الذي يتفق عليه المؤرخون أن القطيف أسلمت ضمن منطقة شرق الجزيرة (البحرين قديمًا) طوعا، وفي زمن صاحب الدعوة . أشرق نور الإسلام عليها حينما عاد وفد عبد القيس من زيارة للمدينة، ولقاء الرسول العظيم ، واسلموا على يديه [1] ، ونقل الدين الجديد إلى ربوع هذه المنطقة، فأشرقت النفوس بنوره، حتى إذا ما أرسل النبي رسوله إليها العلاء الحضرمي العام الثامن للهجرة وإلى رئيسها المنذر بن ساوى، ومرزبان هجر – على حد تعبير الحموي[2] يدعوهما، ومن قِبَلِهما، إلى الدين الجديد؛ وجدت الدعوة الطريق أمامها ممهدة، فاستجابت النفوس، طائعة من غير إكراه؛ حتى إنَّ من لم يرغب عن دينه دفع الجزية طائعا من غير إكراه.
فقد ذُكِر أنَّ أوَّلَ جمعة أقيمت على وجه البسيطة بعد المدينة كانت هنا، وفي جؤاثا [3] ، أحد تجمعات السكان في منطقة شرق الجزيرة. والقطيف عرفت الرسالة الجديدة؛ على ما أرادها لها رسول الانسانية محمد الإسلام، المتمثل في الكتاب العزيز، والعترة الطاهرة ، الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا، وهما الثِّقْلان الأكبر والأصغر.
ويرجع بعض المؤرخين تشيُّعَ المنطقة إلى تولِّي (أوَّلاً): أبَانَ بن سعيد بن العاص في عهد صاحب الرسالة ، وكان محبًّا لعلي وأهل بيته ، و(ثانيا): تولي عمرو بن سلمة، ربيب رسول الله في عهد الإمام علي ؛ فقد قام بنشر التشيع وحبِّ أهل البيت بالحديث عن مكانتهم السامقة التي أرادها لهم الله تعالى، والإشارة بتاكيد الرسول الأعظم على أن الخليفة من بعده علي في بيعة الغدير، إلى جانب الحديث عن فضائلهم في القران العزيز، والسنة الشريفة [4] .
والمؤرخون يعرفون للقطيف تشيعها منذ القدم، فهذا ابن الأثير يحكي قصة لا نعلم مدى صحتها، تتضمن ظروف نشوء القرامطة كحركة سياسية، وعسكرية كان لها في التاريخ شان كبير، فيقول:
(وكان ابتداء القرامطة بناحية البحرين أنَّ رجلا يعرف بيحيى بن المهدي قصد القطيف، فنزل على رجل يعرف بعلي بن المعلى بن حمدان مولى الزياديين، وكان مغاليا في التشيع، فأظهر له يحيى أنَّه رسول المهدي، وكان ذلك سنة 281 هـ، وذكر أنه خرج إلى شيعته في البلاد، ويدعوهم إلى أمره، وأن ظهوره قد قرب. فوجَّه علي بن المعلى إلى الشيعة من أهل القطيف، فجمعهم، وأقرأهم الكتاب الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهدي، فأجابوه، وأنهم خارجون معه، إذا أظهر أمره، ووجه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك فأجابوه، وكان فيمن أجابه أبو سعيد الجنابي، وكان يبيع للناس الطعام، ويحسب لهم بيعهم. ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي، ثم رجع ومعه كتاب يزعم أنه من المهدي إلى شيعته، فيه: قد عرفني رسولي يحيى بن المهدي مسارعتكم إلى أمري، فليدفع إليه كل رجل منكم ستة دنانير وثلثين ففعلوا ذلك، ثم غاب عنهم، وعاد ومعه كتاب فيه: أن ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم فدفعوا الخمس....) [5] .
ومن هذا الذي حكاه ابن الأثير – إن صحَّ ولم يكن الغرض منه إلصاق القرامطة بالشيعة للنيل منهم وهم براء – فنعلم شيئين:
أولهما: أن أهل القطيف شيعة اثناعشرية لاعتقادهم بالمهدي (عج) المنتظر الإمام الثاني عشر، وبغيبته.
ثانيهما: مدى تمسك أهل القطيف بتشيعهم، وتفانيهم في حب وولاء أئمتهم ، حتى إن محتالا مثل يحيى بن المهدي يبتزهم الأموال باسم المهدي المنتظر (عج)، وباسم الخمس.
وإذا انتقلنا إلى فترة أخرى من التاريخ، فإننا سنجد ابن بطوطة يصف تشيع القطيف، وتصلبهم في هذه العقيدة حتى إنهم يعلنون بالشهادة الثالثة: (أشهد أن عليا ولي الله) والحيعلة الثانية (حيي على خير العمل) [6] ، ولا يزال أهل القطيف شيعة اثني عشرية منذ صدر الإسلام، وحتى يومنا هذا، باستثناء بعض القبائل العربية التي هاجرت منذ قرون إلى المنطقة – حتمت عليها ذلك ظروف خاصة - وبعض هاجر طلبا للرزق كلهم سكنوا في مجمعات سكنية خاصة بهم في دارين وعنك وأم الساهك وأبو معن والنابية والجبيل... وفي المدن المستجدة مثل الدمام والخبر والشيعة مع كل هذا يشكلون الأغلبية الساحقة في هذه الواحة [7] .
كان تشيُّعُ القطيف بعد دخولها تحت الحكم السعودي بقيادة الملك الراحل عبد العزيز، واحدا من الأسباب التي ثار لأجلها زعماء منظمة الأخوان على الملك الراحل [8] ، باعتبار أنَّ المنظمة تتمثل تعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يرى الشيعة رافضة، والتشيع كفرا، فحاول علماء نجد التوفيق بين الملك وزعماء المنظمة، فأصدروا فتوى شهيرة، جاء فيها:
«وأما الرافضة: فأفتينا الإمام أن يلزمهم البيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل، وعلى الإمام، أيضا، أن يلزم نائبه على الأحساء أن يحضرهم عند الشيخ بن بشر، ويبايعوه على دين الله ورسوله وترك دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم، وعلى ترك سائر البدع من اجتماعهم على مآثمهم، وغيرها مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل، ويُمنعون من زيارة المشاهد، وكذلك يلزمون بالإجتماع على الصلوات الخمس، هم وغيرهم، في المساجد، ويرتب فيهم أئمة ومؤذنون ونواب من أهل السنة، ويلزمون بتعليم ثلاثة الأصول، وكذلك إن كان لهم محال مبنية لإقامة البدع تهدم، ويمنعون من إقامة البدع في المساجد وغيرها. ومن أبى قبول ذلك ينفى من بلاد المسلمين. وأمَّا الرافضة من أهل القطيف: فيلزم الإمام – أيَّده الله – الشيخ بن بشر أن يسافر ويلزمهم بما ذكرنا...» [9] .
وبصدور هذه الفتوى بدأت القطيف مرحلة من الضيق، فقد قدم الشيخ بن بشر إلى القطيف فكان له لقاء بالعلماء في الدرويشية، وتمثل موقع إمارة القطيف وأميرها بن سويلم حينها، وكان من أبرز هؤلاء العلمان الخنيزيَّان العلامة الشيخ علي أبو الحسن والشيخ علي أبو عبد الكريم (قدس الله سرهما)، والعلامة السيد ماجد العوَّامي، وجرى حديث صريح من قبل هؤلاء الأعلام حول أسس الاعتقاد لدى الشيعة، وأنه لا يجانب التوحيد الصحيح حسب فهم أهل البيت ، ففهم منهم ما لم يفهمه علماء نجد، وكان قدم معه أئمة لإقامة الجماعة من علماء نجد ليأمُّوا أهل القطيف في صلواتهم، وكانت فترة عصيبة أجبر الناس فيها على الحضور لأداء الصلواة بالإكراه.
ويبدو أن بن بشر عاد للرياض وقدم تقريره، بيد أنَّ العلماء النجديين لم يرضهم ذلك. فقد فرضت الجزية بعنوان الجهاد على أهل القطيف، وكانت على الفرد وعلى الدابة وعلى البيت وعلى الدكان، وانطلقت في تصاعد في مضاعفاتها مرة واثنتين، باع الناس مقتنايتهم الخاصة، وباع النساء مصوغاتهن دفعا عن أنفسهن وعن أزواجهن وأولادهن، ولعل حاجة الحكومة الناشئة للمال للإنفاق على المعارك التي يقودها الملك ضد كل من لم يدخل في الطاعة، أو يعلن العصيان، هو دافعه لفرض هذه الضرائب.
المقتدرون من أهل القطيف فرُّوا إلى البحرين، والضعفاء تواروا عن الأنظار خوفا من الملاحقة، ومن وقع في يد السلطات كلف بالعمل تسخيرا لقاء ما في ذمته.
إن وجود هذا العدد الكبير من أعيان القطيف في البحرين لم يكن خافيا، والبحرين حينها حاضرتها المنامة لا تملك إخفاء هذا العدد الكبير من المهاجرين، وحيث كان المتضرر الأكبر من تابعية القطيف للدولة السعودية هو عبد علي بن منصور باشا فجرى حديث للتدخل البريطاني إلاَّ أنَّ المندوب السامي البريطاني في البحرين طلب أن يعزز هذا الطلب بخطاب من الحجة أبي عبد الكريم الخنيزي (قد سره) ليتم هذا التدخل، وإدخال القطيف تحت التبعية البريطانية، إلاَّ أنَّ الشيخ، بحسه الوطني، رفض التبعية لبريطانيا، وأرسل، بذلك، خطابا للمندوب السامي، ويقال إنَّ هذا الخطاب وقع في يد الملك عبد العزيز فعرف له هذه الوطنية المتميزة.
ولعل بريطانيا، بعد هذا الرد من الشيخ الخنيزي، لم ترد تصعيد الموقف مع الملك عبد العزيز فأوعزت إلى أحد شيوخ الدواسر بالتدخل، وبدأ على أثر ذلك المهاجرون بالعودة، ولكنها بما يشبه المظاهرة تحدِّيا لابن سويلم أمير القطيف حينها، وتلاه ما يشبه العصيان المدني، وكانت العوامية وسيهات تتزعمان هذا العصيان، ولما علم الملك عبد العزيز بما حدث أرسل إلى زعماء القطيف وفدا يحمل هذا الخطاب:
«من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، إلى جناب الشيخ علي الخنيزي، والسيد ماجد والسيد حسين، وعبد الله بن نصر الله، وعبد الله بن راشد ومهدي الجشي، وحسن الشماسي، ومنصور الزائر، السلام، وبعد تلقينا خبر أهل العوَّامية، أظن أنا أن هذا دبور على أهل القطيف أو فسقة؛ لأن ممشاهم ها الزمان ممشى المغرور، ولكن من عادتنا التروي في الأمر، وأيضا ابن سويلم طلبنا في الأمر الفائت أن نتركه، والمسالة الأخيرة كثير كدرت خاطري، واهتميت بالفعل اللازم، وثبت عندي لو أن هالجهال فيهم خير كان سلكوا طريقتكم وأخذوا نصائحكم موجب أني أخبر سيرتكم مع الولاية، ونصحكم الذي ما يخفى علينا بموجب ذلك عمدنا الشيخ حافظ وهبة وفؤاد حمزة ومحمد العجاجي تنظرون أنتم وإياهم في المسالة؛ إن كان الأمر بغير الصورة التي توقعناها فانا مفوضهم في الأمر، وأنتم محل الروح لا بد تراجعون في الأمر الذي فيه صلاح الولاية والرعية، فإن كان الأمر غوغاء وبطر فدوا ذلك عندنا، ونعرفه إن شاء الله. المقصود أخبرت الجماعة يعجلون علي الخبر، غاية لأني على جناح سفر، وأيضا التحيز ما نحب نتمادى فيه، إذا ما كان له سنع احسموا المسالة أنتم وإيَّاهم بما فيه، إن شاء الله، صلاح للولاية، وستر لأهل القطيف، وإلا نعذر – وربما صحت الأبدان بالعلل – ولا يتحسف إلاَّ فاعل السوء هذا والسلام» [10] .
وبدا تحرك الزعماء سريعا فقاد هذا التحرك الحجة السيد ماجد العوامي (قدس سره)، ورئس وفدا للقاء الشيخ محمد النمر (قدس سره )، ولكن النفوس لا زالت مشحونة بالغضب، ورد الشيخ على السيد: «إن كنت تخاف على زوجتك فخذها معك إلى بيتك في القطيف»، واحترم السيد غضب الشيخ وتركه ليعاوده بعد أن يهدأ وتهدا الأمور.
وكان توجه السيد الثاني صوب سيهات فقوبل بوابل من الرصاص، ولعل سبب ذلك أنَّ السيد وصل سيهات بسيارة الإمارة، وفي اليوم الثاني اضطر حينها لإبراز عمامته، وتم استقبال السيد بما يجب وتمت معالجة الأمور بوعد من الزعماء بالمتابعة لإنهاء سبب الإحتكاك مع الدولة الناشئة.
