النتائج 1 إلى 2 من 2
الموضوع:

رومانسيات: ( تـوبـة خـائـنـة )

الزوار من محركات البحث: 557 المشاهدات : 2138 الردود: 1
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من أهل الدار
    العقابي
    تاريخ التسجيل: May-2010
    الدولة: في بيتي
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 1,092 المواضيع: 220
    صوتيات: 18 سوالف عراقية: 3
    التقييم: 404
    مزاجي: الحمد لله أولا وآخرا
    المهنة: كلشي و كلاشي
    أكلتي المفضلة: زرازير شوي
    موبايلي: هواوي
    آخر نشاط: 15/July/2020
    الاتصال: إرسال رسالة عبر MSN إلى علاء إرسال رسالة عبر Yahoo إلى علاء
    مقالات المدونة: 8

    رومانسيات: ( تـوبـة خـائـنـة )

    الفراغ يحيطها من كل جانب، الجدران الباردة قد ألفت وحدتها، تمسك بجريدتها متململة ثم سرعان ما تقذفها بعصبية وهي تنفخ زفيراً ملتهباً، تكاد أنفاسها تحرق الفضاء الثقيل، لقد قاربت الساعة على الواحدة والنصف ليلاً ولم يعد زوجها بدر، حاولت أن تكظم غيظها وتحبس دموعها خشية انهيار أعصابها، تقنع نفسها دائماً أن هذه التراكمات قد تتحول يوماً ما إلى سيل جارف يدمّر بقايا سعادتها، تذكرت طفلها الوحيد ((محسن)) الذي استمدت من وحي عاطفته طاقة تثري عزيمتها على الصبر والتحدي، كي يبقى هذا البيت سعيداً آمناً.
    بددت قلقها بابتسامة فارغة افتعلتها كي تلهج روحها بالحماسة إلى الحياة، لكن دقات الساعة بدت كالمطرقة القاسية تهوى على رأسها، تنذر بصاعقة جارفة تهدد راحتها، أصابتها رعدة قوية اهتزت لها كل أوصالها، كيف تفكر في إرباك هذه الموازين المقدسة، الولد لا يتربى إلا في حضن الوالدين، فالنقار والصراخ سيهدد عشها ويحيل الحياة إلى جحيم يحترق في لهيبه هذا الطفل الصغير.
    طردت من رأسها هذه الوساوس، تنهدت بعمق وهي تستحضر شريط حياتها بمسراته وأحزانه، ارتمت على الكنبة المنصوبة في وسط الغرفة لتحاول أن تكتم صراخها المتمرد الذي ذوّب قواها. ولساعة متأخرة هدأت العاصفة وتراخت حبال أفكارها المشدودة، عاد ((بدر)) انتبه إلى وجهها الغارق في النعاس، وقد سال مكياجها مع حبات الدمع الساخنة واضطربت زينتها، تفرّس وجهها طويلاً، حاول إيقاظها هامساً:
    - رحاب، رحاب
    انتفضت، رمته بنظرة ساخطة:
    - تصبح على خير!
    -جذبها إليه متودداً
    - رحاب، أرجوكِ قدري موقفي.
    نفضت يده، صارخة:
    - أرجوك دعني أنام، فأنا متعبة.
    هامت نظراته الولهى بجمالها الأخاذ فراح يعتذر:
    - اليوم اجتمعت بالوفد الياباني، وقد أدركنا الوقت.
    أشاحت بوجهها متبرمة:
    - لست مضطراً للتبرير.
    تفجرت دموعها من جديد حتى تكاد حشرجاتها تذيب كل أحاسيس الحب النابضة في وجدانها.
    تطلّع إليها غاضباً:
    - أنتِ تبحثين عن النكد دائماً، وكأنه مزروع في صدركِ، أتمنى أعود يوماً لألقاكِ مبتسمة، تذيبين متاعبي ومعاناتي لقد أصبحت أسيراً لنكدك الليلي كل يوم!
    صمتت لكن كل شيء ففيها يتفجر حمماً.
    رقد بدر في فراشه وأدار ظهره دون أن يحتوي غضبها.
    ترجته والغيظ يتطاير كالشرر من عينيها:
    - أرجوك، اسمعني، لا تنم، لا تدير ظهرك كالعادة.
    لم يعرها أية التفاتة!
    اتخذت نبراتها بعضاً من الحدة:
    - بدر أنت تخاطر بحياتنا.
    سحب الغطاء على رأسه قائلاَ باقتضاب
    - تصبحين على خير.
    أطلقت زفرة حارة من فؤادها المجروح، لتذرف مزيداً من الدمع، مزيداً من الألم، كما لو كانت تبكي حباً قد مات أو حبيباً فارقته إلى الأبد، فدولاب حياتها قد كلّ من الدوران في متاهات باردة فقد ترك الإهمال في نفسها إحساساً بالمهانة والذل.
    لكنها ستنشط من جديد حتى تحتفظ بهذه القشة الصغيرة وسط بحر حياتها المتلاطم حتى تسير السفينة في وجهتها الصحيحة.
    هبت إلى المطبخ لتصنع لها كوباً من العصير شربته كي تهدأ أعصابها، عادت إلى فراشها البارد، آلامها النفسية تمزق سكون الليل فهامت روحها وسط هذا العالم تناجي طيفاً بعيداً أشبه بالسراب لتتشبث بأذياله حتى تسترد مقاومتها وقوتها.
    تذكرت سلبية زوجها وبرود عواطفه، وبحثت عن ذاتها الضائعة في عالمه المتناقض لتجد نفسها هامشاً يذوب يوماً بعد آخر حتى تسلل شبح اليأس إلى حياتها فأحالها إلى أرض مقفرة.
    حاولت أن تنام، لكن شخيره المقرف دوى صارخاً في أعماق قلبها المرهف، تناولت قرصاً منوماً لتستريح من عناء تفكيرها.
    استيقظت ((رحاب)) هذا الصباح ثقيلة الجسم تطوف في أجواء بيتها رائحة الملل، تناولت فطورها مع ولدها ((محسن)) بدت متعبة، فآثار السهر تركت بصمات واضحة على وجهها الشاحب، بينما زوجها ((بدر)) يغط في نوم عميق فعمله يبدأ الساعة العاشرة صباحاً وحتى الثالثة بعد الظهر ثم يعود إلى بيته ليتغدى ويرتاح بعضاً من الدقائق حتى يلتحق بعمله في المكتب حتى المساء.
    هذا هو الاتجاه الذي تسير فيه علاقة هذين الزوجين، حاولا التنسيق وحصر هذه المفارقات التي تحول دون التقائهما في هدف لكن كل محاولاتهما باتت عبثاً.
    تأملها ((محسن)) ببراءة وقال:
    - ما بكِ اليوم يا ماما؟
    ضمته إلى صدرها:
    - لم أنم ليلة أمس.
    قبلته بحنان ثم أردفت:
    - هيّا يا محسن، فلنذهب الآن، لقد تأخرت على المدرسة.
    جاءت الخادمة لتأخذ محسن إلى الباص الذي سينقله إلى روضته.
    ارتدت رحاب أجمل ثيابها لتذهب إلى عملها، فهي موظفة في أحد المصارف، تحب عملها وتتفانى فيه، لكن شيئاً ما يقلقها، ومضة تبرق في سرها بخفاء، تلك الهمسة التي لا تلبث أن تفارقها ثم تعود إلى ذاكرتها كعزف جميل، ذلك الشاب الوسيم الذي يقف بسيارته دائماً جنباً إلى جنب سيارتها كأنهما متفقان على وعد وميثاق، المكان نفسه، الزمان نفسه، وكل يوم.. مركبتان تقتربان في خط ليس له آخر، نقطة التقاء لنهاية مبهمة، إنه في انتظارها يترقب الوقت هكذا يخيّل لها، ولا يفارق مكانه حتى تأتي ليهمس في أذنيها همساً دافئاً ((صباح الخير!)) نظراته الولهى لا تفارق عينيها بل تأتيها دائماً بمعانٍ كثيرة، تحتار في أمره وتقلقها تطلعاته الشاردة لكنها سرعان ما تطرد هذه الوساوس لتستقر، عرفت أنه موظف في أحد أقسام المصرف الذي تعمل فيه كانت ترد تحياته الصباحية بابتسامة متصنعة لكن إحساساً بالانتشاء يبقى عالقاً في قلبها، لا تعرف سره أو ماهيته، وعند عودتها في الظهيرة تجده واقفاً يحدّق بها طويلاً ليتزود منها ما شاء له من تصورات كأنه يبحث في عينيها الحزينتين عن منفذ ليتسلل إلى أعماقها ويتصيد سكناتها، حتماً سيصل إلى مراده، ليجد نفسه شاخصاً في ذاتها، ماضياً في مشاعرها كالقدر المحتوم.
    بالأمس كانت تصده وتتوارى عنه متجاهلة كل فضوله. لكنها اليوم تبحث عن إطلالته وتستمرىء سحر تلك النظرات الهائمة، فغدت تتشوق إلى وقع أقدامه، لتبهره بأنوثتها، لتمنه إحساساً بالرضى، لكن الخوف يسري في دمها ويأسرها في أغلال وثيقة تشدها دوماً إلى بيتها وواقعها، وهكذا هي في إقبال وإدبار تارة تستعذب الهمسة وتارة أخرى تلفظها كالنغمة الناشزة تزعج سمعها فتبتهل إلى الله كي يسدد طريقها دوماً.
    تعود إلى بيتها هاربة من الشوق، عائدة من حلم يدغدغ إحساسها، تستحضر تلك العينين اللتين تثقبان سطوح قلبها المتراكمة بالجليد لتذيب شيئاً من الحواجز النفسية التي تقف يوماً في وجه آمالها العاطفية.
