شرح دعاء اليوم الثامن من ايام شهر رمضان المبارك

(اَللّـهُمَّ ارْزُقْني فيهِ رَحْمَةَ الْأيْتامِ ، وَإِطْعامَ اَلطَّعامِ ، وَإِِفْشاءَ السَّلامِ ، وَصُحْبَةَ الْكِرامِ ، بِطَولِكَ يا مَلْجَأَ الْآمِلينَ ).
من الملاحظ في أدعية الأيام أن الإنسان في كل يوم يسأل ربه ، أن يرزقه بعض المزايا.. ولكن المراد بذلك هو الدعاء المطلق ، لا فقط في هذا اليوم الذي اختص فيه الدعاء.. أي أن الإنسان -مثلاً في هذا اليوم- يسأل ربه ، أن يجعل له هذه المزايا في نفسه أبد الآبدين ، لا فقط في اليوم الثامن من شهر رمضان.. وكل أدعية شهر رمضان الآتية والسابقة ، يدور في هذا الفلك..

- (اَللّـهُمَّ ارْزُقْني فيهِ رَحْمَةَ الْأيْتامِ...) :
إننا نلاحظ أيضاً في أدعية الأيام ، أن هناك تنويع في الدعاء.. وكأنه الروح الإنسانية كالبدن.. فمن المعلوم أن البدن يحتاج إلى عناصر غذائية متنوعة ، من فيتامينات ، ومن مواد مقوية ؛ وكذلك الروح ينبغي أن تعطى كل مقومات الفلاح والنجاح.. ولهذا نلاحظ أن الأدعية تارة تتضمن البعد العبادي ؛ إذ يسأل الإنسان ربه : توفيق الصيام ، والقيام ، وتلاوة القرآن ، وأن يجنبه الله عزوجل من الهفوات والآثام.. وتارة تتضمن البعد الاجتماعي في حياة المسلم ، كما في دعاء هذا اليوم..

إن الإنسان الذي يعيش ولا رحمة له للأيتام والفقراء والمساكين ، فإن فيه ضمور في جانب من الروح ، وروحه روح غير سليمة.. ففي قوله تعالى : {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ، إشارة إلى ذلك القلب المتكامل في جميع الجهات.. لأن القلب السليم في بعض الجهات ، لا ينفع.. القلب السليم هو ذلك القلب المتكامل.. إذن، من صفات الإنسان المؤمن السالك إلى الله عزوجل ، أن يمتلك حالة الشفقة الاجتماعية ، ورحمة الأيتام.. ومن المعلوم أن هناك تأكيد وخصوصية متميزة في الشريعة لليتيم.. وهذا الحديث للنبي (ص) فيه ما يعكس هذا الموقع المتميز لليتيم في الشريعة : قال النبي (ص) : (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى.. وللمتأمل في هذا المعنى العظيم !.. النبي (ص) وما أدراك ما له من المنزلة عند الله عزوجل !.. هو في مقعد الصدق عند المليك المقتدر ، وفي رضوان الله عزوجل ، وهو من مصاديق تلك النفس التي يقول تعالى عنها : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.. النبي (ص) في موقع متميز في الجنة ، وإذا بكافل اليتيم يأتي ليجلس في منطقة فيها قصر النبي (ص) !..

السبب في ذلك :
أولاً : المشابهة.. كافل اليتيم شبيهٌ للنبي (ص).. ورد عن النبي (ص) أنه قال : (أنا وعلي أبوا هذه الأمة).. إن النبي (ص) كفل هذه الأمة ، والأمة يتيمة بفقد النبي (ص) ؛ ولهذا فإن الذي يكفل يتيماً من أمة المصطفى (ص) فإنه شبيهٌ للنبي (ص).. ولكن فرق بين مساعدة اليتيم وكفالة اليتيم.. فالإنسان الذي يدفع مبلغاً من المال عبر واسطة ، لإيصال هذا المال إلى اليتيم ؛ فإن هذه مساعدة يتيم.. بينما الكفالة بالمعنى الجامع : أن يتكفل اليتيم نفسياً ، وعاطفياً ، ومالياً ، واعتقادياً ، وإيمانياً.. إذن، كافل اليتيم هو ذلك الإنسان الذي يقوم بدور الأب لليتيم.. ولكن لنلتفت إلى الفارق بينهما :
إن الأب ينطلق من منطلقات فطرية وعاطفية ، فهذا الولد انعقدت نطفته من وجوده ، وهو عندما يكفل ولده هناك شائبة الإنية ، وشائبة الفطرية ، وشائبة الجزئية ، فهو يكرم نفسه بإكرام ولده.. أما أن يأتي إنسان غريب لا صلة له بهذا اليتيم ، ويقوم بدور الأب ، فكم هذا العمل عظيم !.. وهنا يمكن أن يقال بأن دواعي القربة في أعلى صورها ، بخلاف كفالة الأب لولده.. ومن هنا أصبحت هذه الكفالة في منتهى القدسية ، إلى حد تجعل الإنسان في جوار النبي (ص).

