السّلام) : (( كذبُوا والله وفجروا ، بل اللهُ تبارك وتعالى سمّاه الرِّضا ؛ لأنّه كان رضيَّ الله عزّ وجل في سمائه ، ورضيَّاً لرسوله والأئمَّة من بعده (عليهم السّلام) في أرضه )) .
قال : فقلتُ له : ألم يكُنْ كلُّ واحدٍ من آبائك الماضين (عليهم السّلام) رضيَّ الله عزّ وجل ، ولرسوله والأئمَّة من بعده (عليهم السّلام) ؟
فقال : (( بلى )) .
فقلتُ : فلِمَ سُمِّي أبوك (عليه السّلام) من بينهم الرِّضا ؟
قال : (( لأنَّه رضيَ به المُخالفونَ من أعدائِهِ كما رضي به الموافقونَ من أوليائه ، ولم يكن ذلك لأحدٍ من آبائه (عليهم السّلام) ؛ فلذلك سُمِّي من بينهم الرِّضا (عليه السّلام ) )).
2 ـ فضائلُهُ ومناقبُهُ ومعاجزُهُ (عليه السّلام)
فضائل ومناقب ومعاجز الأئمَّة (عليهم السّلام) خرجت عن حدِّ العدِّ والإحصاء ، بل قد يكون حصرُها مستحيلاً ؛ لكثرتها وعدم الإحاطة بها ، ومن هؤلاء الأئمَّة (عليهم السّلام) الإمام أبو الحسن الرِّضا (عليه السّلام) ؛ فقد حوى من المناقب والفضائل ما أبهرت عقول البشر ، إضافة إلى ما وهبه الله من عِلمٍ دانت له الفرق والملل .
فقد روي عن أبي الصّلت الهروي أنّه قال : ما رأيتُ أعلم من عليِّ بن موسى الرِّضا (عليه السّلام) ، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجالس له ـ ذوات عدد ـ علماء الأديان وفقهاء الشَّريعة والمُتكلِّمين ، فغلبهم عن آخرهم حتَّى ما بقي أحدٌ منهم إلاّ أقرّ له بالفضل ، وأقرّ على نفسه بالقصور ، ولقد سمعت عليَّ بن موسى الرِّضا (عليه السّلام) يقول : (( كُنتُ أجلس في الرَّوضة ، والعُلماءُ بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحدُ منهُمْ عنْ مسألةٍ أشاروا إليَّ بأجمعِهمْ ، وبعثوا إليَّ بالرَّسائل فاُجيب عنها )) .
وكان (عليه السّلام) إذا خلا جمع حشمه كلَّهم عنده ، الصغير والكبير ، فيُحدِّثهم ويأنس بهم ويؤنسهم ، وكان (عليه السّلام) إذا جلس على المائدة لا يدع صغيراً ولا كبيراً حتَّى السَّائس والحجّام إلاّ أقعده معه على مائدته .
ومن معاجزه (عليه السّلام) ما روي عن الريّان بن الصّلت أنّه قال : لمّا أردت الخروج إلى العراق عزمت على توديع الرِّضا (عليه السّلام) ، فقلتُ في نفسي : إذا ودّعته سألتُه قميصاً من ثياب جسده لاُكفَّن به ، ودراهم من ماله أصوغ بها لبناتي خواتيم ، فلمّا ودّعته شغلني البكاء والأسى على فراقه عن مسألتي تلك ، فلمّا خرجت من بين يديه صاح بي : (( يا ريّان ، ارجع )) .
فرجعت ، فقال لي : (( أما تُحبُّ أنْ أدفعَ إليك قميصاً من ثياب جسدي تُكفَّن فيه إذا فنى أجلك ؟ أوَ ما تُحبُّ أنْ أدفعَ إليك دراهمَ تصوغُ بها لبناتك خواتيم ؟ )) .
فقلتُ : يا سيدي ، قد كان في نفسي أنْ أسألك ذلك فمنعني الغمّ بفراقك .
فرفع (عليه السّلام) الوسادة وأخرج قميصاً فدفعه إليّ ، ورفع جانب المُصلّى فأخرج دراهم فدفعها إليَّ ، فعددتها فكانت ثلاثين درهماً .
ومنه أيضاً ما رواه ابن شهر آشوب عن سُليمان الجعفري أنّه قال : كنتُ مع الرِّضا (عليه السّلام) في حائطٍ له وأنا معه ، إذ جاء عصفور فوقع بين يديه , وأخذ يصيح ويُكثر الصِّياح ويضطرب ، فقال لي : (( يا سُليمان ، تدري ما يقولُ العصفورُ ؟ )) .