والذي يبدو أن الزعماء اتفقوا على إرسال وفد لمقابلة الملك عبد العزيز للتفاوض معه فيما يهم أمر القطيف فوقع الإختيار على الوفد المكون من الحاج أحمد الخنيزي والحاج رضي العلقم والحاج محمد حسين الفرج، رحمهم الله، وبزعامة العلامة الشيخ منصور آل سيف (قدس سره).
وكانت المشكلة التي اعترضت هذا الوفد هو الالتفاف على أمير المنطقة الشرقية حينها بن جلوي لما عرف عنه من قسوة وجدية في تنفيذ الأوامر، فكان لا يقبل اعتذارا، أو تأخيرا عن الإمتثال لأوامر الدولة، وإنما يعتبره استخفافًا بالسلطة، وعدم طاعة الولاة، واتفق الجميع على الإبتعاد عن طريق الأحساء، مقر الإمارة وقتها، فلم يكن إلا السفر إلى البحرين، ومنها إلى بوبمي بالهند ثم إلى جدة بالباخرة برفقة الحجاج الهنود. بقي الوفد قرابة ستة أشهر فكانت مفاوضات شاقة بمنتهى الصراحة، والشفافية وطلب الوفد من الملك أن يقرر موقفه من أهل القطيف مسلمون هم أم كفار كما تراه الفتوى؟ وإلا فكيف تعتبرهم الدولة مسلمين، وتحاسبهم على زكواة أموالهم، وفي نفس الوقت تعتبرهم غير مسلمين وتأخذ عليهم الجزية؟
إن حنكة الملك عبد العزيز السياسية أنهت هذه المسألة، وأقر بأنَّ أهل القطيف مسلمون، لاسيما وهو يعلم أن دولة كبرى هي إيران لها ثقل في العالم الإسلامي والدولي دستورها ينص على أن التشيع مذهبها الرسمي، وحجاجها يفدون إلى المملكة بالآلاف لأداء مناسك الحج كل عام، عدا عن شيعة الهند والباكستان ولبنان، وهل يصح الحج لغير مسلم؟
وبدأت تباشير انقشاع هذه المعضلة الكبرى بالانفراج، وسلم الملك الشيخ منصور، والوفد المرافق له، رسالة مختومة لأمير الأحساء، ولكن الشيخ أبى استلامها إلاَّ مفتوحة، وقال قولته المشهورة إننا لسنا سعاة بريد، إنما نحن نمثل بلدا وضع ثقته فينا، فإمَّا أن نعلم ما في الخطاب وإلا فنحن باقون حتى ينتهي طلبنا، واستجاب الملك لموقفهم، وأقرأهم الكتاب، وكان فيه رفع كل أنواع ضريبة الجهاد، وطلبوه، أيضا، في الزكاة المتاخرة على الناس لسنين لم يدفعوها لضيق ذات اليد فاجابهم، وبذلك بدا الوفد رحلة العودة، وبرزت لهم المشكلة الأولى: المرور بالأحساء، فصمموا على سلوك طريق لا يمر بالأحساء.
استاجر الوفد دليلا من المرَّة، وهم أهل معرفة بطرق الصحراء، على أن لا يمر بهم بالأحساء، وانطلق الركب، ولكنه ضل الطريق، وكادوا أن يموتوا من الجوع والعطش، وما وصلوا إلى الجبيل إلاَّ بشق الأنفس، وكانت معاناتهم كبيرة جدًّا، فقد أنهكهم الجوع والمرض والتعب والسهر والخوف من الطريق وما فيه من وحوش ضارية.
وبوصولهم استُقبِلوا استقبالا حارًّا أنساهم طول عنائهم، واستلم الزعيم أبو عبد الكريم الخنيزي (قدس سره) الخطاب منهم، وأرفقه برسالة منه إلى الأمير بن جلوي، واعتذر فيه عن عدم مرور الوفد على الأحساء للظروف التي مروا بها أثناء عودتهم.
وبقي أهل القطيف جزءًا من هذا الوطن، يفدونه بأنفسهم وأموالهم، وانخرطوا في خدمته في أي موقع وعلى أكتافهم نشأت صناعة البترول في المنطقة الصناعة التي غيرت وجه المملكة، فكانت الدوائر المهمة للدولة فيها، كالمالية، والشرطة، والقضاء، وكان الشيخ أبو عبد الكريم الخنيزي قاضيا عاما للجميع كل ذلك قبل استحداث المدن الجديدة الدمام والخبر.