يرجع الماديون باصل مذهبهم الى نحو القرن السادس قبل الميلاد, ويدّعون ان المذهب المادي تكوّن من عهد الفيلسوف كاليس المولود عام 638 او 639 قبل الميلاد. ويعتبرون كل من اتى بعده من تلاميذه الى نحو 150 سنة قبل الميلاد اسلافا لانفسهم يمتّون اليهم باواصر وثيقة من القرابة المذهبية.
ولكن ليس لهذه المزعمة مسحة من الحق او لمسة من الصدق, بل كلها دعايات ودعاوى فارغة.
نعم, اذا سبرنا الكتب المؤلفة في الفلسفة في عصور الاغارقة والعصور الاسلامية نجد في غضون تلك الكتب اقوالا لهذه الطائفة. اذ يمكن ان تجد اقوالا للماديين في نفي العلة الاولى والعلة الغائية او تجردها عن المادة, وغير ذلك من الكلمات التي تدور عليها رحى الالحاد والمادية.
غير أن مثل تلك الاقوال من الماديين لا يدل على وجود نظام فلسفي لهم في عامة المباحث الفلسفية, وأن المادية كانت احدى المسالك الفلسفية في القرون الماضية وإن كان الماديون يدّعون اليوم, بل الغاية من سرد تلك الاقوال هي استيفاء الاحتمالات والكلمات الصادرة.
نعم, المادي يصر على اصالة الفلسفة الالحادية وقدمها ورواجها بين المفكرين, ويدعي ان الفلسفة المادية رسمت في بدء نشوئها طوال القرون المتمادية دوائر للممكنات والمستحيلات, وأن لها اصولا وقواعد ما زالت رائجة ودارجة...الخ. لكنها اساطير الفها الماديون, وتعلم موقفهم من الصدق وامانتهم في النقل اذا سبرت تاريخ الفلسفة.
نعم, منذ تكوّنت الفلسفة وراجت بين انبائها كان البحث في النواميس الطبيعية وغيرها قائما على قدم وساق, ثم تدرج هذا البحث في مدارج التطور والتكامل حسب تكامل الانسان وعلومه.
والتاريخ يحدثنا ان اول من احدث مسلكا فلسفيا ورسم نظاما خاصا هو الحكيم المشهور (هرمس), ثم اقتفى تلاميذه اثره واشاعوا مذهبه واشتهروا بالهرامسة لاجل تهالكهم في تحكيم ما تلقوه من استاذهم, وتلك الطائفة كانت مؤمنة بالعوالم غير الطبيعية, وكانت الفلسفة يومذاك تطلق على البحث عن عل الاشياء (راجع كتاب العلل المنسوب الى بليناس).
ثم جاء بعدهم الفلاسفة المالطيين وظهرت في المسائل الفلسفية اراء وعقائد, وتطورت الفلسفة تطورا بارزا عن عصور الهرامسة. ولم تختلف هذه الدورة عما قبلها, فقد كان البحث عن العوالم الغيبية قائما على قدم وساق, يشهد بذلك الاراء والعقائد المنقولة عنهم في الكتب الفلسفية والتاريخ الصحيح.
واما اليونانيون فقد قام منهم نوابغ يعدّون من اكابر الاساتذة في الفلسفة, تابعوا هذه المباحث الواصلة اليهم, على أن جماعة منهم عاصروا المالطيين وبقوا برهة بعد انقراضهم, وقد عرفت ان البحث عما وراء الطبيعة كان دارجا عندهم.
والهنود والصينيون لهم في تحكيم الفلسفة وعطف الانظار الى العلل غير الطبيعية خطوات واسعة, فقد برز منهم فلاسفة قبل ظهور المالطيين وعاشوا مدة بعد اشتهارهم.
والحاصل: انك لا ترى مسلكا فلسفيا طوال هذه القرون وما قبلها وما بعدها الا وقد خاض في البحث عن الاله وصفاته وشؤونه ومجرداته, وهذه كلها شواهد بيّنة على انه لم يكن طوال هذه السنين نظام فلسفي مادي متميز عما سواه حتى يلوذ به اللائذون, ولم يكن الالحاد مذهبا فلسفيا تجاه سائر المذاهب الفلسفية.
واما الدهريون فهم الشاكّون في تلك العوالم الغيبية, وهم يزعمون ان البراهين الواصلة اليهم من الالهيين ليست مقنعة, لكن الشاك غير المنكر, والمادي يدعي اصالة الانكار وقدمه, والتاريخ لا ينبئ عن وجود تلك الطائفة.
نعم, تهيأت البيئة الفكرية للرأي المادي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بصورة قوية, وقد اعلن المادييون في هذه الفترة الحرب على الفلسفة الالهية, وتمخّض الصراع بين الفلسفتين في هذه الفترة عن اتجاه مسلكي ونظام خاص للاتجاه المادي, تجاه سائر المسالك الفلسفية.
للموضوع تتمة, نلتقي في الجزء التالي
المصدر: كتاب اصول الفلسفة