قلت : لا .
قال : (( إنّه يقول : إنّ حيّةً تأكلُ أفراخي في البيت . فقم فخذ النبعة في يديك ـ يعني العصا ـ وادخل البيت واقتُل الحيَّة )) . فأخذت النَّبعة ودخلتُ البيت ، فإذا حيَّةٌ تجول في البيت فقتلتُها.
3 ـ شهادتُهُ (عليه السّلام)
لمّا استتب الأمر للمأمون أخذ الجلاوزة والوشاة يُهوّلون عليه خطر الإمام الرِّضا (عليه السّلام) وهو في المدينة ، ولم يكُنْ الإمام (عليه السّلام) بصدد القيام بثورة ضدّه ؛ لكون تلك الاُمور مرهونة بأوقاتها وأوامرها الإلهيّة ، ولكن مع هذا كلِّه ذكروا له أنّه لا راحة لبالك إلاّ أنْ تأتي بعليِّ بن موسى الرِّضا إلى مدينة خراسان ليكون تحت نظرك وقريب منك ؛ تعلم بشرِّه وخيره .
فاستجاب لهم ، وأُتي بالإمام (عليه السّلام) مع بعض أهل بيته وعياله ، وبعد عناء السّفر الطويل وصل الإمام (عليه السّلام) لمدينة ( مرو ) ، وقد عرض المأمون على الإمام (عليه السّلام) ولاية العهد إلاّ أنَّ الإمام (عليه السّلام) رفضها بأشدّ الرفض ، قائلاً له : (( أتُريدُ أنْ يُقال : إنّ الرِّضا ما كان زاهداً في الدُّنيا ، وإنَّما هي زاهدةٌ فيه ؟! )) .
ولذا عندما عُرضت عليه ولاية العهد قبلها مُكرَهاً ، وهو ما يبيّنه بقوله (عليه السّلام) : (( لا والله ، ما كنتُ راضياً بذلك من تلقاء نفسي أبداً )) . وكذلك قال (عليه السّلام) : (( لقد نهانِي اللهُ أنْ اُلقي نفسي بالتَّهلكة )) . وقبلها بشرطِ أنّه لا يأمر ولا ينهى ، ولا يعزل ولا يُولّي ، ولا يتكلّم بين اثنين في حكومة ، ولا يُغيّر شيئاً ممّا هو قائم على أصله , فأجابه المأمون على ذلك .
ثم إنَّ المأمون جلس مجلساً خاصّاً لخواصِّ أهل دولته من الاُمراء والوزراء ، والحُجّاب والكُتّاب ، وأهل الحلِّ والعقدِ ، وكان ذلك في يوم الخميس لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومئتين .
وبعد فترة لم يرقَ للمأمون ما صنعه للإمام الرِّضا (عليه السّلام) من ولاية العهد ، وندم على فعلته هذه ، وإنّ حبَّ النّاس ما زال يزداد يوماً بعد يوم للإمام (عليه السّلام) ؛ ممّا دعاه أنْ يُفكر بالقضاء على أبي الحسن الرِّضا (عليه السّلام) ، وبالفعل صمّم على قتل الإمام (عليه السّلام) .
روى الشبلنجي في ( نور الأبصار ) عن هرثمة بن أعين ـ وكان من رجال المأمون ، والقائمين على خدمة الإمام الرِّضا (عليه السّلام) ـ قال : طلبني سيّدي أبو الحسن الرِّضا (عليه السّلام) في يوم من الأيّام ، وقال لي : (( يا هرثمة ، إنّي مُطلعُكَ على أمرٍ يكونُ سرّاً عندك ، لا تُظهرُهُ لأحدٍ مُدّةَ حياتي ، فإذا أظهرته مُدّةَ حياتي كُنتُ خصماً لك عند الله )) .
فحلفت له أنّي لا أتفوه بما يقوله لي لأحد مدّة حياته .
فقال لي : (( اعلم يا هرثمة أنّه قد دنا رحيلي ولحوقي بآبائي وأجدادي ، وقد بلغ الكتابُ أجلَهُ ، وإنّي اُطعَم عِنباً ورُمّاناً مفتوتاً فأموت ، ويقصد الخليفة أنْ يجعلَ قبري خلف قبر أبيه هارون الرشيد ، وإنّ الله لا يُقدره على ذلك ، وإنّ الأرض تشدُّ عليهم ؛ فلا تُعمل فيها المعاول ، ولا يستطيعونَ حفرها )) .
وهكذا حصل ما أخبر به الإمام الرِّضا (عليه السّلام) ، فما مرّت الأيّام إلاّ وقد فعل الظالمُ فعلته العظيمة بخليفة الله في الأرض ، وإمام الإنس والجنّ معاً ، عليِّ بن موسى الرِّضا (عليه السّلام) .
قال أبو الصّلت الهروي : دعاني سيدي ومولاي الرِّضا (عليه السّلام) ، فلمّا حضرت عنده قال لي : (( يا أبا الصّلت ، غداً يبعثُ عليَّ هذا الفاجرُ فاُدخل عليه ؛ فإنْ أنا خرجتُ مكشوفَ الرَّأسِ كلّمني ، وإنْ أنا خرجتُ وأنا مُغطّى الرأس فلا تُكلّمني )) .
قال الهروي : فلمّا أصبحنا من الغدِ لبس الإمامُ (عليه السّلام) ثيابَهُ ، وجلس في محرابه كأنه ينتظر ، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه غلامُ المأمون ، وقال : أجب أمير المؤمنين .
فلبس نعله ورداءه ، وقام يمشي ـ وأنا أتبعه ـ حتى دخل على المأمون ، وبين يديه طبق عنب وأطباق الفاكهة ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا أبصر الرِّضا (عليه السّلام) وثبَ إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ، ثم ناوله العنقود وقال : يابنَ رسول الله ، ما رأيتُ عِنباً أحسن من هذا !
فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( رُبما كان عنبٌ أحسنَ مِنْ هذا في الجنّةِ )) .
فقال له : كُلْ منه .
فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( اعفني من ذلك )) .
فقال : لا بدّ من ذلك ، وما يمنعك منه ؟ لعلّك تتهمنا بشيء ؟
فتناول الإمام (عليه السّلام) العنقودَ وأكل منه ثلاث حبّات ، ثم رمى به وقام ، فقال المأمون : إلى أين ؟ فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( إلى حيثُ وجّهتني إليه )) .
قال أبو الصّلت : وخرج سيدي الرِّضا (عليه السّلام) وهو مُغطّى الرَّأس فلم اُكلّمه حتّى دخل الدار ، وأمر أنْ يُغلقَ الباب فغُلق ، ثم اضطجع على فراشه وراح يتقلّب ويضطرب ، ومكثتُ واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذا بشابٍّ حَسن الوجه ، قطط الشعر ، أشبه النّاس بإمامي الرِّضا (عليه السّلام) ، فبادرت إليه وقلتُ له : منْ أين دخلت والباب مُغلق ؟!
فقال : (( يا أبا الصّلت ، الذي جاء بِي مِنَ المدينةِ إلى طوس هو الذي أدخلني الدَّارَ والبابُ مُغلقٌ )) .
فقلتُ له : مَن أنت ؟
فقال : (( أنا إمامُك الجواد )) .
ثم مضى نحو أبيه ، فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرِّضا (عليه السّلام) وثب إليه فعانقه ، وضمّه إلى صدره ، وقبّل ما بين عينيه ، وصار يُوصيه بجميع ما أهمّه .
ثم إنّ الإمام الرِّضا (عليه السّلام) مدّد يديه ، وأسبل رجليه ، وغمّض عينيه ، وقضى نحبه صابراً مُحتسباً مسموماً , فالتفت إليّ الجواد (عليه السّلام) وقال : (( يا أبا الصّلت ، قُمْ فائتني بالمُغتسل والماء من الخزانة )) .
فقلت : ما في الخزانة مغتسل ولا ماء !
فقال لي : (( انتهِ لما أمرتُكَ بهِ )) .
فدخلتُ الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء فأخرجته ، وشمّرت ثيابي لأغسله ، فقال لي : (( تنحّ يا أبا الصّلت ؛ فإنَّ مَن يُعينني غيرك )) . فغسّله ثم قال : (( ادخُل الخزانة فأخرج لي السّفطَ الذي فيه كفنُهُ وحنوطُهُ )) .
فدخلت ، فإذا أنا بسفط لم أرهُ في تلك الخزانة قط ، فحملته إليه ، فكفّنه وصلّى عليه ، ثم قال : (( ائتني بالتَّابوت )) .
فقلتُ : أمضِ إلى النجّار حتى يصلح التابوت .
قال : (( قم ، فإنَّ في الخزانة تابوتاً )) .
فدخلتُ الخزانة فوجدتُ تابوتاً لم أرَه قط ، فأتيته به ، فأخذ الرِّضا (عليه السّلام) بعد ما صلّى عليه فوضعه في التابوت ، وصفّ قدميه وصلّى عليه .
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا آل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله) أيّ منقلب ينقلبون ، والعاقبةُ للمُتَّقين .