ثانياً : اليتيم في أي مجتمع عرضة للانحراف والضياع ؛ لفقدان الأب المربي والمعيل ، وقد يكون لا أم له أيضاً.. وكافل اليتيم هنا يأتي دوره لإنقاذ فرد من أمة المصطفى (ص) ، فيكون مصداقاً لقوله تعالى : {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.. فإذن، الكفالة فيها عنصر إيجابي ، وفيها دفع لعنصر سلبي ، وهو دفع الانحراف في حياة هذا الإنسان اليتيم.

وثالثاً : القضية مستندة إلى الله عزوجل.. قال النبي (ص) : (إن اليتيم إذا بكى اهتزّ له العرش ، فيقول الربّ تبارك وتعالى : من هذا الذي أبكى عبدي الذي سلبته أبويه في صغره ؟!.. فوعزتي وجلالي لا يُسكته أحد إلاّ أوجبت له الجنّة).. إن اليتيم عندما يبكي فإن العرش يهتز لهذا البكاء ؛ لأن الله عزوجل هو الذي سلب اليتيم أباه وتوفاه إليه ، وخاصة إذا كان الموت قضاء وقدر ، فهنا الله عزوجل يرى أنه هو الذي ابتلى هذه العائلة ، بسلب المتولي والكفيل لهذه العائلة.. فعندما يأتي الغريب الأجنبي ويتكفل هذه العائلة ، كأنه أيضاً يقوم بدور الرب ، ويريد أن يعوض ذلك البلاء الذي رآه الله عزوجل من المصلحة.. ومن المعلوم أن قبض روح الأب في هذه العائلة ، صحيح أنه قضاء وقدر ، والله عزوجل أراد ذلك ، ولكن هناك سلبيات لهذا الأمر.. ولهذا فإن الله عزوجل عندما يرى عبده ساعياً لتغطية هذه السلبية في هذا القضاء والقدر ، من المؤكد أنه يحوز على رضا رب العالمين من أوسع أبوابه.

- (وَإِطْعامَ اَلطَّعامِ...) :
قال أمير المؤمنين (ع) : (قوت الأجساد الطعام ، وقوت الأرواح الإطعام).. لأن عملية الطعام -الإنسان عندما يأكل لنفسه- ، هي عملية جداً طبيعية ، ويقوم بها كل حيوان.. ولكن هو عندما يُطعم ، فإنه يقوم بعملية معنوية ؛ فيها إدخال لسرور ، وفيها تكريم ، وفيها تشريف لمن معه من إخوانه المؤمنين.. ومن هنا يطلب العبد من ربه أن يرزقه هذه المزية.. ولهذا نلاحظ أن خليل الرحمن إبراهيم (ع) - الذي هو مستغرق في الخلة ، وفي الفناء في الله عزوجل - أن حبه للضيف كان شائعاً ومعروفاً ؛ وعندما جاءته الملائكة وظن إبراهيم أنهم بشراً ، {فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} ، أي سارع في إكرام الضيف الذي حل بفنائه.

- (وَإِِفْشاءَ السَّلامِ ... ) :
من المتعارف أن يحي المؤمنين بعضهم بعضاً بتحية الإسلام : (السلام عليكم) ، وقد ورد ما فيه تأكيد على إفشاء السلام ، ولكن إفشاء السلام لا يقتصر على كلمة (السلام عليكم) ، أي ليس هو مجرد التلفظ بهذه الكلمة فقط.. فالإنسان الذي يقول : (السلام عليكم) لأخيه ، وملؤه الغدر.. أو الذي يقول : (السلام عليكم) ، وهو يتكلم على أخيه في غيبته.. أو الذي يقول : (السلام عليكم) ، وهو شريك لأخيه في التجارة ، ويطعنه من الخلف.. فهل هذا سلام ؟!.. إن السلام له حقيقة ومعنى.. أي إن هذا السلام المتعارف في أوساط المؤمنين ، إنما هو إعلان موقف السلم والمحبة.. ومن هنا فإن الدول عندما تعلن موقفها من دولة ، سواء تهديداً أو تطميعاً ، تقوم بلوازم ذلك.. إن الإنسان عندما يقول : (السلام عليكم) لأخيه المؤمن ، فمعنى ذلك أنه يقول له بأنه في أمان من جهته : فلا يسمع منه كلمة نابية ، ولا ينقل منه كلام باطل ، ولا يخونه في نفسه ، ولا في ماله ، ولا في عرضه.. نعم، هذا هو معنى السلام.. وإذا كان السلام بهذا المعنى ، ألا يستحق أن يطلب الإنسان من ربه هذه المزية العظمى !.

- (وَصُحْبَةَ الْكِرامِ ... ) :
إن من أهم الأمور التي تعين الإنسان على السير إلى الله عزوجل ، أن يعيش في ضمن مجموعة مذكرة من كرام المؤمنين ، يشد بعضهم أزر بعض.. ومن هنا نلاحظ هذه الخصوصية للجماعة المؤمنة ، الذين يتواصون بعمل الخيرات ، إذ أن الله تعالى استثنى هذه الجماعة المؤمنة من قائمة الخاسرين ، حيث قوله تعالى : {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ،.. فإذن، هذه نعمة كبرى ، أن يوفق الإنسان بصحبة الكرام من إخوانه المؤمنين..
وفقنا الله وإياكم ، لأن نكون من عباده الصالحين !..


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته