رحلة ابن الجزري إلى بلاد العثمانيين

الإمام المقرئ محمد بن محمد بن محمد بن الجزري (751-833هـ= 1350-1430م) الذي لقَّبه ابن العماد الحنبلي بمقرئ الممالك الإسلاميَّة، كانت له مكانته البارزة في علم القراءات، درَّس في دمشق قبل أن يصل إلى بلاد الروم (العثمانيِّين)، حيث استقبله السلطان بايزيد الأول (يلدرم) الذي احتفى به في شكلٍ يليق بمكانته العلميَّة.

تحدَّث ابن الجزري عن قيامه بالقراءة "تحت قبَّة النسر من الجامع الأموي"، ووصل إليه في الشام العشرات من المريدين من بلاد المغرب والأندلس وبلاد اليمن والهند، فضلًا عن آسيا الصغرى؛ من أجل الاستماع إليه والتعلُّم على يديه.

بعد ذلك تحدَّث عن إقامته في مصر، ثم خروجه منها على متن سفينةٍ من ميناء الإسكندريَّة وصلت إلى ميناء السويديَّة في أنطاكية عام (798هـ=1395م)، وهناك احتفى به شيخ القراءات أمين الدين محمد التبريزي، ولازمه أيَّامًا وقرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات العشر حتى أجازه ابن الجزري، بعد ذلك انتقل ابن الجزري من أنطاكية إلى مدينة لارندة (قونية) عاصمة القرمانيين، حيث احتفى به -أيضًا- السلطان علاء الدين بن قرمان، ومن هناك توجَّه إلى مدينة بورصا، حيث التقى رفيقه الشيخ الخطيب عبد المؤمن الرومي الفلكاباذي، الذي وصفه بأنَّه كان مبرزًا في علم القراءات، بالإضافة إلى صلاحه وورعه.

ابن الجزري في ضيافة السلطان بايزيد الأول

حدث ذلك كلُّه قبل أن يلتقي الإمام ابن الجزري السلطان العثماني بايزيد يلدرم الذي استقبله أفضل استقبال، وقام بتقديره وإهدائه الكثير من المماليك والجواري، كما طلب منه الإقامة الدائمة لدى العثمانيِّين مع منحه مائتي درهم في شكلٍ يوميٍّ من أجل توفير حياةٍ مريحةٍ وهادئة.

أشار ابن الجوزي إلى أنَّه قابل منحة وكرم بايزيد بردٍّ فحواه: أنَّه ما أتى إلى أراضي العثمانيِّين إلَّا من أجل نشر القراءات وإفادة من يرغبون في تلقِّي العلم على يديه، خاصَّةً ممَّن لا يقدرون على الارتحال إليه في الشام أو مصر، غير أنَّ ردَّ السلطان العثماني كان قاطعًا بأنَّه قد انتوى فتح مدينة القسطنطينيَّة عاصمة البيزنطيِّين، لذا فإنَّه يطلب منه مرافقته إلى هناك من أجل تحقيق هذا العمل الجليل.

ابن الجزري عند أسوار القسطنطينية

فما كان من ابن الجزري سوى أن طلب أن يسبقه إلى المدينة، وهو ما دفع بايزيد إلى الأمر بتجهيز رحلة الإمام إلى أسوار القسطنطينيَّة، بعد ذلك ذكر ابن الجزري وصوله إلى حيِّ "غلطه" المواجه للمدينة، ومكوثه هناك أيَّامًا حتى وصول السلطان العثماني لمحاصرة القسطنطينيَّة.

ولأنَّه كان موجودًا في معيَّة بايزيد، لاحظ أنَّ الأخير نما إلى علمه تحرُّك حملةٍ عسكريَّةٍ صليبيَّةٍ كبرى، تألَّفت من الكثير من الجيوش المسيحيَّة الأوربِّيَّة بقصد مهاجمة العثمانيِّين، وعلم بتقدُّمها وعبورها نهر الطونة (الدانوب)، كما أشار ابن الجزري إلى تغيير السلطان العثماني استراتيجيَّته العسكريَّة؛ فلم يقم بانتظار وصولهم إليه، بل قام برفع الحصار وفضَّل التوجُّه لملاقاة الحملة الصليبيَّة الجديدة قبل وصولها.

ابن الجزري مجاهدًا في معركة نيقوبوليس

هكذا، كان ابن الجزري -أيضًا- في معيَّة الجيش العثماني الذي توجَّه لملاقاة الصليبيِّين في سهول مدينة نيقوبوليس Nicopolis عام (799هـ=1396م)، كما حدَّثنا عن دوره في محادثة السلطان وجنوده في فضائل الجهاد، وما أعدَّه الله من نِعَمٍ للصابرين والشهداء.

ولفت نظره عمليَّة استطلاع العثمانيِّين عن أعداد تلك الحملة المسيحيَّة فذكر -في مبالغة-: أنَّهم قدَّروا عددها بمئتي ألف فارس، غير أنَّه ذكر: أنَّه شاهد في طليعة الجيش الأوربِّي ثلاثين ألف محارب من مدينة جنوى الإيطاليَّة.

وعلى الرغم من أنَّ الإمام لم يُخبرنا عن أعداد قوَّات الجيش العثماني، فإنَّ لدينا معلومات -مبالغًا فيها أيضًا- من المصادر الأوربِّيَّة تحصي عددها بمئتي ألف محارب.

ولأنَّه كان شاهد عيانٍ على الانتصار العثماني الكبير في نيقوبوليس؛ فقد وصف ذلك النصر بأنَّه كان عبارة عن "ملحمةٍ عظيمةٍ لم يكن مثلها في الأعصار". فقد عاش الإمام ابن الجزري نفسه تلك الموقعة الكبيرة التي دحرت فيها جيوشُ العثمانيِّين القوى الأوربِّيَّة الصليبيَّة بعدما شُتِّت شملُها، وأُجبر قائدُها ملك المجر على الهرب بصعوبةٍ بعد نجاحه في الفرار من قبضة العثمانيِّين؛ بعد اجتيازه نهر الدانوب باتِّجاه الغرب، وتابع -أيضًا- الأحداث التي جرت بعيد المعركة مباشرة، خاصَّةً أمر السلطان بايزيد بقتل جميع الأسرى الأوربِّيِّين، باستثناء صغار السنِّ منهم، أو وِفْقَ كلماته: "من كان منهم صبيًّا قد ناهز الاحتلام".

ويجب أن نتوقَّف هنا قليلًا لنُشير إلى وجود شاهدٍ عيانٍ على معركة نيقوبوليس من الجانب الصليبي، هو الفارس يوهان شيلتبرغر، الذي أسره العثمانيُّون عَقِبَ المعركة، ونجا من القتل بفضل حداثة سنِّه، وأكَّد الكثير ممَّا رواه الإمام ابن الجزري، خاصَّةً مسألة استثناء العثمانيِّين مَنْ هُمْ دون العشرين من القتل.

غير أنَّ ما لم يذكره كلٌّ من المسيحي شيلتبرغر ولا المسلم ابن الجزري أنَّ أمر السلطان بقتل جميع أسرى موقعة نيقوبوليس كان له ما يُبرِّره لدى العثمانيِّين؛ لأنَّه كان بمثابة ردِّ فعلٍ على سلوك القوى الأوربِّيَّة ضدَّ المسلمين، وذلك بعد قيام الكونت دي نافار وملك المجر بإعدام جميع الأسرى المسلمين بعد سقوط راهوفا Rahova في قبضتهم، وهو الأمر الذي أثار غضب السلطان بايزيد، ما دفعه إلى اتِّخاذ ذلك التصرُّف ضدَّ الأسرى المسيحيِّين.

على أنَّ الغريب أنَّ الصغير شيلتبرغر -بعدما عفا السلطان العثماني عنه وضمَّه إلى حاشيته- لاحظ أنَّ مستشاري بايزيد طلبوا منه التوقُّف عن قتل الأسرى عندما حلَّ المساء، ووجه الغرابة هنا أنَّ الإمام ابن الجزري -الذي كان من حاشية السلطان- لم يذكر ذلك في شهادته، واكتفى بذكر أنَّ بايزيد "أمسك منهم اثني عشر من ملوكهم".

والحقيقة أنَّ السلطان العثماني تمكَّن في أعقاب المعركة من أسر المئات من كبار القادة والأمراء الأوربِّيِّين، خاصَّةً الفرنسيِّين الذين تمَّ التعرُّف إلى مكانتهم العالية بفضل ما قاموا بارتدائه من زيٍّ فاخرٍ ميَّزهم عن بقيَّة الجنود، فتمَّ الحفاظ على حياتهم؛ لأنَّ العثمانيِّين رأوا فيهم مصدرًا يُمكن أن يُوفِّر لهم الأموال الطائلة مقابل إطلاق سراحهم، وكان من بينهم الفارس الشهير بوسيكيو Bouciquoi العظيم الشأن في فرنسا، الذي أُطلِق سراحه بعد ذلك مقابل فديةٍ كبيرة، غير أنَّ السلطان العثماني دفع مقابل ذلك التصرُّف ثمنًا باهظًا في ما بعد؛ إذ لعب بوسيكيو دورًا خطرًا ضدَّ العثمانيِّين إبَّان معاودة السلطان بايزيد حصاره القسطنطينيَّة؛ فقد أرسله الملك الفرنسي شارل السادس Charles VI (1382–1422م) لتقديم المساعدة للإمبراطور البيزنطي مانويل باليولوغس Manuel Palaelogus (1391–1425م) ضدَّ هجمات العثمانيِّين، وبالفعل نجح بوسيكيو في كسر طوق الحصار البحري الذي فرضه السلطان بايزيد على القسطنطينيَّة، ونجح في التسلُّل إليها؛ حيث قاد عمليَّة دفاعٍ ناجحةٍ عن المدينة، أسهمت في إفشال الحصار العثماني للعاصمة البيزنطيَّة.

وعلى أيَّة حالٍ فقد أشار ابن الجزري -عن حقٍّ- وبطريقٍ غير مباشر، إلى تعدُّد جنسيَّات المحاربين الأوربِّيِّين في موقعة نيقوبوليس، وذلك بعدما ذكر أنَّه بعد المعركة منحه السلطان بايزيد ستَّة من الأسرى "لم يكن واحدٌ منهم يعرف لغة الآخر؛ لأنَّ كلًّا منهم من بلادٍ غير بلاد الآخرين، وطائفةٍ غير طائفتهم".

وإذا كان شيلتبرغر أشار في مذكِّراته إلى أنَّ جنود صليبيَّة نيقوبوليس تألَّفوا من قوَّاتٍ فرنسيَّةٍ وإنكليزيَّةٍ وصربيَّةٍ ومجريَّةٍ وبلغاريَّةٍ وإيطاليَّةٍ وغيرها، فمن الطبيعي أن يكون من نصيب الإمام ابن الجزري -الذي لم يُشر سوى إلى العنصر المجري والإيطالي- أسرى لا يعرفون لغات بعضهم بعضًا، وكان من عادة العثمانيِّين منح الأسرى الأوربِّيِّين كهدايا إلى حكَّام الدول الإسلاميَّة وقادتها.

ونعرف من خلال حديث البافاري شيلتبرغر أنَّ السلطان بايزيد قام بإرسال الكثير من الأسرى عُقيب نيقوبوليس إلى بقيَّة الممالك الإسلامية تعبيرًا عن النصر العثماني المبين، وذكر على سبيل المثال أنَّه تمَّ إرسال ستِّين أسيرًا هديَّةً إلى السلطان المملوكي الظاهر برقوق (1390-1399م) في القاهرة، وأنَّ شيلتبرغر نفسه كاد يُرسَل في معيَّة هؤلاء الأسرى لولا سابق إصابته بجروحٍ خطرة في نيقوبوليس، ليدفع به القدر إلى حاشية السلطان بايزيد.

كما أنَّ لدينا مصدرًا أوربِّيًّا آخر هو ما كتبه البندقي مانويل بيلوتي Emmanuel Piloti الذي شاهد كثيرًا من الأسرى الفرنسيِّين والإيطاليِّين في بلاط السلطان المملوكي في مصر، ووِفْقَ كلماته: "... لقد رأيتهم جميعًا في قصر السلطان في القاهرة، وتحدَّثت معهم وكانوا جميعًا من الشبَّان الحسني الخلقة الذين تمَّ اختيارهم بعناية".

ويُمكننا القول في النهاية: إنَّ ما أورده الإمام ابن الجزري عن انتصار العثمانيِّين على حملة نيقوبوليس 1396م، هو في غاية الأهميَّة؛ لسببين موضوعيَّين:

الأوَّل: أنَّه كان شاهد عيان على المعركة نفسها كما رأينا، والثاني: لأنَّه يُعدُّ مصدرًا تاريخيًّا غير مباشرٍ ومجهولٍ حول تلك المعركة التي مثَّلت علامةً فارقةً في تاريخ العلاقة بين المسلمين وأوربَّا في نهايات العصر الوسيط.

____________________

المصدر: جريدة الحياة اللندنية الدولية، السبت، ١٧ يناير/كانون الثاني ٢٠١٥م.