السوفسطائية: طائفة من الاغارقة جاسوا خلال الديار وجاءوا باراء واهية في القرن الخامس قبل الميلاد. ونحن نقرأ فصلا مشبعا في تاريخ الفلسفة حول حياتهم وافكارهم, والذي دعاهم الى تأسيس ذلك المسلك امران:
الأول: ظهور الآراء المتشتتة بين الفطاحل الاعلام في الأبحاث الفلسفية فيما يتعلق ببدء العالم ونهايته, وموجده وغرضه, وهذه الطائفة بما كان لهم من البساطة في الفهم لمّا وقفوا على الآراء المختلفة في الأبحاث العلمية والفلسفية ورأوا ان كل طائفة تخطّئ أخرى وترد براهينها, وشاهدوا ان التشاجر والتنازع لم يزل قائما على ساقيه لا يقف على حد فلا ينقطع البحث ولا يصل الى غاية, بل كلما اتسع نطاق البحث والجدال اتسعت أيضا دائرة الخلاف.
وهذا التبسط والتكثير في الآراء من جانب وبساطة افهام القوم في تمييز الصحيح منها عن الزائف من جانب اخر, جعل افهامهم حيارى والعقول صرعى فاحدثوا مسلكا خاصا في تحليل الحقائق وهو مسلك السفسطة.
الثاني: ظهور فن الخطابة في هذه الأدوار, وبما ان الخطابة لا تبتنى على أساس رصين او قاعدة علمية او على حس وتجربة, وانما هي ذوقيات وتحليلات تستحسنه البسطاء حيث تجدها ملائمة لبعض قواها كان لها اشد التأثير في عامة الأدوار, وكان له الدور العظيم في تلك الاعصار وبلغت الدرجة القصوى حيث كانوا يستعملون الخطابة من وعظهم وارشادهم, ويستعملها رجال السياسة لاجل دفع الغائلات او إقامة الثورات, ويستمد منها الوكلاء في المحاكم القضائية للدفاع عن موكليهم, فلاجل ذلك دونوا لها اصولا وقواعد عكفوا على دراستها في المعاهد العلمية الى ان صارت فنا مستقلا له معهد خاص واستاذة خاصّين.
غير ان الذي اعان كثيرا على ظهور السفسطة في الجوامع العلمية هو القسم الخاص من الخطابة, اعني: ما كان يلقيه المحامون في المحاكم للدفاع عن موكليهم, فقد كان المحامون يتشبثون بكل شي ليدافعوا عن موكليهم حقا كان او باطلا, بل ربما كانوا يدافعون عن المتخاصمين جميعا.
هذا وذاك صارا أساسا لتشكيك القوم في ثبوت واقعية وراء التفكير الإنساني, حيث انهم رأوا ان الحقائق ملعبة التفكير, وان الواقعيات اهداف لكل مقال وخطاب يصيبها كل من اهدف ورمى, فلا فرق بين شخص دون اخر.
جرّهم هذان الامران الى الاعتقاد بصحة العقائد عامة وان الحق والصواب لا يقفان عند حدّ ولا يدور على شيء غير التفكير الإنساني, جرّهم الى القول بانه ليس لنا حق ولا باطل ولا صحيح ولا خطأ ولا صدق ولا كذب, بل الآراء كلها صحيحة صادقة وان كانت متناقضة في انفسها لان الحق ما راه الانسان حقا, والباطل ما راه باطلا. الى ان اجترأوا وقالوا بان الحقائق تابعة للشعور الإنساني, حتى لو حكم الرجلان بحكمين مختلفين فكلاهما صحيحان.
وبما ان القوم كانوا مهرة قومهم في فنون العصر سمّوا كل من برع في الفنون بـ (سوفيست) بمعنى العالم البارع. ولعل لفظة السوفسطائي معرّب تلك الكلمة, غير ان تلك الكلمة تطلق اليوم على كل من لا يعتقد باصل ثابت علمي ويقال بانه على مسلك (سوفيسم).
ومن مشاهير تلك الطائفة (بروتاكوراس), (Protogoras) كان يقول: ان مقياس الحق والباطل هو الانسان نفسه, وكل من يحكم بشئ على طبق فهمه وادراكه يتّصف بالحق والصحة, لان الحقيقة ليست امرا وراء ما يفهمه الانسان حتى لو اختلف الانسانان في قضائهما وشكّ ثالث في ترجيح احد الحكمين فهو صادق وكاذب, صحيح وباطل, أي موصوف بهذه الاوصاف وحده, لانه ليس لنا معيار وراء الافهام والاذهان.
ومن مشاهيرهم ايضا (كوركياس), (Gorgias), غير انه تفرد برأي نقله عنه اصحاب التواريخ, وهو انه يستحيل ان يوجد شئ في العالم ولو وُجد لا يمكن معرفته, ولو عُرف لا يمكن توصيفه, واقام البرهان على دعاويه.
نعم, كان القوم تائهين في غلوائهم, يسوقون العامة الى حضيض الجهل والظلمة الى ان بدّد الله شملهم بمكافحة الفطاحل من الاغارقة الاقدمين كسقراط وافلاطون وارسطو, فقاموا على طردهم ورد شبهاتهم حتى اوضحوا خططا علمية ورسموا دوائر واوضحوا بها ان للاشياء واقعية وكيفية معينة لا تتجاوز عنها قدر شعرة, وان اختلفت الاراء والافكار في ادراكها وان الفلسفة هي العلم باحوال الاعيان الخارجية على ما هي عليها, ولو ان الانسان مشى في تحصيل ضالته على نسق صحيح لظفر به.
وقام المعلم الاول بتدوين المنطق وتبويبه واصلاحه حتى يعتصم به عن الاخطاء حتى استطاع ان يقضي على شبهات القوم باقامة الدلائل وتوضيح المسالك. غير ان السفسطة في أُخريات ايامها اثارت فتنة اخرى واوجدت ضجة كبرى وهي ظهور مذهب (الشكوكية ), ( Scepticisme), اي مسلك الشك والترديد وقد مشى عليه عدة من اليونانيين قائلين بانه الطريقة الوسطى بين السفسطة التي تريد ان تضرب على الحقائق بقلم عريض وعلى كل ما في الكون من وجود وثبوت سوى الانسان وذهنه وتفكيره, والفلسفة التي مشى عليها سقراط واساتذته وتلامذته واعتقدوا بامكان الوصول الى حقائق الاشياء.
قالوا: ان الطرق التي اتخذها الانسان لنفسه لان يصل الى واقعيات الاشياء وما في الكون من حقائق ودقائق لا تعطيه يقينا ولا اطمئنانا, اذ ان الحس والعقل خاطئان في ادراكهما بلا شك في موارد شتى, وما رسمه ارسطو من دوائر منطقية لعصمة التفكير الانساني عن الخطأ لا تعطيه العصمة اصلا, فالأُولى تحفظا على كرامة الواقع هو التوقف في الرأي والسكوت دون الواقع, من غير فرق بين المسائل طبيعيا كان او غيره.
فكان هذا مختار جماعة من الفلاسفة الذين نشأوا بعد الميلاد في اليونان والاسكندرية الى ان خُتم امرهم وصاروا كحديث امس الدابر.
منقول من حاشية كتاب (اصول الفلسفة), بتصرف يسير