    يضمها ثانية هذا البيت البارد، تسكنه أشباح مخيفة تعصر فؤادها هماً وحزناً، تستشعر أن لأنوثتها دويّاً عميقاً يصرخ في صخب ويضج في رأسها كالصداع المزمن، ربما كانت هذه المشاعر مدفونة لسنين لكنها الآن استيقظت على نبضات لطيفة أحدثت في النفس عطشاً إلى الحب، تبحث عن جديد عن تلك الواحة الخضراء التي تستظل تحت ظلالها الوارفة كي تحمي نفسها من قسوة الرياح التي تهب على بيتها لتقتحم هدوءه وسكونه هذه الزوبعة المخيفة تصرخ في صدرها كصراخ طفل حبيس، صراع تكابده لتختار طريقاً يحميها من طغيان النفس وزلل السقوط.
    ستقفل هذا الباب بوجه الإعصار، ستحاول أن تكتم عاطفتها المتدفقة، هذا الثقب الصغير قد يتسع يوماً بعد آخر ليأكل كل شيء في كيانها وإحساسها، لن تغرق في التيه والشرود ولن تذوب في أحلام الضباب، فالرؤية الرمادية حجبت عنها نور الحقيقة لكنها تتحدى هجمة الحب الشرسة وتصارعها حتى تقف على أرض يابسة.
    لم يكن بدر يعلم ما يضج في صدر رحاب، يكفيه حالة الهدوء التي اصطبغت بها ملامحها حينما تحزن، ينكمش على نفسه خشية أن يفجر حواراً يثير زوبعة مزعجة آخر الليل! وإن كانت فرحة يستثمر قلبه هذه النغمة ويقطف براعم الحب من توهج إحساسها.
    التقيا ذات ليلة، ولم تكن رحاب تبدِ أي انفعال، قد أخرس الانتظار الطويل لسانها عن الثرثرة، وأضفى على عينيها إحساساً بالانكسار والاستسلام أعدت له العشاء صامتة تسللت إلى فراشها بوجه مكفهر، لم تكن هذه الليلة مقرفة كباقي الليالي، لأن هناك شيئاً عالقاً في قلبها تستحضره في لحظات سأمها وتبرمها، أمراً يسلي فؤادها ويطيب جرحها.
    اقترب منها بدر متذمراً:
    - أراكِ صامتة هذه الليلة؟
    سخرت هامسة:
    - أليس هذا أفضل؟
    تفرّسها بعينين حادتين:
    - وأين زينتك، لست أراكِ إلا شاحبة!
    تمددت على السرير وسحبت على وجهها الغطاء هاربة من تساؤلاته:
    - أنا متعبة جداً وأريد أن أنام، تصبح على خير.
    غضب وكاد أن يصرخ في وجهها لكنه تماسك وأشاح بوجهه عنها قائلاً:
    - تصبحين على خير.
    وفي ساعات الليل المتأخرة تستيقظ رحاب خائفة، تربكها أفكارها المتضاربة شيء في قلبها يزغرد لكنه يترك أثراً جارحاًن تفكر في حياتها، ففي لياليها الباردة وأيامها الموحشة، تتبرم من حالة الركود الطافية فوق سماء حياتها، إنها لن تفعل شيئاً، ستفكر بهذا البديل، وتذوب في عالمها الخاص، ستهرب إلى ذاتها مع رجل لم يكنّ لها إلا نظرات الحب والإعجاب، فهي لم تشعر بجمالها إلا في عينيه المتلهفتين اللتين تشعان بوميض دافىء لا تستطيع أن تتحرر من أسره، فبدت هذه الأيام أكثر نضارة ينبض وجهها بالدم والإشراقة، فعززت هذا الجمال أكثر من أي وقت مضى، وصارت تبحث عن المحلات التي تبيع أرقى الثياب وأغلى مساحيق التجميل لتفسر جسدها، لتشد إليها حبال الرغبة التي تضج في عيني هذا الرجل، أحست أن هناك قيمة أجمل من قيم الأخلاق، قيمة الإحساس بالذات والأهمية، وينفجر في قلبها ينبوع ماء جارف تحاول أن تتفادى سيله واندفاعه لأن سيله آثم ونبع الماء آسن وهو يتسلل إلى كل جزء من خلاياها كالفيروس، حتى تم ذلك التجاذب بصمت نطقت به عيون الرغبة وحدثت تلك الخفقة التي لا تتردد إلا في السر ولا تُهمس إلا في الخفاء لتنطلق مشاعرها الأسيرة في حالة من الترقب والتمني يعززها إهمال زوجها ورتابة حياتها، فللشيطان مبرراته وأحابيله!
    لقد أصبح طريقها هذا الصباح أجمل من ذي قبل، ووقفتها أمام المرآة أطول من الأمس، لم يعد ذلك السأم يهيمن على حياتها طالما هناك بعضاً من النسائم الباردة التي ترطب حياتها فتحيلها إلى ربيع مخضر، بيد أن تلك الوخزة النابضة ففي الوجدان تهدد تلك الفرحة وتغمرها في وحل العذاب، لكنها سرعان من تنفض تلك الخاطرة الشرسة بتبريرات تقنع بها العقل الغائب ليعود إلى شروده ونشوته.
    حاولت أن تهدهد حياتها بترنيمات خيالية وتجهد نفسها لتوازن بين مطالب الواجب ورغبة النفس المتوقدة بالحب.
    ستقبل على هذا الوعد برغبة جارفة قد أنهكتها المقاومة، تقدم إليها ذلك الشاب برودة حمراء يصف بها لوعة شوقه ولهفة حبه، ابتسم لها وأمعن في النظر إلى عينيها المسبلتين ليفهم أنها تستجيب وتذيب كل محاولات الصد. تأملها ملياً وهو يقول:
    - إن في عينيك كل الحنان الذي يبحث عنه الرجل.
    انفرطت على شفتيها كلمات معسولة، نابضة بالشوق ذائبة في الوجد
    - لقد أفقدتني كلماتك إحساسي بالواقع الذي أعيشه و...
    - لا تتكلمي أرجوكِ، إن ما في عينيكِ يعبر عن خلجاتك، دعيني أراكِ في مكان حالم، نسبح فيه حتى نغرق في حبنا..!
    انتفضت وبدت كالمأخوذة بالسحر
    - أرجوك لا تطلب مني ذلك.
    قدم إليها رقم هاتفة على قصاصة من ورق.
    - هذا رقمي كلميني... أنا في انتظارك دائماً!
    وبعد تردد وخوف أخذته، ثم انصرفت ومشاعر مضطربة تضطرم في كيانها..
    الفرحة، الخوف، الشعور بالذنب يدوّي في رأسها حتى حبس أنفاسها عن الاستقرار.
    ((فيصل)) اسم الرجل الذي أحبته، بل أعجبت به، لا تدري أيّ مشاعر تحملها ناحيته.
    ستتركه، ستحاول أن تفرمل عواطفها الجامحة، ستقفل هذا الباب المشؤوم، ماذا لو عرف زوجها؟! ماذا لو رآها أحدهم وألقى في قلب زوجها الشك والدمار. ستحدث كارثة.. لا.. لا لن أفعل ذلك ((بدر)) رجل محترم وقد أخلص لي لم يخني يوماً حتى أسيء إلى شرفه، لابد أن أصبر وأحتمل هذا العذاب حتى أحتفظ بأسرتي.
    هكذا تقنع رحاب نفسها، ثم تفكر والحزن يجثم فوق صدرها ((ماذا يريد مني فيصل؟! هل يحبني؟ وكيف يجرؤ على ذلك، ألا يعرف أني متزوجة وأم وإن فعلتي هذه ستلوث سمعتي وتحطم أسرتي، لا.. لن أتمادى في هذا الغي))
    طافت سحابة العقل في رأسها سريعاً لتحل محلها فورة الشوق، ورعشة القلب، واللهفة إلى سماع صوته، تهمس في سرّها ((سأحدثه كصديقة، كإنسان أستشيره في مشاكلي ليسلي وحدتي، ليبعث الأمل في نفسي الهامدة، لأحيا، لأجد المتنفس لأحزاني.
    فكرت طويلاً في هذا الأمر والشوق يعصر قلبها من الداخل، تلفتت هنا وهناك طافت في ردهات المنزل لتستوثق من سكونه وأمانه، حتى يتسنى لها مخاطبة ((فيصل)) بالهاتف والهلع يأخذها في متاهات وارتجافات تزعزع فكرها وتشتت نفسها.
    أقفلت عليها باب الغرفة، وراحت تدير القرص بأصابع مرتعشة وأنفاس آثمة لا تستطيع أن تشلها.
    وجاءها صوته هادئاً، ونبرة معسولة يقطر منها لعاب ملوث:
    - أهلاً رحاب!
    ارتجفت أوصالها وتلعثمت الكلمات على شفتيها
    - فيصل، كيف حالك؟
    تنهد متلهفاً
    - بخير طالما أنتِ بخير
    صمتا هنيهة، ثم أخذ يبث لواعجه:
    - لقد اشتقت إليكِ وأصبحت أسيراً لهواكِ، أفكر بكِ ليل نهار، لا يغمض لي جفن، أريد أن أراكِ أرجوكِ.
    وبدلال تجيب
    - لا أنت تراني كل يوم ولا داعي لأي لقاء آخر.
    وتذلل إليها كثيراً:
    - لي حديث خاص معكِ، وموقف السيارات لا يسعفني في التعبير عمّا في داخلي، أرجوكِ يا غاليتي، لا تردي لي طلبي، فأنا في أمس الحاجة إليكِ.
    قالت بعد شرود طويل:
    - وما آخر هذه العلاقة، لقد طافت الأيام والأشهر ونحن على هذا الحال.
    وبدا يستميلها أكثر
    - سنجد الحل، الحل الذي سيجمعنا معاً في عشٍ واحد، فأنا لا أطيق زوجتي وأنتِ على ما أظن لا تحبين زوجكِ، لابد لنا أن نستقر.
    انتابتها مشاعر مخيفة فأردفت على الفور:
    - أنا مستقرة مع زوجي وأفضّل أن تكون علاقتنا علاقة صداقة وزمالة فقط.
    استزاد من جرعاته العاطفية ليذيب ما تبقى من جليد:
    - أنتِ تغالطين نفسكِ، فأنتِ تحبينني وتودين العيش معي، لا أدري ما أقول لكِ ففي قلبي كلام كثير لا أستطيع الإفصاح عنه أخشى أن يضيع ويتبدد مع الأثير لأن ما أحمله لكِ شيء مقدس ورائع!
    سمعت رحاب طرق ولدها على الباب يبكي صائحاً:
    - ماما.. افتحي الباب.
    استبد بها الذعر، رمت السماعة في عجلة
    - مع السلامة الآن.
    هرولت كالهاربة إلى ولدها، احتضنته، قبلته لا تدري ما الذي أصابها، لكنها سرعان ما استعادت هدوءها وراحت تغرق في عالم الأحلام تستعيد كلمات فيصل، تحللها، تبحث عن معانيها، تفكر في أبعادها، حتى خالجها شعور بالانتشاء والفرح، فارتسمت البسمة على شفتيها، بسمة التفاؤل والأمل فأيامها الآن أروع من قبل فقد تبددت كآبتها لأن هناك من يعزف لحن الحب الجميل في درب حياتها الحالك السواد، لكن رغم كل ما تحس به من سرور إلا أن هناك شرخاً كبيراً بدا يتسع بقوة بينها وبين زوجها، لاحظ أنها بدت أفضل رغم شرودها وغيابها المباغت لكنها تتهرب من الالتصاق به أو الاقتراب منه، فقد صارت هذه المساحة المشتركة أشواكاً تدمي قلبها وتثير دهشته، ونزف عطائها تحوّل إلى أكذوبة مفتعلة فهي تجتهد لتكون امرأة طبيعية إلا أنها من حيث لا تدري تغرق في ذاتها وتسبح في فلكها الدوّار في محور واحد اسمه فيصل وفيصل فقط.
    حاولت أن تقاوم هذا التشتت وتبعد نفسها عن هذا التناقض الرهيب، فجسدها مع زوجها وروحها مع رجل آخر، تحوّلت الفرحة إلى صراع مزعج يقلق نفسها ويقض مضجعها، ووخز الضمير يلهب كيانها بسياط لا ترحم، اعتزلت الناس، تهربت من لقاءاتهم في المناسبات فقد استحوذت عليها الوحدة لتخلق حول نفسها سياجاً فاصلاً يبعدها عن الواقع واحتياجاته الاجتماعية، عقلها يرفض الانصياع إلى قلبها المحروم، وقلبها يتأجج ويخاصم عقلها في عراكٍ صامت تكاد صرخاته أن تمزّق هذه الجدران الصمّأء، فروحها تُقبل وتُدبر دون ثبات، هل تستشير أحداً في حكايتها اللعينة؟! وكيف تستطيع ذلك فإثمها فضيحة ترغمها قسراً على التزام الصمت حتى الموت.
    قررت أن تصده وترسم على وجهها انطباعاً جديّاً صارماً لينفر، قابلته بجفاء مزقت رقم هاتفه، ستحارب نفسها، ستقتل أمنياتها في المهد، ستمزّق قلبها ليتوب عن تلك الفعلة القذرة! ومرت أيام قاسية بطيئة، رتيبة، تشهد موقفها الثابت وقرارها الصارم، لكنها بدت عصبية، غاضبة، حانقة لم يعتد ولدها هذا التصرف القاسي من أمه، تهاجمها نوبات بكاء عنيفة ليلاً.
    قال لها زوجها في عطف وحنان:
    - ما رأيكِ لو نسافر إلى القاهرة لعدة أيام، ربما ترتاحين من عناء الضغوط!
    راقت لها الفكرة
    - أجل إنها فكرة رائعة.
    ربما السفر يسعفها في الثبات على قرارها.
    فكّرت أن تودعه، أن تحدثه في الهاتف لتعلن عن فرارها، لتفهم أن ما تفعله الآن هو عين الصواب.
    أدارت قرص الهاتف، حاولت أن تضفي بعضاً من الحديّة على لهجتها.
    - ألو فيصل.
    انتبه فيصل إلى صوتها المرتعش يتخذ صبغة جديدة ولوناً قاتماً.
    - أين أنتِ يا رحاب منذ متى لم أسمع صوتكِ؟
    ترددت في البوح عن ما في قلبها، صمتت، تلهفت لسماع صوته لكنها تماسكت.
    راح يستحثها على الكلام
    رحاب أرجوكِ تكلمي، إني مشتاق إليكِ!
    انفجرت باكية.
    أرجوك كف عن اللحاق بي، لا أريد أن تستمر هذه العلاقة.
    ذرفت الدموع.
    أحس بقوته، بهيمنته على حياتها فبدى يتودد أكثر بتخابث.
    عزيزتي رحاب تأكدي أن هذه الدموع أغلى عندي من روحي، لا أريد أن أراكِ حزينة.
    لكن، إن كان هذا القرار يريحكِ فلا بأس، سأنسحب من حياتك للأبد!
    صعقت، كأن مساً من الجنون قد أصابها، صرخت دون وعي:
    - لا.. لا تفعل
    ابتسم في ارتياح:
    - القرار قراركِ، افعلي ما ترينه مناسباً.
    ودعها وانصرف.
    شردت في تفكيرها، لقد أربك أحاسيسها من جديد وأثار شكوكها، وقد ندمت على هذا الاتصال لأنها قد قطعت شوطاً طويلاً في محاربة شيطانها حتى استطاع أن يتسلل إليها ثانية بحبل واهٍ.. عادت ثانية إلى دوامتها وحيرتها تمزقها الوساوس لقد تركها فيصل بسهولة، إنه لم يتمسك بها عندما قررت الابتعاد عنه، استثار غضبها، لكنها ستمضي في قرارها ولن تتردد!
    ولكن عندما يأتي المساء، تطل من شرفتها، تحدّق في السماء تناشد القمر، وتبعث إليه رسائل هيامها ولوعتها، يتحوّل صراعها إلى سكون مطبق يخيّم على روحها، تود لو تطيل وقفتها لعلّه يأتيها كالفارس يمتطي جواده الأبيض ويطير بها في سماء العاشقين ويراقصها برومانسية فوق إحدى الغيمات.
    أخذت نفساً عميقاً لكن نداء زوجها أيقظها من جديد
    - رحاب أريد التحدث إليكِ.
    عادت إليها بخطوات ثقيلة تجر أذيال عذابها ومرارتها.
    أقبلت متذمرة:
    - نعم، ماذا تريد أن تقول؟
    اقترب منها ليلمس خصلات شعرها:
    - بعد غد سنسافر على القاهرة.
    قدّم إليها تذاكر السفر.
    الآن ستتشفى من فيصل، وتكسر غروره، بالأمس كان يرتجيها لتقبل حبه، يتذلل إليها لتقبل دعوته وعندما قررت الابتعاد عنه، تركها دون إصرار فهو رجل انهزامي ضعيف، ينسحب أمام أول عقبة، لم يتأثر حينما بكت وهي تودع حبه.
    دهش بدر من شرود زوجته
    قال وهو يشدها من ذراعها
    - بماذا تفكرين؟
    نفضت الخاطر بارتباك
    - لقد راقت لي فكرة السفر لأنها علاج ناجح لمشكلتي في العمل!
    وكان السفر رحلة عذاب مضنية، فالبعد عن فيصل ذوّب روحها وأطال شرودها وغيابها، أحاطها بدر بأجواء رومانسية ليجدد دماء حبهما التي بردت لكنها تتذكر فيصل حينما تشم رائحة الورد تدغدغ إحساس الشوق في أوصالها، والحدائق الغنّاء تستثير عواطفها، تاهت في أحلامها كما لو كانت مراهقة صغيرة، ضاعت في دروب أحلامها الواهنة، ليس للأكل طعم، ولا لليل قمر كل الحياة صارت بلون واحد، قاتم، حالك السواد، تتململ، يضيق صدرها في الأماكن المتسعة والنزهات المفرحة، وينشرح قلبها في الوحدة والعزلة، حالة توحد قاتلة احتوتها حتى الذوبان في وجدها وعشقها بينما الهوة تتسع بينها وبين زوجها فضاق ذرعاً بعد أن حولت بسلبيتها كل اللحظات الرائعة إلى جمود وبرود خالٍ من أي انفعال أو تلاحم، فقد ضربت حولها جداراً سميكاً جعلها غير قادرة على تحطيمه انكفأ بدر على ذاته محتاراً متردداً لا يفهم سر هذا التغيرات التي تطرأ على زوجته إنما ترك للزمن فعلته في تبديد حالة الغياب التي تنتابا، قد تكون حالة طارئة ستشفى منها على مر الأيام، فلاذ بصمت يعزّي نفسه بمرح ولده وقفزاته الطفولية تشبع عاطفته ومحبته، فصبر،، وصبر.. بينما هي تجفل وتمتعض.. وانفصلا الزوجين إلى كيانين منعزلين، هرب كل منهما إلى ذاته وغرق في نفسه، بينما محسن الطفل الصغير أضحى نقطة ضائعة في بحر من الأوهام!
    عادت رحاب مع أسرتها إلى الوطن، تتفقد فيصل، تبحث عنه، فقد ندمت على صده، فحياتها دونه تحوّلت إلى قبر مقفر، غاية موحشة تحتاج فيها إلى نسمات رطبة تشحذ رغبتها في الحياة، اتصلت به، لكنه بدا بارداً، قاسياً بعض الشيء.
    ذعرت لم تعد تُطيق الوحشة في بُعده
    - فيصل إني متلهفة إليكِ، أرجوك، دعني أحدثك..
    صمتت، تذكرت وعدها وقرارها..
    لكنه أجاب بتخابث متخذاً بعض اللين في لهجته
    - أنتِ كل يوم في قرار! لقد تعذبت من اتصالك الأخير، تألمت من غيابك الطويل.
    هذه العلاقة مقفلة، تدور في حلقة فارغة، وأراكِ لا تعين ما تقولين، لكني أود أن أحسم الموقف لنسلك خطة ثابتة نسير عليها معاً، فأرجو أن أراكِ عن قرب.
    هذا هو قدرنا، أن نلتقي في منتصف الطريق ولا نستطيع أن نهرب من جلدنا!
    صمتت.. حدثت نفسها ثانية، همست بخوف
    - الأسبوع القادم أفضل، فزوجي سيسافر..
    اطمأن على الفور
    - الآن أريد أن أهنئكِ على سلامتكِ، فما رأيكِ لو نشرب العصير معاً في أحد المنتزهات.
    ترددت:
    - لا.. أنا خائفة
    - لا عليكِ سأتدبر الأمر بنفسي.
    انتهى حديثهما، لكن صراعها ازدادت حدته، وتلونت أفكارها بأطياف باهتة تنذرها بعهد مشؤوم.
    شربت قوتها، واستعاضت عن عقلها الراشد بقلبها العربيد اللاهث وراء طريق متعثر، وخطرت الخواطر الشرسة في رأسها، تريد أن تقتحم المجهول طولاً وعرضاً وتستسلم، فقد سئمت كل شيء، ألقت كل أسلحتها، لترتمي في هذا الوحل لتكتشفه لتذوق طعمه، كل شيء قد دفعها إلى هذا القرار، الزواج السيء، الاختيار المندفع، ستتمرد ستحطم كل هذه السدود التي حرمتها من طعم السعادة، ستنشط هذه المرة لتدفع عنها كل هذا السأم الذي استهلكها ودمّر أعصابها، فزوجها غائب عن البيت لا يفهم معاناتها التي تفوق قدرتها على الاحتمال... هذا الذي سلّمها إلى يد القدر تتلاعب بها كيفما تشاء، لو احتواها بشخصيته ، بحبه، بحنانه، لو تجرد من أنانيته وحبه الجارف إلى جمع المال، تركها لغربتها ووحدتها حتى أكلتها نار الشوق إلى هذا الرجل الغريب ورفعت راية الاستسلام والهزيمة.
    اتصلت به لتلقاه، قالت له بإصرار:
    - ألا تريد أن تلقاني؟!
    تنفس فيصل الصعداء وانطلقت أحاسيسه تزغرد في عنفوان
    - أجل أجل، اليوم الساعة الخامسة مساءً.
    - إلى اللقاء.
    ألقت السماعة في غيظ برغبة عنيفة في تحدي ذاتها، ففي عقلها يحترق الضمير ويموت الفكر، ستبعث الحياة إلى نفسها الجافة، ستشرب من معين الدنيا الصافي، ففي فرحتها سحر يسري في وجدانها يأخذها في شرود بعيد ونشوة غائبة عن الوعي.
    والتقته في كل شبر، في كل مكان، في كل زاوية من زوايا الكون، في الأماكن العامة احتملت اضطراب قلبها وسكرة عقلها، واستسلمت إلى نشوتها التي تتلهف إلى المزيد لترتوي حتى الثمُالة من كأس الخمر الذي امتزجت فيه مشاعر آثمة.
    ويكبر حبها يوماً بعد يوم، ويتوثق قلبها به أكثر من الأمس، لقد حسبت حساب كل شيء، وتحصنت من الناس بغطاء يخفي وجهها وعباءة تلف زينتها حتى تتوارى عن الأنظار.
    لكن الوساوس تعذبها، وشبح الخوف يطاردها ونظرة الارتياب المشوبة بالحذر تطفو في عينيها الخائفتين، أحس زوجها بهذه الخلجات الغريبة، حاول أن يتفهم هذا القلب المنكفىء على نفسه ليبدد هذا النشوز لكنها دوماً صادة متبرمة.
    فهي تسير في طريق مسدود معصوبة العينين تحركها رغبة شيطانية لا تستطيع أن تقدّر حجم الخسارة التي تنتظرها في نهاية المطاف، ففي داخلها إصرار مخيف على تحدي الموقف والانغماس فيه حتى النهاية، بدر هو السبب، هو المحرّك الوحيد لكل آلامي ومعاناتي! إنها تكرهه، تمقته، لا تطيقه، هو من خلق هذا الفراغ في قلبها المتعطش فاندفعت رغماً عنها إلى هذه الهاوية! هاوية إبليس.
    لا يهم ما يسميها الله! لكنها الجنة الموعودة بها!
    هل اكتفت بهذا القدر؟!
    فالذئب مازال يحوم حول فريسته، ولسانه الرطب الجميل يذيقها كل يوم معسول الكلام، فمهاراته العجيبة في صيد النساء فاقت غيره من الرجال، إذ استغل وسامته وجاذبيته لاجتذاب قلوبهن المشتعلة ولإثارة رغباتهن، ورحاب لا تعرف عنه سوى أنه رجل محترم، صورته لامعة في المصرف، هادىء، رزين، لم تستطع أن تتعمق فيه أو تبحر في كيانه لتفهم غاياته البعيدة، يكفيها حبه وحنانه، فقد سلب إرادتها وذوّب نفسها في بحر من السعادة فأصبحت الآن كالمأخوذة به تنصاع لهواه بانكسار، دعاها ذات يوم إلى لقاء خاص يضمهما عش صغير خفية، بعيداً عن عيون الغرباء ليعبّر لها عن خلجاته العميقة الصادقة، ارتعدت فرائصها، فهي دعوة جريئة أغضبتها ألهبت إحساسها بالخوف والقلق، قالت بعصبية:
    - لقد أخطأت يا فيصل بما فيه الكفاية، لم أعد أطيق ما هو أكثر من ذلك لأني سأحتقر نفسي.
    تمرد وكأنه إعصار غاضب فصرخ في وجهها:
    - بعد كل هذا الحب والحنان تشكّين في إخلاصي ووفائي، إذن فلنفترق الآن، واعتبري هذا اليوم هو نهاية حبنا!
    أغلق السماعة كما لو كان يطلق رصاصة قاتلة في صدرها، انفجرت باكية، يائسة تصارع همها قد جن جنونها وفقد إرادتها على اتخاذ قرار ثابت، لأنها تريده ملء إحساسها واندفاعها، وتود أن تبتعد عنه خشية أن يلحظ أحدهم هذه الكارثة فتتحطم حياتها، ففي قرارة نفسها تحب فيصل وتريد زوجها، وبيتها وولدها، لا ترغب في هدم هذا العش الجميل والثراء الذي تنعم به، بيد أن هناك إحساساً خفياً يشدها إلى فيصل كأنه يملك عصا سحرية تحركها كما لو كانت جناً من الجان، متبلدة، ساذجة، فاقدة الوعي، واهنة العقل، تنقاد إليه بإذلال، فقراره اليوم دمرها، قتلها، حوّل أيامها إلى كوابيس سوداء، ولياليها إلى خرابات مقفرة.
    راح يصدها، يتجاهل وجودها، يتنصل منها كما لو كان لا يعرفها، تهاتفه لكنه يتهرب منها، لقد اتخذ قراره ولن يحيد عنه! ترجوه أن يقبل هذا الوضع القليل، لكنه يصرّ أنها ملكه وحده، قد جنّد حياته من أجلها وترك كل نساء الأرض من أجل عينيها! فمن حقه أن يختلي بها فهي زوجته أمام الله ووعدها أنه لن يمس شرفها وكرامتها فحبه طاهر وشريف!
    وبقيت أياماً على هذا الحال تطارده تبحث عنه كاللاهثة وراء سراب يحسبه العطشان ماءً، تذللت إليه لترضيه، لقد عصفت بها الظنون والغيرة، لعلّه على علاقة بأخرى منحته ما عجزت هي أن تفعل، حتى سافر زوجها لعقد صفقة تجارية مع إحدى الشركات الأوروبية، ليتوحد فيها الشيطان فتمضي الليالي حتى الصباح تحدثه، تبثه لوعتها وعواطفها متوسلة إليه أن يعود لها فحياتها دونه لا تساوي شيئاً، وانهال عليها بسيل حبه الجارف، وسخطه من هذه الشكوك المزعومة.. متذرعاً بكبرياء الرجولة الذي يردعه عن قبول علاقة مبتورة.. وأوهمها بخشونته السادية حتى يلين قلبها ويسحق عقلها فترضخ له طيّعة هينة لينة وتتشكل على يديه كما يحب ويرضى لأنها خائفة أن يتركها ثانية، ((هذا الرجل قوي وشرس خشن لا يمكنها إلا أن تخضع له خضوع العبيد والجواري،!!!))
    وكان اللقاء في صباح أسود تلعنه ملائكة السماء، إذ تغيبت رحاب عن عملها متعللة بالمرض، فقد خرجت كعادتها اليومية الساعة السابعة صباحاً لتوهم الآخرين في بيتها أنها ماضية إلى عملها، لكنها تنعطف وبملء إرادتها إلى طريق آخر وبيدها قصاصة ورقة دونت فيها العنوان، وقفت أمام عمارة سكنية حيث الدور السادس شقة3، إنها تجربة مثيرة ومحنة صعبة، فصدى قلبها يكاد يصرخ من الذعر، كل ذرة في جسدها ترتعد، ترتجف، قلبها يخفق بهلع، جف ريقها، بلغت روحها الحلقوم، ستنسحب، ستعود أدراجها، ما هذا الذي جاءت تبحث عنه؟!! لكنه سيتركها إن لم تفعل، تذكرت وحشة الليالي الباردة، طافت الخيالات في رأسها هذا الرجل قاس، شرس، ما الذي يدفعها إلى هذه الخطيئة.. ستنجو بنفسها من براثن الشيطان، ستسحق رغبتها، خشيت من قراره من استبداده برأيه، فهو الآن بانتظارها وإن تراجعت سيُجن جنونه وستخسر حبه للأبد، انتبهت إلى صورة المصعد الكهربائي خشيت أن يراها أحد وهي في هذا الوضع المشبوه، ستحسم موقفها حتى النهاية، ما هي إلا لحظات قصار حتى وجدت نفسها كالعصفورة ترتجف بين يديه.
    فينغلق الباب وتذوب في هذه البؤرة الفاسدة كل القيم والمبادىء والحواجز الشرعية ليغرقا في ملذات شيطانية رخيصة، ومتعة آثمة ستبقى وصمة عار في جبين هذه المرأة للأبد، فتلوثت وتبدد معنى العفة والطهارة لتخط الملائكة على جبينها سخط الله ولعنته الدائمة عليها.. فخلف هذا الباب المؤصد تسكن حكاية كئيبة يزغرد لها إبليس طرباً.
    تخرج رحاب شاحبة، سامدة، بعد أن سقط شرفها وذبحت عفتها على بلاط الشيطان، كرهت نفسها الضعيفة التي تسولت المتعة من ذلك الذئب الذي تربص بها الدوائر حتى نال منها بسهولة فجاءت إليها باختيارها وقرارها وإرادتها، بدت محطمة مكسورة كالزجاج المهشم يطحنها الندم ووخز الضمير.
    هل هذه هي النهاية؟! فعندما انتهى كل شيء ابتسم في برود وفي أعماقه يقهقه حيوان شرس، ونفس مريضة، لم يقل إلا جملة واحدة ((انهضي قبل أن يرانا أحدهم فهذه شقة أحد الأصدقاء، أخشى أن يفتضح أمرنا!)) تود لو تمزّق وجهه وتهشم رأسه، نكست رأسها خجلة، مازالت تحتمل كل هذه الإهانات فقد بصق الشيطان في وجهها وأدار لها ظهره، أحس فيصل بلواعج نفسها فحاول أن يمتص غضبها في هذه اللحظة وعرف كيف يهدىء من روعها.
    ((أنا معكِ دائماً لا تخافي شيئاً، حبي سيحميكِ)).
    حدّقت به طويلاً كالمبهورة، بدا كالمعتاد على هذه الأفعال فلم يخالطه ندم أو يعذبه شعور بالذنب، فقد شرب الكأس كله حتى ثمل فتعطلت كل حواسه.
    صرخت رحاب، لطمت على وجهها متحسرة على لحظة ضعف أدخلتها في عالم مسحور هو ضرب من ضروب الخيال، لا تصدق ما فعلت..
    عادت إلى البيت مرهقة، قلقة، تتلفت في كل شبر خشية أن يترقبها أحد أو يرصد تحركاتها، ويتصيد زلاتها، هاجمتها الوساوس وألحقتها بطعنات سامة في القلب، بكت بمرارة وحُرقة، ندبت حظها العاثر وحياتها التي ضيعتها بأوهام وأحلام.
    اتصلت بفيصل ثانية لتستكشف ردود فعله بعد هذه الجريمة التي أسقطتهما معاً في هاوية الجحيم.
    كان ضجراً، متململاً، بدت لهجته جادة، باردة، قاسية، وإن حاول تغليفها ببعض المشاعر الرطبة، لكنها فهمت أنها حالة شبع، وأدركت أنه الآن قد امتص رحيق الزهرة لينتقل إلى أخرى.. لا يستطيع أن يقاسمها اللوعة والعذاب ثانية فقد انتفى الدافع الذي يشعل هذه المشاعر ويحرّك هذه العواطف.
    اعتذر عن الحديث معها لأنه مشغول.
    قالت له بتوسل:
    - فيصل أنا بحاجة إليك.
    قهقه طويلاً ثم أردف:
    - مرة أخرى؟!!
    - لا أقصد هذا!
    - على العموم أراكِ لاحقاً مع السلامة!
    اختلطت عليها الأمور وتلونت خيالاتها بأطياف الوهم والظنون واليأس، لا منفذ لها الآن إلا أن تزهق روحها، الشك، الوساوس، القلق، وحوش ضارية، تنقض عليها فتفتك بها، كلما التفتت إلى حياتها وجدت بيتاً خالياً، ميتاً لا تشمع له أصداء رجل يحميها من الزلل ويعصمها من الضياع.. شعرت أن الأرض التي تقف عليها مهزوزة، تدور بها كل يوم بمحنة، بلوعة فلا تجد من يشد أزرها فحياتها الآن صحراء جافة خالية من الروعة، تتكوم على سرها بخوف خشية الفضيحة، هناك من يطاردها ليل نهار ويقلق حياتها، حاولت أن تذوب في زوجها وولدها فلم تفلح، عاصفة من العذاب تهدد استقرارها، هذا الخيط الذي يشدها إلى فيصل، فرغم الخطأ تصرّ على الاتصال به والاحتيال على نفسها لتعود إليه، لكنه كره توسلاتها، قرف من دموعها، تبددت رغبته إنه اقتحم المستحيل ليحقق مأربه، فلم يعد في قلبه ناحيتها إلا الجفاء، تستغيث به ليبقى معها، لتسمع من لسانه المعسول عذب الكلمات، وجدته صاداً متبرماً، فلم يعد يقف في انتظارها كل صباح، تهرب من اتصالاتها الجنونية، بكت، ثرثرت لكنه أدار لها ظهره حتى سئم منها فصاح بها يوماً ((أليس لكِ كرامة يا امرأة)).
    صعقت، ذهلت، سمعت ما لم تكن تتوقعه، كل شيء يمكن احتماله في هذه الحياة إلا أن يرفضها ويلفظها كما يلفظ النواة، ويستنكرها باحتقار. فليخرس لسانها وتعف عن هذا الانحلال، ما هذا الذي تعيش فيه الآن؟! إنها دوامة إبليس اللعين تلفعها في كل جانب وهي مسلوبة الإرادة، فلتقفل هذا الموضوع، من يستطيع أن يحب امرأة رخيصة، كرامتها رخص التراب، سلّمت نفسها بكل سهولة. لن يحترمها أحد حتى الذي سقط معها في وحل الرذيلة، إنه أول من يبصق عليها ويحتقرها، الآن انكشف المستور وعرفت حقيقته عن قرب، لاذت بصمتها، تتنهد تلك الذكريات الأليمة بندم وحسرة تحجرت دموعها في مآقيها لفرط البكاء والنحيب خشيت أن تضم ولدها الصغير حتى لا يتلوث فهو كائن طاهر، أحست بفظاعة الجريمة التي دنست شرفها حتى ذوبها الحزن وامتص كل حيويتها، تبرم بدر من صمتها وذبولها ورفضها المستمر للحياة، حاول مساعدتها، لكنها كانت معرضة عنه لائمة، حاقدة كأنها في كل صرخة توجه إليه طعنة في صدره البارد الذي لم يتسع يوماً لضم أنوثتها في غيظ صاحت ((أنت السبب! أنت من قتلني.. أنت المجرم!)) ضربت وجهها دون وعي، ثارت ثائرتها، لكنه دُهش، ذُهل، ما الذي حصل لها؟! ما بها قد تركت وظيفتها لتركن إلى الوحدة الكئيبة.
    شدّها زوجها من ذراعها:
    - انهضي لأتحدث معكِ.
    لكنها لم تحتمل تُقل قدميها المشلولتين، سقطت على الأرض مغشياً عليها فتم نقلها إلى المستشفى، وبعد الفحص والمعاينة تبين أنها محاولة انتحار قد تناولت كمية كبيرة من الدواء لتخلص من حياتها، لكن الطبيب أنقذها على الفور فعادت إليها حياتها، عادت ثانية إلى عجزها وفشلها، تكتوي بنار حرمانها.. صارت كالمعلقة بين واقعها المشلول الذي لم يتغيّر فيه شيء يحسسها بأهميتها، ويشبع فضولها وبين ماضٍ يطاردها بلعناته وقساوته، لم يفلح بدر في تجديد دمائها.. إذ بقيت كالشيء المحنط في قبر من القبور.. تبلد كل شيء فيها حتى معالم وجهها الجميل قد تغيّرت فجفنيها المشدودين قد ارتخيا وانسدلا بانكسار وشفتيها تهدلتا بحزن بدت كالعجوز الشمطاء، تبقى في ثيابها لمدة طويلة لا تستحم، لا تأكل، لا تشرب، تتذكر تلك اللحظة التي حسمت فيها العلاقة ونفضت عن يديها كل غبار الحب المزيف، لكن ثمة هاتف في أعماقها يهمس سراً إنها لا زالت تحب فيصل، تريد أن تكرهه، تمقته وهي صادقة في عقلها، لكن قلبها الخائن يغدر بها ويوهمها أنها تسلك طريقاً معبداً بالسعادة.
    قرر زوجها أن يتصل بدكتور مختص في الاستشارات النفسية والاجتماعية ليتفهّم مشكلتها ويعيد إليها صوابها، لتعود ثانية امرأة كلها حيوية ونشاط تتعاطى مع الناس بحب وود، فهو يشتاق إلى نقارها الليلي عندما يتأخر يتلهف إلى رؤيتها وهي في انتظاره متزينة بأبهى زينة تخاصمه ووجهها غارق في النعاس، يتذكر بدر الأمس ويقارنه باليوم.. الآن أمامه امرأة محطمة، ميتة الشعور، هامدة الإحساس، لم يشكر نعمة الحب الذي منحته رحاب إليه بكل كيانها الآن يبكي إدبارها وإعراضها، لكنه سيحاول من جديد ترتيب الحياة في وضع أفضل لتبتسم له رحاب كما كانت تفعل رتّب بدر الأمر مع الدكتور، رسما معاً خطة ذكية لعلاجها، فقد دعاه إلى البيت ليتعرف عليها، ليخلق جواً من الارتياح بينها وبين الطبيب، وقد بدت أنها متجاوبة بعض الشيء، واجتمعا في شرفة المنزل ليتناولا الشاي، ويتجاذبان أطراف الحديث.
    تركهما بدر على أن ينضم إليهما لاحقاً.
    شرح لها الدكتور وضعه كاستشاري تلجأ إليه الكثيرات من النساء لحل مشاكلهن وتوجيههن الوجهة الصحيحة، ومهنته المقدسة تدفعه إلى احترام الناس ومعاناتهم وحفظ أسرارهم حتى عن أقرب الأقرباء، فلكل منا انعطاف قسري في حياته يجعله مشتت الفكر ضعيف الرؤية يحتاج إلى من ينّور دربه ويلملم شتات نفسه حتى ينهض من جديد.. فليس في الاستشارة ضعف أو جنون في الطرف الشاكي إنما هي رغبة حيوية في الإنسان لاجتياز المحنة.
    اطمأنت رحاب، لكنها شددت على الدكتور
    - أرجوك أن تحفظ سري عن زوجي.
    - تأكدي أن سرك في غياهب صدري وأنني لكِ الناصح الأمين.
    - إذن ماذا ستقول لزوجي.
    - هناك ألف حيلة وسبيل.
    - لكني خائفة لأن ما فعلته يحق لزوجي أن يقتلني بسببه.
    اطمئني
    قالت رحاب:
    - ماذا أقول لك يا دكتور؟ إن خجلي يمنعني من الحديث.. والإفضاء عن سر أو جريمة اقترفتها.. هل أبرر لنفسي.. لا أدري، لا أعرف، لقد أخطأت مع رجل ظننت أنه رجل حياتي الذي جاء من الغيب ليمنحني الحب والسعادة، إهمال زوجي وغيابه المستمر، برود عواطفه، أسباب دفعني إلى الخطيئة، لقد كانت رحلة طويلة من العذاب والشقاء، خضتها وأنا أتخبط، لدرجة أشعر فهيا الآن أني سأتعرض إلى غضب الله في أي لحظة، أخشى أن يعاقبني الله في ولدي، إنني مرتبكة يا دكتور، الإثم يحطمني ويدمرني، تارة أشعر بحب جارف تجاه هذا الرجل، وتارة أخرى أمقته وأكرهه.. تتضارب عندي المشاعر حتى أزهق من كل شيء، أتذمر حتى من ثيابي هذه، أنا محتارة في أمري هل أطلب الطلاق من زوجي لأرتاح، إنني كلما أتذكر هذه اللحظة أود أن أقتل نفسي، أحس أن في رأسي سكاكيناً ومطارق تجرحني تضربني تقطعني، لا شيء الآن في داخلي إلا السخط واليأس، كرهت زوجي وتمنيت له الموت، فهو الذي تركني فريسة لآلام الوحدة، أهملني كما لو كنت قطعة من الجماد خالية من الأحاسيس والمشاعر، لقد هجرته، لم أطق رؤية وجهه لعنتُ الساعة التي اضطررت فيها إلى الارتباط به... كم هو صعب أن تحتقر نفسك وتلوث كرامتك، حاولت أن أفرش سجادة الصلاة لكني خجلة، هل تُقبل صلاة الزانية، لقد سلبتُ طهارتي، كيف أقف بين يديّ الله وأنا ملطخة بعار الإثم والخطيئة، الماء لا يطهرني، الدم وحده هو الذي يطهرني، إن زوجي لا يعرف هذا الأمر، قلت له إنني مكتئبة من ضغوط العمل والبيت، زوجي يا دكتور شارد، سطحي لا يلحظ تغيراتي إلا بعد أن أتحطم، ففي داخلي شيء قد انكسر لا يمكن جبره وإصلاحه، ماذا يمكنني أن أفعل الآن، أرجوك يا دكتور ساعدني، فهذه المحنة التي أمر بها أفقدتني صوابي، عطلت أمومتي، كيف لي أن أمسح هذا الذنب الذي لوث حياتي ولطخ شرفي؟!!
    بكت كما لم تبكِ من قبل.. بكت من الألم، بكت وكأنها تنازع جرحاً مزمناً، بكت بحشرجات متوجعة..
    قال الدكتور مُشفقاً عليها:
    - إبكي يا رحاب، لتغسلي بدموعكِ الصافية هذا الذنب، إنها عنوان توبتك ودليل أوبتك إلى الصواب فالإنسان في هذه الحياة معرّض للخطأ، وعلى هذا الأساس لابد أن يدرك مجاله الحيوي حتى يستطيع العيش بسلام ويحيا بأمان.
    - وما تقصد بالمجال الحيوي يا دكتور؟
    - مجال الإنسان هو الذي يتكون من ذاتك ومن بيئتك النفسية والعالم الخارجي الذي تعيشين فيه، وتعتمد الصحة النفسية عند أي إنسان على أداء الوظائف التي يفرضها عليه المجال الحيوي والمتمثلة في تلقي المثيرات والاستجابات لها، فالإنسان المريض هو الذي يعاني اضطراباً ما في الوظيفة الناتجة عن خلل ما إما في الجدران الفاصلة أو في أحد مكونات المجال الحيوي، وكذلك الشخص غير القادر على أداء الاستجابة الناتجة عن المثيرات المنبعثة من العالم الخارجي، إذ لا يمكنه أن يتوافق مع ذلك العالم وبالتالي لا يمكنه أن يتمتع بالهدوء النفسي.
    - أرجوك أن تفصح أكثر يا دكتور إنني لا أفهم ماذا تقصد؟
    - يا رحاب، إن شعورك بالإحباط المتكرر نتيجة ما تفكرين به واتجاهاتك نحو العالم الخارجي سيترك آثار سلبية مؤلمة تفقدك الثقة بنفسكِ وبالمحيطين من حولكِ، وهنا إما تثورين على الواقع أو تعتزلين أو تهربين بعيداً عن المجتمع.
    رحاب وهي تسأل قلقة:
    - ولكن يا دكتور إن الذي فعلته سيجعلني أعتزل أو أهرب بعيداً عن المجتمع فأنا أشعر بالإحباط، بالتبرم وكثيراً ما تراودني فكرة التخلص من حياتي.
    الدكتور:
    إن فكرة التخلص من حياتكِ فكرة أتت من تصدّع الأنا لديكِ، فأناكِ يا رحاب متصدعة نتيجة ما تشعرين به من ذنب وإحباطات ومشاعر سلبية وعليكِ أن تفكري جيداً بأن الذي خلق الحياة هو الذي يسترد الحياة، وعليكِ التوجه الصادق وبعقد النية الصادقة وبالتوبة إلى الله سبحانه فهو يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يُشرك به، ولكن عليكِ أن تفهمي نفسكِ جيداً والناس من حولكِ أيضاً فقد تأتيك فكرة الهروب من الواقع الذي تعيشين فيه، أقصد حياتك الزوجية تجاهلي هذا الأمر وابحثي عن نقاط القوة والطاقة التي تشغل فراغكِ ستجدينها جميلة في منزلك واهتمي بحياتك الزوجية.
    قالت بعد شرود طويل:
    - وكيف أهتم بذلك وحياتي الزوجية مهددة ومفككة.
    الدكتور:
    إن أراد الإنسان الإبداع يُبدع ويرى صنع يديه أمامه، فهذه امرأة عندما أحست بالفراغ رأت أنها تلون الأطباق الفخارية بالألوان الجميلة، وبعد انتهائها من ذلك شاهد زوجها هذا الأمر وتعجب فقال بأعلى صوته: لماذا كل هذا الصرف والتبذير في الأموال، ما حاجتنا إلى هذا كله.. صمتت المرأة لفترة زمنية معينة وإذا بها تقول له لا تقلق يا عزيزي فأنا الذي صنعت ذلك. فأدرك زوجها أن زوجته بارعة تستحق التقدير والاحترام فتحركت مشاعره وأحاسيسه اتجاهها ولاطفها ملاطفة لم تشعر بها من قبل وهذا ما قصدت به فهم الشخص لذاته ولبيئته النفسية والعالم الخارجي من حوله.
    قالت رحاب:
    - نعم.. إنني مقصّرة في هذا الجانب وغالباً ما أفكر في نفسي، في مشاعري فقط، وهذا ما يدفعني إلى التفكير خارج نطاق نفسي والبحث عن أحد يفهمني، ولكن كان عليَّ أن أفهم نفسي أولاً، وأن أبرز الطاقات التي بداخلها.
    الدكتور:
    - نعم يا رحاب يمكنكِ أن تغيّري من اتجاهاتك وأسلوبكِ عندما تغيرين من تفكيرك السلبي، وإعطاء عقلك الباطن إيحاءات إيجابية كإبراز الطاقات الموجودة في نفسكِِ، وأنكِ شخصية متزنة، مُبدعة، تستطيعين أن تشبعي الفراغ الذي من حولكِ بكثير من ألوان النشاطات المختلفة وعندما يأتيكِ أي فكر سلبي ستشعرين بالقوة والثقة ولا تبالي!
    رحاب:
    سأعمل على ذلك يا دكتور لأنني فهمت أن الإنسان غافل عن كثير من الأمور في حياته وعليه أن يدرك أن الحياة مليئة بالجوانب الإيجابية كما هي مليئة بالجوانب السلبية، وهو الوحيد الذي ينقذ نفسه عندما يستبصر بنفسه وبمن حوله.
    ومضى يحدثها الدكتور بشيء من الاطمئنان:
    - اعلمي يا رحاب أن تحقيق السعادة الدنيوية لا يتأتى إلا بالتفاعل الدينامي السوي لمكونات الفرد النفسية، فإذا كان العالم الخارجي الذي يحيا فيه الإنسان يتحلى بالأخلاق الحميدة والفضائل التربوية كالحب والمودة، وحسن المعاشرة وحسن الجوار والإيثار والتضحية والكلمة الطيبة، كم من كلمة طيبة ترفع إنسان إلى أعلى عليين، وكم من كلمة سيئة تنزله إلى أسفل السافلين، فإن الجدار الفاصل بين بيئة الإنسان النفسية وبيئته الخارجية يُنفذ كل ما ينشأ الراحة والطمأنينة والهدوء النفسي، عندها ستتأثر صفحة العقل أو خلايا الإنسان بهذه الجوانب فيشعر بالسعادة ويعمل الخير.
    صمتت رحاب هنيهة ثم قال بعد استغراق في التفكير
    - وهل يمكنني التخلص مما أنا فيه، وبعد الذي فعلته؟
    الدكتور:
    نعم يمكنكِ التخلص من نوازعكِ المضطربة عندما تفهمين إمكاناتك ونفسيتك والوضع الذي تعيشين فيه، فأول الأمور التوبة وصدق النية في تحقيق ذلك، ثم العمل على ملء الفراغ، وتفهم نفسيتكِ، واحتياجاتكِ ولأنه بدون التوبة الصادقة وعقد النية على ذلك لا تستطيعين أن تنفذي إلى جداركِ الشخصي كي تبعثي الطمأنينة والهدوء إلى ذاتكِ، لأن الأنا بحاجة إلى ذلك.
    سألت رحاب والقلق يساورها:
    - وإذا أتاني هذا الشعور السلبي مرة أخرى؟ وإذا هجمت عليَّ الوساوس؟!
    الدكتور:
    عليكِ بالاستمرار بما عقدتيه من عمل فيه خير اتجاه نفسك، والناس من حولك وتجاهلي كل ما هو سلبي، واستمري بالطاعات والاستغفار، واجعلي ذلك منهاجاًً لحياتكِ، عندها ستشعرين بالراحة والهدوء، والرغبة في العمل والنشاط من جديد.
    تنفست رحاب الصعداء، وكأنها لفظت هواءً فاسداً لتستعيض عنه بأنفاس نقية فمضت تشكر الدكتور بامتنان.
    - أشكرك يا دكتور على هذه الجلسة التي أشعرتني بأنني شخصية أخرى أمامها الكثير من عمل الخير.
    سأراكِ يا رحاب في عيادتي مرة أخرى، وأرجو أن تكتبي هذا السؤال.
    نهضت لتحضر القلم والقرطاس لتكتب وهي في دهشة.
    قال الدكتور:
    أجيبي على هذين السؤالين
    ((ما معنى الحياة؟ وما الذي يجب أن نفعله فيها؟
    سأقرأ ردكِ في اللقاء الثاني.
    انضم إليهما بدر، وقد لمس انبساط رحاب وشفافية ابتسامتها ونقاوة ضحكتها أحس أن هناك بعضاً من النور قد تسلل على جنبات روحها المظلمة.
    ودار حديثهم حول الحياة والتعاون بين الزوجين، وقد فهم بدر أن الدكتور يستحثه على فهم زوجته والاستحواذ على محبتها والتجاوز عن سقاطاتها..
    ودّعهما الدكتور منصرفاً وقد اطمأن أن رحاب ستلقاه وهي في حالٍ أفضل!
    ما معنى الحياة بالنسبة لكِ.
    وما الذي يجب أن نفعله فيها؟
    ذهبت رحاب لتفكر في العبارة فكانت في حيرة من أمرها، وبعد استغراق في التفكير
    قالت: إن الحياة بالنسبة لي تتمثل بما يلي:
    - أحب وأصادق من أشاء من الناس.
    - آكل ما أريد وأشرب ما أشتهي.
    - أتحدث مع من أريد.
    - أمتلك ما أريد.
    - أعمل العمل الذي يطرب عقلي وقلبي.
    فالحياة بهذه المعنى يا دكتور حلوة وجميلة أليس كذلك؟
    الدكتور: حسناً يا رحاب، لكن هذه نظرة مليئة الغريزية.
    رحاب: ماذا تقصد بالغريزية يا دكتور؟
    الدكتور: الغريزة هي تلك النوازع والحاجات التي أودعها الله عز وجل فينا لنشبعها على القدر المعقول، ولا نسرف في إشباعها وإلا تقودنا إلى حبائل الشيطان.
    يقول الله عز وجل: ((وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولَعِب وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)).
    لنأخذ مثالاً عن الحب والصداقة يا رحاب.
    الدكتور: ما هو مفهومك للحب والصداقة؟
    رحاب: الحب هو الميل إلى الشيء المرغوب.
    الدكتور: نعم، ولكن هذه أولى درجات المحبة، وإذا اشتدت الرغبة سميت وداً وإذا بلغت الحد سميت حباً، وهو أسمى درجات الإحساس النفسي.
    رحاب: إذن لا مانع يا دكتور أن أحب ما أريد، إذا كان ذلك يجد صدى طيباً في نفسي.
    الدكتور: نعم، ولكن قال الله تعالى: ((إن الشياطين لَيوحُونَ إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)) ((إن وعد الله حق فلا تغرَّنكم الحياة الدنيا ولا يغرّنكم بالله الغَرُور)).
    الإنسان يا رحاب يحب ويشتاق إلى كل ما هو جميل، ولكن الحب الذي يرقى إلى استحسان ورضا الله عز وجل هو أسمى وأفضل درجات الحب.
    كما يقول أحد الأدباء: الحب إشراقة الروح على الروح ومصافحة القلب مع القلب، ولن يجد الإنسان أفضل من العمل الصالح الذي يباركه الله عز وجل ويمقته الشيطان. ومن الأعمال الصالحة هو ذلك الحب الذي يُسمى بالإيمان وهو معنى الإنسانية الكاملة والإسلام دين المحبة الصادقة، والأخوة الدائمة، لا يعجبه أي لون مشوه من الحب، أي حب الشهوة الوضيعة والغايات السافلة.
    والحب يا رحاب هو الصلة الأولى بين العبد وربه، وهو العلاقة المتينة بين الإنسان ودينه، ومن حب الشيء حب جميع آثاره، وما حب الإنسان لدينه إلا لأنه الطريق الذي يصل به إلى السعادة والوسيلة التي تضمن له الفوز بالخير الأعلى.
    قال الله تعالى:
    ((من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)).
    ويحب الإنسان أباه لأنه سبب وجوده وهو المتكفل بتربيته.
    يقول الإمام علي بن الحسين u :
    ((اعلم أن أمك حملتك يوم لا يحتمل أحداً أحداً، واعلم أن أبوك أصل الخلقة فيك)).
    ويحب الإنسان الصداقة، لأن الصديق المؤمن أخوه ومثيله في الحقوق ونظيره في استحقاق السعادة.
    الحب يا رحاب هو العلاقة بين المتحابين، إذا أقيمت على هذا الأساس تحطمت دونها كل غاية وسهلت في سبيلها كل وسيلة، وكانت متعادلة بينهما، فيحس أحدهما لصاحبه بما يحس به الآخر لأنه صلة بين نفسين وبين عقلين.
    أما حب الشهوة ((الغريزة)) فلا تكون له هذه الخاصية لأنه صلة بين غريزة وجسد، والجسد لا يحس بما يحس به القلب.
    كما أن حب الصديق لكماله يا رحاب أكبر لذة وأكثر اتصالاً وبقاءً لأنها لذة عقلية والقوة العقلية أكبر لذة لأنها أقوى إدراكاً وأسمى غاية.
    إن القلوب يا رحاب مجتمعة على حب الكمال مهما طال الزمان، فالذي يحب عنترة لشجاعته، أو يحب حاتماً لجوده لم يحبهما لغرض يرجع إلى قوة الغضب أو إلى قوة الشهوة، ولكنه يحبهما لأنهما متصفان بصفتين من صفات الكمال. أما الصداقة يا رحاب فهي مادة من مواد الأخلاق، والصديق صورة ترسم للإنسان مستقبله وتحدد له سعادته وكماله
    قال الشاعر:
    عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
    إن الإنسان يحيا وتنشأ معه غريزة التأسي وحب التقليد، وهو يعلل بهذا كثيراً من أفعاله، ولذلك يرتكب الإنسان الأفعال السيئة لأن نظيره قد ارتكب مثلها أو أشد منها. ويعمل الإنسان الخير والإحسان لأن أمثاله يعملون ذلك.
    إذن من الجدير يا رحاب أن تختاري صديقة مخلصة لكِ، لأنه باختيارك هذه الصداقة تختارين مادة أخلاقك وتضعين رسماً لمستقبلك وحداً لسعادتك.
    يقول الإمام الصادق u ك
    ((لا خير في صحبة من لم يَرَ لكَ مثل الذي يرى لنفسه))
    ((وإياكَ ومخالطة السفالة فإن السفلة لا تؤدي إلى الخير)).
    كانت نظرات رحاب مليئة بالفخر والاعتزاز لأنها شعرت بأن الذي ذكره هو الذي يرسم لها طريقاً آخر ترى فيه الحياة من زاوية أخرى كلها عملاً دؤوب ونشاط متدفق، وقفت تودع الدكتور وبشر وجهها ينضح نوراً وتألقاً..
    استردت رحاب بعضاً من عافيتها وحيوية تفكيرها، وصممت على طرد هذه الأوهام التي زيفت لها الحقيقة، تذكرت فيصل وأحابيله، ولامت نفسها على هذا الهوان، لكنها الآن متفائلة بالله، سعيدة برحمته عز وجل في مد يد العون والغفران لها، ثمة إشراقة تنبثق أمام عينيها وسط هذه الظلمة ستمسك بها وتتبع أثرها حتى تصل إلى بر الأمان ما أروع نور الإيمان حينما يتفجّر كالنبع الصافي في خلايا النفس الميتة يسقيها جمالاً وبهاءً، عادت إلى بيتها وتوضأت ثم فرشت سجادة الصلاة وتوجهت صادقة بجوارحها وجوانحها مستسلمة بكل خشوع إلى الله مبتهلة أن يغفر لها زلتها ويتوب عليها.. بكت أنهاراً من الدموع وتحشرجت كلمات الاستغفار في حلقومها حتى كادت الشهقات أن تسلخ روحها من جديد وتقشع عن عينيها غمامات البلادة والسذاجة، فدمها الآن يتجدد وعروقها تُضيء بومضات رحمانية لم تستشعرها من قبل، بالأمس كان لصلاتها طعم باهت لا تترك في روحها أثر مضيئاً، لكنها اليوم وبفضل ثقتها بالله ترتوي بماء الإيمان وتستغيث داعية بخشوع، بقلب كسير، بعينين ذوبتهما دموع الابتهال، بجوارح ترتعش إجلالاً وإكباراً لله، يئن صوتها وهي تصرخ وشفتاها الذابلتان قد مزقهما الألم وسط هذا الليل البهيم، حيث الناس نيام.
    ((أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي معتذراً، نادماً منكسراً مستقيلاً مستغفراً، منيباً، مقراً، مذعناً، معترفاً، لا أجد مفراً مما كان مني، ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري، غير قبولك عذري، وإدخالِكَ إيّاي في سعةٍ من رحمتك، إلهي فاقبل عذري، وارحم شدة ضرّي وفكّني من شد وثاقي يا رب ارحم ضعف بدني ورقة جلدي ودقة عظمي، يا من بدأ خلقي وذكري وتربيتي وبرّي وتغذيتي ..........
    خرت رحاب على الأرض باكية، متضرعة، مبتهلة إلى الله سبحانه أن يغفر لها ذنبها، ويصفح عن إثمها، وتمنت لو تطول مخالبها لتمزّق هذا الشر، لتشوه وجه هذا الذئب الذي تسلل إلى حياتها ونهش في روحها حتى استطاع أن يذيقها معسول الكلام ويسقيها من نبع الحب الآسن الذي لا ينمو في إلا الطفيليات والحشرات، أدركت أن كل من يقترب من امرأة متزوجة ويطرب سمعها بحلو الغزل ما هو إلا ذئب شرس، رجل لا يعرف معنى للشرف أو الكرامة، خالياً من معنى الرجولة والشهامة، جرثومة سامة تفكك رباط أسرة آمنة، باسم العاطفة والحب، تذكرت كلمات الدكتور وهو يصف الحب الحقيقي الذي يُبنى على أسس يرضى عليها رب العباد ويباركها برحمته، هؤلاء الأشخاص أمراض مزمنة تفتك بالمجتمع وتسلب النساء المحترمات عفافهن وطهارتهن، ولا تنساق وراءهم إلا الفارغات من الدين، التافهات، اللاتي ترك الوقت الطويل فيهن بؤرة تنمو فيها كل المفاسد.
    اليوم، يمتلىء قبل رحاب بالإيمان والحب، فقرأت في بعض المجلات عن نجمات سينما شهيرات بالجمال والفتنة تركن بريق المجد وتحجبن وهن في ذروة شبابهن وأنوثتهن قد اتخذن من طريق الله نهجاً، وبعضهن تخصّص في تفسير القرآن، وتدريسه، تأثرت رحاب بموجة التدين التي برزت في مجتمع النجوم والشهيرات، وتأملت نفسها ملياً، فهي لا تحظى بجمالهن وشهرتهن الطاغية، وتصر دوماً على التبرج والظهور وهي في كامل زينتها وجمالها لشد أنظار الرجال إليها، قررت وجمالها لشد أنظار الرجال إليها، قررت أن ترتدي الحجاب بعد تفكير عميق ومحاولات جادة في إقناع نفسها وترددها المستمر على الدكتور ليستحثها على الالتزام بطريق الإيمان لأن فيه الخير والصلاح وتحجبت بعد أن اطمأن قلبها، وانشرح صدرها وأحست أن الإيمان الحقيقي كالبلسم يشفي جروح السالكين إليه سبحانه، ثم أدت فريضة الحج لهذا العام.. واستكانت أعماقها، وخفقت جنحة السلام والوئام في سماء عشها، إنها الآن امرأة أخرى، تنضح نوراً، تتدفق حيوية، تثق بنفسها وتطمئن لقراراتها لأنها مستمدة من روح الله عز وجل، قدمت استقالتها من المصرف الذي تعمل فيه لتنتقل إلى وظيفة أخرى تحرص على من خلالها الابتعاد عن أجواء الرجال ثم اتخذت لها صديقة طيبة تعرفت عليها مجدداً تقضي معها أوقاتاً رائعة تمضيان معاً إلى نزهات على الشاطىء أو الحدائق العامة في رفقة الأطفال، اشترت مجموعة جديدة من الكتب والقصص لتقرأها في الليالي التي تنتظر فيها زوجها... انقلبت حياتها رأساً على عقب، البهجة تشعّ الآن في أجوائها كالخدر الجميل الذي يسري في العروق.
    صار لحياتها هدف، ولطريقها خطوات ثابتة ومتزنة، ما أروع الانتظام في السير فدرب السلامة يقينا عثرات الزمان وعقبات الدهر حينما نتسلح بالقيم السامية ونحتاط بدرع الفضيلة والأخلاق، نسخر من هذه الهفوات ونحتويها بثقة حتى تتوهج أرواحنا بمباهج روحية أورع من لذات الحس المادية التي تورث الحسرة والندامة.
    وحدث ما هزَّ كيانها وألهب وجدانها إيماناً وعظمة بلطف الله وقدرته على البطش بعباده وانتزاعه النعم من بين أيديهم طالما هم جاحدون لنعمته ناكرون لفضله عابثون بعباده..
    ذات يوم مرض ولدها، ارتفعت حرارته حملته بسرعة متجهة إلى مستشفى العاصمة فحص الطبيب ولدها. قال حالته طبيعية جداً، حقنه فانخفضت حرارته ، وبينما هي في طريقها خارج المشفى انتبهت الى الضجة حول سيارة الإسعاف، شدّها الأمر المروّع، رجل يصرخ خلف طفلة صغيرة محمولة على نقّالة،قد تضرجت بدمائها .. انقبض صدرها، هذا الصوت ليس بغريب عنها، اقتربت أكثر ,حدسها يخطىء.. تسمّرت في مكانها، وصعق الرجل لما رآها فقد جمعهما القدر صدفة لتشهد العبرة كما اتفقت عليه نواميس انه فيصل بدمه ولحمه قد خبطت السيارة ابنته الوحيدة... لأول مرة تراه كسيراً، محطماً، كطير ذبيح، ترتجف فرائصه، ارتعب.. تجاهلها ومضى مع ابنته إلى قسم الحوادث، وهناك قامت الدنيا ولم تقعد يفحص الطبيب قلب الصغيرة.. وتنهداتها المودعة، وقدرها المدبر.. حاولت ثلة الممرضات مع الطبيب تدارك الأمر، لكن حكم الله قد نفذ، فالطفلة قد فارقت الحياة، يتأسف الطبيب، ويعتذر لوالدها، فأمر الله سبحانه ماضٍ فينا.. خفق قلب فيصل وهو يشهد غياب وحيدته عن الدنيا في لحظات.. انتكس.. كاد أن يسقط على الأرض.. يتشبث بالحيطان كي لا تخور قواه... وكانت إحدى فريساته ((رحاب)) تقف أمامه وجهاً لوجه تحدّق به طويلا، وجسدها يرتعش، تكاد لا تصدق أن الله سبحانه قد غلب بإرادته عبده المتجبر الذي لعب بأعراض الناس وقهر بالموت كل من تنكر لحكمه وهيمنته، رأته أمامها ذليلاً، خاضعاً يجر أذيال الحسرة والخيبة.
    رفع رأسه إليها بخجل وهو يقول ((أتقفين الآن شامتة!))
    استطردت بنبرة مطمئنة ((ليس في الموت شماتة، ولكنه عبرة لأولي الألباب لتعرف أن يد الله سبحانه طويلة وحكم الدنيا قبل حكم الآخرة، وأنك الآن تقطف ثمار ما جنيته في حق الأسر الآمنة والأعراض الذبيحة، فابنتك هي أمانة الله سبحانه قد استردها إلى حضرته، لأنكلم تصن الأمانه!)).
    شعر فيصل بكلماتها النارية تلهب مسامعه، وتسحق كبرياءه، وتحطم رجولته...
    خرجت من المشفى وقد تعافى ولدها، وشكرت الله سبحانه أن شهدت بأم عينيها القصاص الرباني العادل.
    ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب))!

    رابط الموضوع الأصلي حفاظاً لحقوق الناشر
    http://www.khawlaalqazwini.com/Excit...l.aspx?aid=108
    خولة القزويني

  2. #2
    من اهل الدار
    ادارية سابقة
    تاريخ التسجيل: November-2012
    الدولة: بغــــــــــــــداد
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 48,535 المواضيع: 8,156
    صوتيات: 85 سوالف عراقية: 13
    التقييم: 23426
    مزاجي: صامته.. و لم اعد ابالي
    المهنة: مصورة شعاعية
    أكلتي المفضلة: شوربة عدس .. وعشقي لليمون
    آخر نشاط: 1/June/2024
    مقالات المدونة: 206
    شكرا لك

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال