يمتد العصر العباسي الأول قرنًا من الزمان، من سنة (132هـ= 749م) إلى سنة (232هـ= 847م)، ويعد العصر الذهبي للخلافة العباسية؛ حيث تمتع الخلفاء بسلطتهم الدينية والدنيوية.

وخلفاء هذا العصر تسعة، هم:

1 - أبو العباس عبد الله المشهور بالسفاح (132 - 136هـ / 749 - 753م).
2- المنصور (136 - 158هـ / 753 - 775م).
3 - المهدي (158 - 169هـ / 775 - 785م).
4 - الهادي (169 - 170هـ / 785 - 786م).
5 – هارون الرشيد (170 - 193هـ / 786 - 809م).
6 - الأمين (193 - 198هـ / 809 - 813م).
7 - المأمون (198 - 218هـ / 813 - 833م).
8 - المعتصم (218 - 227هـ / 833 - 842م).
9 - الواثق (227 - 232هـ / 842 - 847م).

ويتناول هذا المقال الأوضاع الحضارية في العصر العباسي الأول من الناحية السياسية والإدارية والاقتصادية والعمرانية والفكرية والعلمية.

أولًا: النظام السياسي والإداري، ويشمل:

أ- الخلافة:

وقد أقام العباسيون دولتهم سنة (132هـ= 749م)، وتولى أول خلفائهم أبو العباس عبدالله بن محمد السلطة بناءً على وصية أخيه إبراهيم الإمام بعد وقوعه في قبضة الأمويين، وقد حكم أبو العباس أربع سنوات، وقبيل وفاته عهد إلى أخيه أبي جعفر المنصور بولاية العهد من بعده، ومن بعد أبي جعفر، عيسى بن موسى، وكتب العهد بهذا وصره في ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتم أهل بيته وسلَّمه إلى عيسى بن موسى.

ومن هنا نلاحظ أن الحكم قد بدأ وراثيًّا في عهد الدولة العباسية منذ اللحظة الأولى، واقتصر على أهل البيت العباسي، كما أن أكثر الخلفاء كان يُوصي بولاية العهد إلى أكثر من شخص؛ ممَّا أدَّى إلى صراعات ساعدت على تصدُّع الدولة العباسيَّة.

وحين تولَّى أبو جعفر المنصور الخلافة واجه اعتراضًا من عمِّه عبد الله بن علي الذي رفض مبايعته، ودعا لنفسه بالخلافة مدَّعيًا أنَّه ولي عهد أبي العباس، ممَّا دعا المنصور إلى توجيه جيشٍ له بقيادة أبي مسلم الخراساني تمكَّن من القبض عليه والقضاء على دعوته.

وقد نقل المنصور ولاية العهد من ابن أخيه عيسى بن موسى إلى ابنه محمد، الذي تولى الخلافة بعد أبيه المنصور سنة (158هـ= 775م) ولُقِّب بالخليفة المهدي، واستمرَّ في منصبه حتى تُوفِّي سنة (169هـ= 785م)؛ حيث تولَّى ابنه موسى الملقَّب بالخليفة الهادي، ولم يمكث سوى سنةٍ واحدة في الحكم؛ حيث تولَّى من بعده أخوه هارون الرشيد، ومنذ عهد الرشيد أصبح الصراع السياسي على السلطة إحدى السمات المميِّزة للعصر العباسي الأول، وكان الصراع بين الأمين والمأمون من الأمثلة المعبِّرة عن هذه السمة، وقد انتهى بقتل الأمين وتولية المأمون الخلافة.

ب- الوزارة:

تُعدُّ الوزارة المنصب الثاني بعد الخلافة في الدولة العباسية، وقد قسَّم فقهاء المسلمين الوزارة إلى نوعين:
- وزارة التفويض:
حيث يفوض الخليفة الوزير في تدبير أمور الدولة برأيه واجتهاده، فتكون له السلطة المطلقة في الحكم والتصرف في شئون الدولة.
- وزارة التنفيذ:
حيث يكون الوزير وسيطاً بين الخليفة والرعية والولاة، ومجرد منفذ لأوامر الخليفة.

وقد أحدث العباسيون نظام الوزارة في بداية دولتهم متأثرين في ذلك بالنظم الفارسية، ولم تكن مسئوليات الوزير في بداية الأمر تبعد كثيرًا عن مسئوليات الكاتب، وقد حصر أبو جعفر المنصور مهمة الوزير في التنفيذ وإبداء الرأي والنصح، ولم يكن له وزير دائم، ومن وزرائه: الربيع بن يونس الذي اشتهر باللباقة والذكاء وحسن التدبير والسياسة.

وقد ظهرت شخصية الوزراء إلى حدٍّ كبير في عهد الخليفة المهدى، لما ساد الدولة من هدوء نسبى، ومن هؤلاء الوزراء الأقوياء يعقوب بن داود، ثم صار للوزارة شأن كبير في عهد الرشيد والمأمون لاعتماد الأول على البرامكة، والثاني علي بني سهل، فمُنِحَ يحيى البرمكي وزير الرشيد، والفضل بن سهل وزير المأمون صلاحيات وسلطات واسعة، جعلت نفوذهما يمتد إلى جميع مرافق الدولة، ولكن سرعان ما تم التخلص منهما.

ج- الكتابة:

كانت طبقة الكُتَّاب ذات أهمية كبيرة في الدولة العباسية، وكان الكاتب ذا علم واسع وثقافة عريضة؛ لأنه يقوم بتحرير الرسائل الرسمية والسياسية داخل الدولة وخارجها، كما يتولَّى نشر القرارات والبلاغات والمراسيم بين الناس، ويجلس على منصة القضاء بجوار الخليفة لينظر في الدعاوى والشكاوى ثم يختمها بخاتم الخليفة.

ومن أشهر الكُتَّاب في العصر العباسي الأول يحيى بن خالد بن برمك في عهد الرشيد، والفضل والحسن ابنا سهل، وأحمد بن يوسف في عهد المأمون، ومحمد بن عبدالملك الزيات والحسن بن وهب، وأحمد بن المدبر في عهد المعتصم والواثق.

د- الحجابة:

وهي وظيفة تقوم بمساعدة الحكام في تنظيم الصلة بينهم وبين الرعية، فالحاجب واسطة بين الناس والخليفة، يدرس حوائجهم، ويأذن لهم بالدخول بين يدي الخليفة أو يرفض ذلك إذا كانت الأسباب غير مقنعة؛ وذلك حفاظًا على هيبة الخلافة وتنظيمًا لعرض المسائل حسب أهميتها على الحاكم الأعلى للبلاد.

وقد اقتدى العباسيون بالأمويين في اتخاذ الحُجَّاب، وأسرفوا في منع الناس من المقابلات الرسمية، ولعل هذا هو السبب المباشر في نشأة ما أسماه ابن خلدون "الحجاب الثاني"، فكان بين الناس والخليفة حاجزان عبارة عن دارين، أحدهما يُسمَّى دار الخاصة والآخر دار العامة، وكان الخليفة يقابل كل طائفة حسب حالتها وظروفها في إحدى هاتين الدارين تبعًا لإرادة الحُجَّاب على أبوابها.

هـ- ولاية الأقاليم:

المقصود بالأقاليم: المناطق التي تتكون منها الدولة. وقد كان النظام الإداري في الدولة العباسية نظامًا مركزيا؛ حيث صار الولاة على الأقاليم مجرد عمال للخليفة، على عكس ما كانوا عليه في الدولة الأموية.

وقد قسم العباسيون الولاية على الأقاليم إلى قسمين، وخصوصًا في عهد الرشيد، الأول: الولاية الكبرى، وهي التي تكون لأحد أبناء الخليفة أو شخص مقرب من الخليفة؛ حيث يتولى هذا الوالي عدة أقاليم في الدولة ويقوم بتصريف أمورها من العاصمة، أو من أحد تلك الأقاليم بعد الرجوع إلى الخليفة، ويرسل إليها ما يشاء من الولاة. الثانى: الولاية الكاملة، حيث يتمتع الوالي ببعض السلطات التي توسع دائرة نفوذه، مثل النظر في الأحكام وجباية الضرائب والخراج وحماية الأمن وإمامة الصلاة وتسيير الجيوش للغزو.

و- الدواوين:

ظهرت الدواوين في الدولة الإسلامية، كبقية المؤسسات الإدارية، نتيجة لاحتياج المسلمين إليها، وقد جعل ابن خلدون وجود الديوان من الأمور اللازمة للملك. وللديوان أهمية كبرى فيما يتعلق بأموال الدولة وحقوقها وحصر جنودها ومرتباتهم، ويرجع الفضل في تنظيم الدواوين في العصر العباسي إلى خالد بن برمك.

وقد اهتم الخلفاء العباسيون بالدواوين؛ فكثرت اختصاصاتها وتنوعت بسبب التعاون الوثيق بين العباسيين والفرس، فقد أخذ العباسيون الخبرة الفارسية في مجال الإدارة، كما احتفظوا ببعض تنظيمات الدولة الأموية، خصوصًا في الدواوين والدوائر الرسمية، كما استحدثوا بعض الدواوين كديوان المصادرات، وديوان الأزمّة (المحاسبة) وديوان المظالم، وغيرها.

ز- القضاء:

وهو من الوظائف المهمة في الدولة الإسلامية، ويقوم على المحافظة على حقوق الرعية وإقرار العدل والإنصاف بين جميع الطبقات، وحماية الأخلاق العامة، مستمِدا أحكامه من الكتاب والسنة. ونظرًا إلى أهميَّة منصب القضاء، فقد وضع العلماء المواصفات التي يجب توافرها في القاضي، ومنها: أن يكون رجلاً قوياً عاقلاً حرًا مسلمًا عادلاً، ويتمتع بالسلامة في السمع والبصر، وأن يكون عالمًا بأحكام الشريعة.

وقد حظي القضاة في العصر العباسي الأول بالتبجيل والاحترام، وكان تعيينهم وعزلهم يتم بأمر الخليفة، وأول من فعل ذلك الخليفة المنصور، فقد عين قضاة البلاد بأمره سنة (136هـ / 753م). وقد استقرت المذاهب الفقهية في عهد الدولة العباسية، وتحددت مهام القضاة وكيفية الإجراء القضائى، وتوحد القانون، وأصبحت جلسات القاضي علنية في المسجد وخصوصًا في عهد المأمون.

كما اهتم خلفاء العباسيين بالتثبت من الأحكام، فعيَّنوا جماعة من المُزَكِّين، وظيفتهم تتبع أحوال الشهود، فإذا طعن الخصم في شهادة أحد الشهود سُئل عنه المزكى. كما اهتموا بأحوال القضاة المادية حتى يعيشوا في يسر ورخاء. وقد تطور القضاء بصورة ملحوظة في العصر العباسي الأول، وظهر منصب قاضي القضاة، وكان يقيم في عاصمة الدولة، ويقوم بتعيين القضاة في الأقاليم والبلاد المختلفة، وأول من لقب قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، صاحب كتاب الخراج، في عهد الرشيد.

ثانيًا: الأوضاع الاقتصادية والعمرانية

أدرك الخلفاء العباسيون أهمية الاقتصاد وتنمية الموارد المالية لمواجهة النفقات المتعددة للدولة، واتخذ المنصور عدة خطوات لزيادة موارد الدولة، فاستحدث نظام المصادرات للاستيلاء على الأموال لمواجهة أعباء الثورات والحركات التي واجهها، وأعاد النظر في مقادير الضرائب المفروضة على الكور.

وفي عهد الرشيد ازدهرت أحوال الدولة الاقتصادية، وارتفع مستوى المعيشة، بسبب تدفق الأموال على خزانة الدولة في بغداد. وتعددت موارد الدولة المالية، فكان منها الزكاة، والخراج، والجزية، وأخماس المعدن، والرسوم على التجارة الخارجية، وغيرها. وقد أسهمت تلك الموارد في سدِّ النفقات في مجال النشاط العسكري والأمني، ومجال البناء والتعمير وإنشاء المدن، مثل مدينة بغداد وسامراء.

مدينة بغداد

يرجع الفضل في بناء مدينة بغداد إلى الخليفة أبي جعفر المنصور، ودفعه إلى ذلك عدَّة أسباب، منها:

1- ثورة الرواندية سنة (141هـ= 758م)، وما شكّلته من خطر كبير على المنصور نفسه؛ الأمر الذي جعله يفكر جدِّيًّا في الانتقال من الهاشمية: لأنها لم تكن بالعاصمة الحصينة التي يأمن فيها على نفسه.
2- أن الهاشمية وهي العاصمة المؤقتة للدولة العباسية كانت قريبة من الكوفة مركز التشيع؛ مما يشكل خطرًا على العباسيين.
3- رغبة المنصور في إنشاء عاصمة جديدة، تليق بالدولة وتخلد ذكره من بعده.

وقد جرت عدة محاولات لاختيار المكان المناسب لبناء عاصمة الدولة الجديدة، حتى وقع الاختيار على المكان الذي بُنِيَت فيه مدينة بغداد؛ وروعي فيها أن تتمتع بمزايا عديدة أهمها:

- أنها قريبة من خراسان مهد الدعوة العباسية، فضلاً عن قربها من المراكز العربية الأخرى، وبعدها عن مراكز الاحتكاك البيزنطى.
- وأنها تقع بين نهرين كبيرين هما دجلة والفرات، وهما يشكلان خطين للدفاع عن المدينة.
- وأنها تقع وسط العراق وعلى مسافة متساوية بين البصرة والموصل؛ مما يجعلها سوقًا للبضائع والمنتجات، وملتقى للقوافل التجارية البرية والنهرية؛ إذ إنها تقع -أيضًا- على طريق الشام - الخليج العربى.
- هذا بالإضافة إلى طبيعة المكان السهلة والمفتوحة؛ مما يشبع رغبة العرب والمسلمين الذين اعتادوا السكنى في مثل هذه الأماكن.

وقد حشد المنصور لبناء بغداد العمال المهرة في الصناعة والبناء، وابتدأ في بنائها سنة (145هـ= 762م)، وفقًا لأرجح الأقوال. وقد صُمِّمت المدينة على شكلٍ دائري، يُحيط بها سور، ولها أربعة أبواب، وبلغت نفقات بنائها حينئذٍ ثمانية عشر مليون درهم، وأُطلق عليها اسم "دار السلام"، إلَّا أنَّ الشائع هو اسمها القديم "بغداد".

مدينة سامراء

أسسها الخليفة العباسي المعتصم بالله (218-227هـ= 833-842م) وجعلها عاصمة للخلافة، وقد دفعه إلى إنشائها احتكاك الجنود الأتراك الذين جلبهم الخليفة للإقامة معه في بغداد، بسكان المدينة وجنودها السابقين، ممَّا أدَّى إلى حدوث إصابات كثيرة بين سكان بغداد ومقتل كثير من النساء والأطفال والشيوخ، فاضطر الخليفة المعتصم بالله إلى البحث عن مكان جديد، ينتقل إليه مع جنوده وحاشيته؛ فوقع الاختيار على أرض سامراء، على بعد ستين ميلًا شمالي بغداد.

وقد حشد لها المعتصم العمال والبنَّائين وأهل الصناعات المهرة، وشرع في بنائها سنة (221هـ= 836م).

ثالثًا: الحياة الفكرية

شهد العصر العباسي الأول نهضة فكرية عظيمة، وطفرة ثقافية كبيرة في شتى مجالات العلم والمعرفة؛ نتيجة امتداد رقعة الدولة العباسية ووفرة ثروتها ورواج تجارتها واهتمام الخلفاء بالحياة الفكرية.

وقد ميَّز علماء المسلمين بين نوعين من العلوم:
1- علوم تتصل بالقرآن الكريم، وهي العلوم النقلية أو الشرعية، وتشمل: علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم الكلام، والنحو، واللغة والبيان والأدب.
2- علوم أخذها العرب عن غيرهم من الأمم، وهي العلوم العقلية وتشمل: الفلسفة والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والطب والكيمياء والتاريخ والجغرافيا.

وقامت المساجد بدور فعَّال في نشر الثقافة الإسلامية؛ حيث كانت تكتظ بحلقات العلم والدرس، وبخاصة العلوم الشرعية التي ازدهرت في العصر العباسي، ونشأت في كنف علمي التفسير والحديث، ولم يكن الحديث مقصورًا على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما ضمَّ -أيضًا- ما كان مأثورًا عن الصحابة، ومن أشهر رجال الحديث في ذلك العصر: حماد بن سلمة المتوفى سنة (165هـ)، وسفيان بن عيينة بمكة المتوفى سنة (198هـ)، ووكيع بن الجراح بالكوفة المتوفى سنة (196هـ)، وعبد الله بن المبارك المتوفى سنة (181هـ)، وسفيان الثوري بالكوفة المتوفى سنة (161هـ)، وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام المتوفى سنة (157هـ)، وعبد الملك بن جريح المتوفى سنة (150هـ)، ومعمر بن راشد باليمن (153هـ)، وسعيد بن أبي عروبة بالبصرة المتوفى سنة (156هـ)، و مالك بن أنس بالمدينة.

ومن أبرز المؤلفات في هذا المجال: كتاب الموطأ الذي ألَّفه الإمام مالك إمام دار الهجرة (المدينة المنورة) بناءً على طلب المنصور، فيُروى أنَّ الخليفة أبا جعفر المنصور قابل الإمام مالكًا في موسم الحج، وكلَّمه في مسائل كثيرة من العلم، ثم قال له: "يا أبا عبد الله لم يبقَ في الناس أفقه منى ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة، فاجمع هذا العلم ودوِّنه ووطِّئه للناس توطئة، وتجنب فيه شدائد عبد الله بن عمر، ورُخَص عبد الله بن عباس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم". فاعتذر الإمام مالك، فلم يقبل المنصور منه، فوضع مالك كتاب الموطأ.

ولم تظهر الطريقة المنظمة في التفسير إلا في العصر العباسي الأول؛ حيث كان قبل ذلك غير منظم ويقتصر على تفسير آيات صغيرة غير مرتبة حسب ترتيب السور والآيات باستثناء تفسير ابن عباس. وأهم المفسرين في العصر العباسي الأول مقاتل بن سليمان الأزدي المتوفى سنة (150هـ)، وابن إسحاق المتوفى سنة (151هـ)، ولم يصل من تفاسير هؤلاء شىء إلينا.

وازدهرت دراسة الفقه ازدهارًا عظيمًا وكانت له مدرستان، الأولى: مدرسة أهل الرأي والقياس في العراق، ومؤسسها أبو حنيفة النعمان المتوفى سنة (150هـ)، وخلفه أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفى سنة (182هـ)، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189هـ)، والثانية: مدرسة أهل الحجاز، ومؤسسها مالك بن أنس، وتُسمَّى مدرسة أهل الحديث، ثم جاء الإمام الفقيه محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204هـ)، وجمع بين هاتين المدرستين، أي جمع بين طريقة الحجازيين في الاعتماد على الكتاب والسنة وطريقة العراقيين في الاعتماد على الرأي.

ومن العلوم التي ظهرت وتطورت في ذلك العصر: علم الكلام، ويقصد به الجدل الديني في الأمور العقيدية، ويسمَّى المشتغلون به "المتكلمين"، ومن أشهر فرقهم المعتزلة الذين دخلوا في محاورات ومجادلات مع غيرهم من المرجئة، والرافضة، والشيعة، والنصارى، واليهود، والمانويين. وأهم رجال المعتزلة واصل بن عطاء المتوفى سنة (131هـ)، وعمرو بن عبيد المتوفى سنة (145هـ)، وبشر بن المعتمر المتوفى سنة (210هـ)، وثمامة بن أشدس المتوفى سنة (213هـ)، وأبو الهذيل العلاف المتوفى سنة (227هـ).

وشهد ذلك العصر نخبة كبيرة من علماء اللغة، منهم: أبو عمرو بن العلاء المتوفى سنة (154هـ)، وخلف الأحمر المتوفى سنة (180هـ)، والأصمعي صاحب الأصمعيات المتوفى سنة (213هـ)، وأبو زيد الأنصاري صاحب كتاب النوادر المتوفى سنة (214هـ)، وأبو عبيدة صاحب نقائض جرير والفرزدق المتوفى سنة (210هـ)، ومحمد بن سلام الجمحي، وحماد الراوية المتوفى سنة (155هـ)، والمفضل الضبي، وأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة (206هـ)، وأبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة (224هـ).

وفي النحو: عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة (149هـ)، والخليل بن أحمد الواضع الحقيقي لعلم النحو المتوفى سنة (170هـ)، وسيبويه المتوفى سنة (180هـ)، ومعاذ بن مسلم الهراء المتوفى سنة (187هـ)، والكسائي المتوفى سنة (189هـ)، والفراء المتوفى سنة (207هـ).

وعني كثير من اللغويين والنحاة بكتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأشهرهم محمد بن إسحاق المتوفى سنة (151هـ)، و ابن هشام المتوفى سنة (213هـ)، ومحمد بن عمر الواقدي المتوفى سنة (207هـ)، ومحمد بن سعد صاحب الطبقات المتوفى سنة (230هـ).

كما نشطت كتابة التاريخ في العصر العباسي الأول، وأشهر من اشتغل بذلك العلم: محمد بن الحسين بن زبالة، وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي المتوفى سنة (157هـ)، وسيف بن عمر التميمي المتوفى سنة (180هـ)، وهشام بن محمد الكلبي المتوفى سنة (204هـ)، والمدائني المتوفى سنة (225هـ).

كما شهد ذلك العصر نخبة كبيرة من فحول الشعراء، على رأسهم بشار بن برد المتوفى سنة (168هـ)، وأبو نواس الحسن بن هانئ المتوفى سنة (195هـ)، وأبو العتاهية المتوفى سنة (211هـ)، ومسلم بن الوليد المتوفى سنة (208هـ)، وأبو تمام حبيب بن أوس المتوفى سنة (231هـ).

وتطور النثر في العصر العباسي الأول بعد دخول كثير من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية التي امتزجت به، وأهم فنون النثر في ذلك الوقت الخطابة والوعظ، والمناظرات، والرسائل الديوانية -العهود والوصايا والتوقيعات- والرسائل الإخوانية والأدبية.

ومن أعلام الكتاب في ذلك العصر: ابن المقفع المتوفى سنة (143هـ)، وسهل بن هارون المتوفى سنة (215هـ)، وأحمد بن يوسف المتوفى سنة (213هـ)، وعمرو بن مسعدة (217هـ).

وقد شجع الرشيد العلم والعلماء، وأنشأ بيت الحكمة، وجمع فيه كثيرًا من المؤلفين، والمترجمين والنساخ. ومن أشهرهم: سهل بن هارون، والحسين بن سهل، والفضل بن نوبخت، وكانوا يترجمون من الفارسية إلى العربية. وحنين بن إسحاق، ويوحنا البطريق، ويوحنا بن ماسويه، وكانوا يترجمون من اليونانية والسريانية إلى العربية، وفي عهد المأمون نشطت حركة الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية إلى العربية، فأرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب.

وبجانب اهتمام الخلفاء بحركة الترجمة والنقل، اهتم ذوو اليسار (الأغنياء) بتشجيع العلم والإنفاق على الترجمة إلى اللغة العربية، ومنهم محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر الذين أنفقوا أموالًا ضخمةً في ترجمة كتب الرياضيات، وكانت لهم آثار قيمة في الهندسة والموسيقى والنجوم، وقد أرسلوا حنين بن إسحاق إلى بلاد الروم فجاءهم بطرائف الكتب وفرائد المصنفات.

وقد اشتغل كثير من المسلمين بدراسة الكتب التي تُرجمت إلى العربية، وتفسيرها والتعليق عليها، وتصحيح أخطائها، ومن هؤلاء: يعقوب بن إسحاق الكندى، الذي ترجم كثيرًا من كتب الفلسفة وشرح غوامضها، ونبغ في علوم الطب والفلسفة والحساب والمنطق والهندسة وعلم النجوم.

ومن العوامل التي أسهمت في ازدهار الحركة العلمية في العصر العباسي الأول ظهور الورق واستخدامه في الكتابة، وقد أنشأ الفضل بن يحيى البرمكي مصنعًا للورق في عهد الرشيد ببغداد، فانتشرت الكتابة فيه لخفته، بعد أن كانوا يكتبون على الجلود والقراطيس المصنوعة بمصر من ورق البردى.

المصدر: موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، الجزء الثالث: العصر العباسي في العراق والمشرق، تأليف: حسن علي حسن، عبد الرحمن سالم.